فيض الرحيم الرحمن في أحكام ومواعظ رمضان (القسم الثاني) الدرس الثامن والعشرون إلى نهاية القسم الثاني.

الجمعة 24 جمادى الآخرة 1440هـ 1-3-2019م
الدرس الثامن والعشرون:
ـــــــــــــــــــــــــــــ

من هو الفائز في رمضان

الحمد لله أعظم المنة على عباده بما دفع عنهم من غوائل النفس والشيطان، جعل الصيام حصناً للمخلصين وجنّة، وفتح للمتواضعين فيه أبواب الجنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عرف الطائعين أن الشهوات وسيلة الشيطان إلى القلوب، وبقمعها تطمئن النفس وتقوى على قهر الشيطان الرجيم، وأشهد أن محمداً رسول الله قائد الخلق إلى الحق، الهادي إلى طريق السعادة، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ذوي البصائر الثاقبة والعقول الراجحة، أما بعد:
فيقول الله تعالى: [وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
نعم والله لقد فاز في رمضان من أنفق في سبيل الله ابتغاء وجهه الكريم، من أقرض الله قرضاً حسناً، لقد فاز في رمضان من صان عن اللغو والفحش صيامه وكف عن الحرام عينيه وأذنيه ولسانه، وتهذيب بالصيام نفسه فكان صابراً متواضعاً تقياً، صادقاً أميناً وفياً، على البؤساء عطوفاً، وبالضعفاء رحيماً.
لقد فاز في رمضان من شمر عن ساعد الجد وجعل صالح الأعمال بضاعته، والتواضع شعاره، والحلم واللين شيمته، والرأفة والرحمة حليته، لقد فاز في رمضان من أجاب نداء حي على الفلاح وحي على الصلاة؛ فأدى الفرائض كلها في المسجد في جماعة، وصام نهار رمضان وقام ليله بين يدي ربه وأخرج صدقة الفطر، وساعد المحتاجين، وجعل نهاره كله في ذكر الله وداوم على قراءة كتاب الله العزيز وتدارس ما فيه.
لقد فاز في رمضان من وصل رحمه وحافظ على حقوق جاره، لقد فاز في رمضان من جعل رمضان بداية عهد جديد وتجديد بيعة مع الله عز وجل، جعل رمضان بداية الانطلاقة المتواصلة نحو عبادة صحيحة لينجو من عذاب الله يوم القيامة، لقد فاز في رمضان من كان حاله بعد رمضان أفضل من سابقه، وحافظ على الصيام والقيام تطوعاً بعد رمضان، ولم يهجر القرآن بل جعل لنفسه ورداً يقرؤه كل يوم بعد رمضان.
دخل رجل على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم العيد فوجده يأكل خبزاً جافاً وزيتاً فقال: أمير المؤمنين وخبز جاف يوم العيد؟ فردّ عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه قائلاً له: يا هذا ليس العيد لمن لبس الجديد وأكل الثريد ولكن العيد لمن قبل منه بالأمس صيامه وقبل منه قيامه وغفر له ذنبه وشكر له سعيه فهذا هو العيد واليوم لنا عيد وغداً لنا عيد وكل يوم لا نعصي الله عز وجل فيه فهو عيد.
ويقول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: ليس العيد من لبس الجديد ولكن العيد من خاف يوم الوعيد.
فاتقوا الله عباد الله واغتنموا هذه الفرصة لتفلحوا وتسعدوا في دنياكم وأخراكم.
اللهم اسلك بنا مسلك الصادقين الأبرار، وألحقنا بعبادك المصطفين الأخيار، وآتنا في الدنيا الحسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم أيقظنا من غفلتنا بلطفك وإحسانك، وتجاوز عن جرائمنا بعفوك وغفرانك، وثبت قلوبنا على دينك وانصرنا على أنفسنا وعلى أعدائنا وعلى القوم الكافرين، إنك نعم المولى ونعم النصير.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس التاسع والعشرون:
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

وداع رمضان

الحمد لله الدائم فلا يزول، الباقي فلا يتغير، وأشهد أن لا إله إلا الله أجزل الخير للطائعين، وأشهد أن محمداً رسول الله أفضل الصائمين الراكعين الساجدين، اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه الطاهرين المخلصين، أما بعد:
فيقول الله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ]( )، الذين اتقوا هم الذين عظموا أمر الله بامتثال الأوامر واجتناب النواهي على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته، والذين هم محسنون هم أهل الشفقة على خلق الله باحترام الحقوق وحسن المعاملة.
أيها الصائم: ها هو رمضان قد مضى ولم يبق منه إلا القليل، فهلا اتقيت الله فيه؟ وقمت بحقوقه، وحافظت على آدابه، هل أحسنت فيه المعاملة مع خلق الله؟ واحترمت حقوقهم؟
الصيام ينور القلب ويهذب النفس، ويقوي العزيمة، ويعرف العبد مقدار النعمة، ويملأ قلبه رحمة بالضعفاء، فهل استنار قلبك في رمضان بعد ظلمة العصيان؟ هل تهذبت بالصيام نفسك وقويت عزيمتك؟ هل عرفت مقدار النعمة بفقدها فشكرت عليها ربك؟ هل امتلأ قلبك رحمة فعطفت على الأرامل واليتامى؟
أيها الصائم: اتق الله وتدارك ما فرط منك بالتوبة والعمل الصالح.
أيها الصائم: صل الأرحام وواس الأرامل والأيتام، فيقول الله تعالى: [إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذٰلِكَ ذِكْرٰى لِلذَّاكِرِينَ]( ).
أحي ليلة القدر بالطاعة والعطف على الضعفاء والمحرومين، وأخرج صدقة الفطر فإن الله شرعها جبراً لخاطر الفقراء والأيتام وكفاًلهم عن السؤال في هذه الأيام، بل وسيلة لقبول الصيام، ولتسع في إصلاح ذات البين، ولتحلل نفسك ممن ظلمته، ولتعطف على من أسأت إليه( ).
أيها الصائم: طهر قلبك من الحقد والغل والحسد، وتذكر قول الله تعالى:
[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
أيها الإخوة الصائمون: اعلموا أن عزة الأمم وسعادتها منوطاً بأخلاقها وآدابها، واعتناقها للفضيلة، وابتعادها عن الرذيلة، فالأخلاق الفاضلة روح الأمم والشعوب لا حياة لها إلا بها، ولا رقي لها إلا معها، وعلى مقدار اعتناء الأمة بالتربية الصحيحة وتمسكها بالأدب والفضيلة يكون رقيها، وفلاحها وهناؤها، وصفاء عيشها. يقول الله تعالى: [مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
شعراً:
دع البكاء على الأطلال والدار
*** واذكر لمن بان من خل ومن جار

وأذر الدموع نحيباً وابك من أسف *** على فراق ليال ذات أنوار

على ليال لشهر الصوم ما جعلت
*** إلا لتمحيص آثام وأوزار

يا لائمي في البكا زدني به كلفاً
*** واسمع غريب أحاديث وأخباري

ما كان أحسننا والشمل مجتمع
*** منّا المصلي ومنّا القانت القاري

وفي التراويح للراحات جامعة
*** فيها المصابيح تزهو مثل أزهاري

في ليله ليلة القدر التي شرفت
*** حقاً على كل شهر ذات أسرار

تتنزل الروح والأملاك قاطبة
*** بإذن رب غفور خالق باري

إنه شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار إذا لم يتب فيه الإنسان فمتى يتوب؟
وإذا لم يفز ويربح في مثل هذا الموسم العظيم فمتى سيفوز؟
سلام من الرحمن كل أوان
*** على خير شهر قد مضى وزمان

سلام على شهر الصيام فإنه
*** أمان من الرحمن كل أمان

لئن كنت يا شهر الصيام منوراً
*** لكل فؤاد مظلم وجنان

ترحلت يا شهر الصيام بصومنا
*** وقد كنت أنواراً بكل مكان

لئن فنيت أيامك الزهر بغتــــة
*** بخير رعاك الله من رمضان

اللهم إن كان في سابق علمك أن تجمعنا في مثله فبارك لنا فيه، وإن قضيت بقطع آجالنا فأحسن الخلافة على باقينا، وأوسع الرحمة على ماضينا، وعمنا جميعاً برحمتك وغفرانك، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس الثلاثون:
ـــــــــــــــــــ

التحذير من العودة إلى المعاصي
بعد رمضان

الحمد لله الدائم الباقي فلا يزول ولا يتغير، الحكيم الذي جعل في انقضاء الأيام والليالي عبرة لمن تفكر، لا إله إلا هو جعل الفلاح لمن عمل بأحكام الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فتح أبواب رحمته لمن داوم على طاعته، وحجب أنوار هدايته عمن انقاد لشهوته وانغمس في حمأة رذيلته، وأشهد أن نبينا محمداً رسول الله إمام المتقين وسيد الأنبياء والمرسلين، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:
فيقول الله تعالى: [أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ]( ).
أيها الإخوة الأحبة في الله: إن كان رمضان قد مضى طيف خيال وعزمتم على العود إلى التفريط والتقصير في شوال فالله حيٌ أبديٌ لا يدركه زوال ولا يفنيه تداول الأوقات وتعاقب الأهلة هلال بعد هلال، فلا تقولوا: الآن ذهب رمضان وتستهلوا شوالاً بالفسوق والعصيان؛ فإن الله تعالى يرضى عمن أطاعه في أي شهر كان، ويغضب على عصاه في كل وقت وأوان.
أيها الأخ المسلم: عهدناك في رمضان منيباً إلى ربك، تائباً من ذنبك، راغباً في رحمة الله وثوابه، خائفاً من نقمته وعذابه، عهدناك في رمضان محافظاً على أداء الصلوات في الأوقات، حريصاً على شهود الجمعة والجماعات، مقبلاً على مجالس العلم ومستعداً لقبول النصائح والعظات، عهدناك في رمضان مهذباً نقياً، متواضعاً تقياً، فعلى أي شيء عزمت بعد انقضاء شهر الصيام؟
أتراك بعدما ذقت حلاوة الطاعة تعود إلى مرارة العصيان؟ أتراك بعدما صرت من حزب الرحمن تنقلب على عقبيك فتنضم إلى حزب الشيطان؟ أتراك بعدما حسبت في عداد المصلين تترك الصلاة وهي عماد الدين؟ وهل يليق بك بعدما كتبت في جملة الطائعين أن تصير في زمرة العاصين؟ أيليق بك بعدما كنت في رمضان براً تقياً أن تصير في الإفطار جباراً شقياً؟ ما هكذا يكون المؤمن بل ما هكذا يكون العاقل المتبصر.
اعلم أخا الإسلام أن الدنيا مزرعة للآخرة، وأن الدنيا عمل ولا حساب، وأن الآخرة حساب ولا عمل، فاتق الله وخذ من دنياك لآخرتك، ومن حياتك لموتك، ومن صحتك لسقمك، ومن غناك لفقرك، ومن شبابك لهرمك، وتزود لسفر طويل، واستعد لحساب عسير، وهول عظيم، يوم ينظر المرء ما قدمت يداه، يوم يعض الظالم على يديه نادماً على ما جناه.
فحافظ أخي في الله على العبادات التي كنت تقوم بها في رمضان، وابتعد عن المعاصي التي هجرتها في رمضان لأن رب رمضان هو رب شوال ورب الشهور كلها، حتى لا تقع في نطاق قول الله تعالى: [أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ]( ).
اللهم اجعلنا في شهرنا هذا في يومنا هذا في ليلتنا هذه في ساعتنا هذه من عتقائك من النار ومن المقبولين، اللهم اجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا معنا ولا منا شقياً ولا محروماً، اللهم اغفر وارحم واعف وتكرم وتجاوز عما أنت به أعلم إنك أنت الأعز الأكرم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــ

الدروس الخاصة بصلاة التهجد آخر الليل :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الدرس الأول:
ــــــــــــــ

الحمد لله الذي علم القرآن وخلق الإنسان علمه البيان، وعلمه ما لم يكن يعلم وكان فضل الله عليه عظيماً، وأشهد أن لا إله إلا الله العليم الحكيم أنزل أول ما أنزل [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )، وأشهد أن نبينا محمداً رسول الله النبي العربي الأمي أعجز أهل اللغة بفصاحته وعلمه وبيانه مع أنه لم يكن يقرأ ولا يكتب، فصدق فيه قول القائل؛ حيث أوتي جوامع الكلم:
يا فقيراً وبين جنبيك كنز
*** قد تخطى الثراء والأثرياء

يا عليماً وما خططت حروفاً
*** أنت أعجزت في الورى العلماء

أما بعد:
فيقول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( )، ويقول تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، ويقول تعالى: [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
عن معاوية بن أبي سفيان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)( )، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (… ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده…)( ).
من خلال النصوص السابقة يتبين لنا أيها الإخوة المؤمنون فضل العلم وفضل من يسعى إليه؛ فالعلم صفة يميز المتصف بها تميزاً جازماً مطابقاً، وقيل: هو إدراك الشيء بحقيقته، والعلم فضله يفوق فضل كل ما اكتسبه الإنسان فهو أشرف منتسب، وأنفس ذخيرة تقتنى وأطيب ثمرة تجتنى، به يتوصل إلى الحقائق، وبه يعرف الحلال والحرام وإذا عمل به الإنسان على وفق الشريعة أدرك رضا الخالق.
والعلم هو وسيلة للفضائل، وهو نور زاهر لمن استضاء به، وقوت هنئ لمن تقوت به، ترتاح به الأنفس إذ هو غذاؤها، وتفرح به الأفئدة إذ هو قواها، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعلموا العلم فإن تعلمه الله خشية، وطلبه عبادة، ومذكراته تسبيح والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة لأنه معالم الحلال والحرام ومنار سبل أهل الجنة والصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة والدليل على السراء والضراء والسلاح على الأعداء والزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة سادة هداة يقتدي بهم، أدلة في الخير تقتفى آثارهم ويقتدى بأفعالهم، وينتهى إلى رأيهم، وترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، يستغفر لهم كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه وبه توصل الأرحام ويحرمه، الأشقياء)( ).
والله جل وعلا لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الازدياد من شيء من هذه الدنيا إلا من العلم فقال سبحانه: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)( ).
والناس على حق وفي خير وهدى ما دام العلم باقياً في الأرض فإن ذهب العلم بذهاب أهله وقع الناس في الضلال، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)( ).
والعلم الممدوح الذي دل عليه الكتاب والسنة هو العلم الذي ورثه الأنبياء، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلميقول: (… وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)( ).
ولقد قسم شيخ الإسلام هذا العلم إلى ثلاثة أقسام:
1ـ علم بالله وأسمائه وصفاته وما يتبع ذلك.
2ـ علم بما أخبر الله به مما كان من الأمور الماضية وما يكون من الأمور المستقبلة وما هو كائن من الأمور الحاضرة.
3ـ العلم بما أمر الله به من العلوم المتعلقة بالجوارح والقلوب من الإيمان بالله ومعرفة القلوب وأحوالها وأقوال الجوارح وأعمالها وهذا يندرج فيه العلم بالأقوال والأفعال الظاهرة، ويندرج فيه ما وجد في كتب الفقهاء من العلم، بأحكام الأفعال الظاهرة؛ فإن ذلك جزءُ من جزءٍ من علم الدين( ).
أما بالنسبة للعلماء فمنزلتهم عند الله عظيمة ودرجتهم عند الله رفيعة، فلقد رفع الله شأنهم، وأعلى منزلتهم، وأجل قدرهم فقال سبحانه وتعالى: [يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ]( )، ولم لا؟ وقد شهد الله جل وعلا لهم بهذه الشهادة الزكية في قوله تعالى: [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ]( )؛ أي: إنما يخاف الله عز وجل ويقدره حق قدره من عرفه، وعلم عظيم قدرته وسلطانه على خلقه نتيجة التأمل في أسرار الكون والشرع وهم العلماء وهذه الخشية إنما تحفز على عمل الصالحات، واجتناب السيئات.
ويقول أبو حامد الغزالي: (إن أدنى درجات الفقيه أن يعلم أن الآخرة خير من الدنيا وهذه المعرفة إذا صدقت وغلبت عليه برئ من النفاق والرياء)( ).
والعلم لا يعطاه إلا من رضي الله عنه لذا تجده محبوباً بين الناس، كلمته لها وزن، يرجع إليه في كثير من الأمور، رأيه سديد؛ لأنه يستمد ما يقول من القرآن والسنة، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في فضل العلماء:
الناس في جهة التمثيل أكفاء
*** أبوهم آدم والأم حواء

نفس كنفس وأرواح مشاكلة
*** وأعظم خلقت فيهم وأعضاء

فإن يك لهم من أصلهم حسب
*** يفاخرون به فالطين والماء
ما الفضل إلا لأهل العلم أنهم
*** على الهدى لمن استهدى أدلاء

وقدر كل امرئ ما كان يحسنه
*** وللرجال على الأفعال أسماء

وضد كل امرئ ما كان يجهله
*** والجاهلون لأهل العلم أعداء( )

ولتحصيل العلم أسباب وطرق موصلة إليه على طالب العلم أن ينتبه إليها ومنها:
1ـ اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء وهو العليم الخبير الذي علّم داود وفهّم سليمان ولنا في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة فلقد كان الرسول يلجأ إلى الله تعالى مستعيناً به سبحانه أن يعلمه وأن ينفعه بما علمه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفني وزدني علماً…)( ).
2ـ بذل أقصى ما يمكن من جهد ووقت ومال لطلب العلم والصبر على ذلك والحرص على أخذ العلم من أهله المتحققين به، وقديماً قال بعضهم: لقد كان العلم في صدور الرجال ثم انتقل إلى بطون الكتب وصارت مفاتحه بأيد الرجال، ولما سئل أحدهم بما ينال العلم؟ قال: بالحرص يتبع، وبالحب له يستمع، وبالفراغ له يجتمع، ورحم الله الشافعي حيث قال:
أخي لن تنال العلم إلا بستة
*** سأنبك عن تفصيلها ببيان

ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة
*** وصحبة أستاذ وطول زمان( )

3ـ ترك الذنوب والمعاصي: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إني لأحسب أن الرجل ينسى العلم قد علمه بالذنب يعمله)( )، ولما جلس الشافعي بين يدي مالك رحمهما الله وأعجب مالك بذكاء الشافعي وحفظه قال له: يا شافعي: (إني أرى الله قد جعل في قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية)( )، وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
*** فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأخبرني بأن العلم نور
*** ونور الله لا يهدي لعاصي( )

4ـ عدم الكبر والحياء: فالحياء يمنع من السؤال والتفقه في أمور الدين وهو مذموم في هذه الحالة لأن أصل الحياء أنه خير كله؛ لهذا تقول أمنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين)( ).
5ـ الإخلاص: والمرء لكي يكون عمله مقبولاً لدى رب العالمين لابد أن يكون هذا العمل موافقاً للكتاب والسنة، ولابد أن ينبغي به وجه الله عز وجل، فكل عمل لا يكون الله هو مردود على صاحبه؛ لأنه لم تتوفر فيه شروط قبول العمل الصالح، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من طلب العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء ويصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار)( ).
ما يجب على العلماء:
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (نعم المجلس مجلس تنتشر فيه الحكمة وتنشر فيه الرحمة، يعني مجلس العلم)( ).
ويقول يحي بن معاذ: العلماء أرحم بأمة محمد صلى الله عليه وسلم من آبائهم وأمهاتهم، قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا، وهم يحفظونهم من نار الآخرة.
وأرقى طائفة في العلماء هم العلماء العاملون بما يعلمون ويتقون الله في علمهم فيبلغونه للناس ولا يكتمونه. يقول الله تعالى: [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ]( )، فالعالم الذي لا يعمل بما يعلم شره عظيم على الأمة ووباله وخيم، والله سبحانه وتعالى قد بين لنا خطورة وعظم إثم الذي لا يعمل بما يعلم يقول تعالى: [كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ]( ).
فعلم لا يدفع صاحبه إلى العمل والقرب من الله سبحانه وتعالى والبعد عن معصيته علم لا خير فيه ولا بركة، بل قد يكون وبالاً على صاحبه، فالعلم لا قيمة له بدون عمل، يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: (لا تكون تقياً حتى تكون عالماً ولا تكون بالعلم جميلاً حتى تكون به عاملاً)( ).
وما أحوجنا حقاً أيها الأحبة في الله إلى وصية علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يقول: (يا حملة العلم اعلموا به، فإنما العالم من علم ثم عمل ووافق علمه عمله وسيكون أقوام يحملون العلم لا جاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف عملهم علمهم، يقعدون حلقاً فيباهي بعضهم بعضاً حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله عز وجل)( ).
فيا سبحان الله، كم من مذكر بالله وهو ناس لله! وكم من مخوف بالله وهو جريء على الله! وكم من مقرب إلى الله وهو بعيد عن الله! وكم من داع إلى الله وهو فارُ من الله، وكم من تالٍ لكتاب الله وهو منسلخ من آيات الله! فهلا انزجر وارتدع من أنعم الله عليه بالعلم وبادر بالعمل حتى لا يكون هذا العلم وبالاً عليه يوم القيامة، وصدق من قال:
إذا العلم لم تعمل به كان حجة
*** عليك ولم تعذر بما أنت جاهله

فإن كنت قد أوتيت علماً فإنما
*** يصدق قول المرء ما هو فاعله

وإليكم أيها الإخوة المسلمون: هذا الحديث الذي يخلع القلب ويبكي العين، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون أي فلان: ما شأنك؟ أليس كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)( )، ورحم الله من قال:
يا أيها الرجل المعلم غيره
*** هلا لنفسك كان ذا التعليم

تصف الدواء لذي السقام من الضنى
*** كيما يصح به وأنت سقيم

لا تنه عن خلق وتأتي مثله
*** عار عليك إذا فعلت عظيم

فابدأ بنفسك فانهها عن غيها
*** فإذا انتهت فأنت حكيم

فهناك يقبل ما تقول ويقتدى
*** بالقول منك وينفع التعليم

ومن أهم صفات هؤلاء العلماء العاملين بما يعلمون:
أنهم يبذلون علمهم ولا يكتمونه عن الناس فهم يقتدون بنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم
ويعلمون أنهم ورثة الأنبياء وأنهم لابد قائمون بمهمة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي تبليغ دعوة الله عز وجل وذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ لأن كتمان العلم والبعد عن هذا الطريق وقد أنعم الله على المرء بالعلم لمن الإثم العظيم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كتم علماً مما ينفع الله به في أمر الناس أمر الدين ألجمة الله يوم القيامة بلجام من نار)( ).
ومن صفاتهم أيضاً أنهم يبيتون للناس الحق ولا يخشون في الله لومة لائم، يتصدون للباطل ويدافعون عن الحق ويهاجمون الجهل وأهله، ويبينون للناس التحريف والتأويل والزيغ ليبتعد عنه الناس، ثم ينصحونهم بالحق متمثلين قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث التالي: عن عبد الله بن عمروا وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين)( ).
ومن صفاتهم أيضاً: أنهم يتورعون في الفتوى: فقد قال الشعبي: لا أدري نصف العلم، وسئل الإمام مالك عن ثمان وأربعين مسألة فقال: في اثنين وثلاثين منها لا أدري، وجاء في الأثر: (أجرؤكم على الفتوى أسرعكم إلى نار جهنم).
فاتقوا الله أيها العلماء فيما وهبكم الله من علم وتحروا الأمانة فيه وإياكم أن تفتوا بما هو باطل، فإن أشكل عليكم شيء فارجعوا إلى كبار العلماء والمحققين منهم، وإن روجع أحدكم في فتواه ورأى أن ما أفتى به ليس صحيحاً فليتق الله وليتواضع وليخفض جناحه وليخضع للحق فهاهم كبار علمائنا يتورعون عن الإجابة قائلين: هذه المسألة تحتاج إلى بحث، وكم قال سماحة مفتي عام المملكة وعالم الأمة في هذا الزمان العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز: أنظرُ في هذه المسألة أو راجعني بعد مدة وهذا منه حفظه الله ورع وتعليم لطلابه، وما أبلغ أثر الدرس العلمي وأنفعه.
وإن أهم ما يجب على طالب العلم كما ذكرنا آنفاً أن يحصله هو العلم الشرعي الذي به يتفقه في دينه ويفقه الناس ليعبدوا الله على بصيرة فينجوا من عذاب الله يوم القيامة.
اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً، اللهم اجعلنا من العلماء العاملين بما يعلمون، اللهم اجعل العلم حجة لنا لا علينا، اللهم فقهنا في ديننا، اللهم ارزقنا حب الخير وأهله وبغض الشر وأهله، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس الثاني :
ــــــــــــــــ

آفات اللسان

الحمد لله الذي أحسن خلق الإنسان وعدله، وألهمه نور الإيمان فزينه به وجمله، وعلمه البيان فقدمه به وفضله، وأفاض على قلبه خزائن العلوم فأكمله، ثم أرسل عليه ستراً من رحمته وأسبله، ثم أمده بلسان يترجم به عما حواه القلب وعقله ويكشف عنه ستره الذي أرسله، وأطلق بالحق مقوله وأفصح بالشكر عما أولاه وخوله من علم حصّله ونطق سهله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله الذي أكرمه، ونبيه الذي أرسله بكتاب أنزله وأسمى فضله وبين سبله، أما بعد:
فاللسان من نعم الله العظيمة على الإنسان ومن لطائف صنع الخالق الغريبة فهو صغير في حجمه عظيم في جرمه، فلا يستبين الكفر والإيمان إلا بشهادة اللسان وهما غاية الطاعة والعصيان، وما من شيء موجود أو معدود متخيل أو معلوم، مظنون أو موهوم إلا واللسان يتناوله ويتعرض له بإثبات أو نفي، بل كل ما يتناوله العلم يعرب عنه اللسان إما بحق أو باطل، ولا شيء إلا والعلم متناول له.
وهذه خاصية لا توجد في سائر الأعضاء حيث إن اللسان له في الخير مجال رحب وله في الشر ذيل سحب، فمن أطلق عذبة اللسان وأهمله مرخي العنان سلك به الشيطان في كل ميدان وساقه إلى شفا جرف هار إلى أن يضطره إلى البوار، ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ولا ينجون من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة.
وقد سبق أن تحدثنا عن بعض آفات اللسان من خلال حديثنا عن الأخلاق الذميمة؛ لذا سنتناول هنا أهم الآفات خاصة المشتهر منها في واقع المسلمين
وكثيرة الحدوث ومنها على سبيل المثال:
1ـ الكذب:
يقول الله تعالى: [وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ]( )، ويقول تعالى: [فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)( )، وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة)( ).
وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم الكذب من صفات المنافقين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتُمن خان)( ).
فالكذب صفة ذميمة لا ينبغي أن تكون بمسلم؛ لأن من يتخذ الكذب سجية له يؤدي به إلى ذنوب كثيرة وعاقبة وخيمة وغضب الله إلى يوم القيامة، وإن من أعظمهم وأكبرهم جرماً أولئك الذين يكذبون على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فالكذب على الله كتحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله، يقول الله تعالى: [وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ]( ).
أما الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (… ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)( ).
أمّا ما يجوز من الكذب: فقد قال ابن شهاب: لم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل إلى امرأته، وحديث المرأة زوجها، عن أم كلثوم رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً)( ).
2ـ إفشاء السر:
يقول الله تعالى: [وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
فالمؤمن الكريم يحضر في نفسه محاسن أخيه المؤمن لينبعث من قلبه الود والاحترام والتوقير له، أما المنافق اللئيم فإنه أبداً يلاحظ المساوئ والعيوب، والمؤمن يلتمس لأخيه الأعذار، أما المنافق فهو يطلب العثرات ومن علامات الطبع اللئيم إفشاء السر عند الغضب، لأن إخفاءه عند الرضا تقتضيه الطباع السليمة كلها( )، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق)( ).
وإفشاء السر ينقسم إلى قسمين:
1ـ إفشاء الإنسان سر نفسه: وقد يكون ذلك بسبب فشل الإنسان، وربما كان هذا الإفشاء سبباً في ذُل الإنسان لمن أفشى :إليه السر، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سرك أسيرك فإن تكلمت به صرت أسيره، وقال أحدهم:
إذا المرء أفشى سره بلسانه
*** ولام عليه غيره فهو أحمق

إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه
*** فصدر الذي يستودع السر أضيق

2ـ إفشاء سر الغير: وهذا أخطر وأشد لأنه أمانة وإفشاؤه خيانة والخيانة من علامات النفاق، وقال العباس بن عبد المطلب لابنه عبد الله: إني أرى هذا الرجل ـ يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ يقدمك على الأشياخ فاحفظ عني خمساً: لا تفشين له سراً، ولا تغتبن عنده أحداً، ولا تجرين عليه كذباً، ولا تعصين له أمراً، ولا يطلعن منك على خيانة. فما ينبغي للمؤمن أن يفشي السر؛ لأن ذلك ليس من صفات المؤمنين كما أوضحنا سابقاً.
3ـ اللعن:
فاللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله ولذلك كان أمراً عظيماً، لا يجوز لأحد أن يحكم على أحد بالطرد من رحمة الله إلا من حكم الله عليه بذلك، فلا يجوز لمسلم أن يلعن حيواناً أو جماداً، ومن باب أولى الإنسان، عن سمرة ابن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضبه ولا بالنار)( )، وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة فضجرت فلعنتها فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة، قال عمران: فكأني أراها الآن تمشي في الناس وما يعرض لها أحد)( ).
أما لعن الآدمي ففيه تفصيل:
ـ يجوز اللعن بالوصف العام كأن تقول: لعنة الله على الكافرين والظالمين والفاسقين.
ـ يجوز اللعن بوصف خاص كأن تقول: لعنة الله على اليهود، والنصارى، والمجوس والخوارج والرافضة، وآكلي الربا وغيرهم.
ـ لا يجوز لعن شخص بعينه إلا من ثبتت لعنته شرعاً كأن تقول: فرعون لعنة الله، وأبو لهب لعنة الله.
فعلى المسلم أن يتحفظ من ذلك وأن ينتبه، لأنه ربما قال كلمة واحدة أودت به إلى قعر نار جهنم وذلك إذا قالها في سخط من الله ولم يلق لها بالاً.
4ـ السخرية والاستهزاء:
يقول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام ماله وعرضه ودمه حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)( ).
فربما كان يحقره الناس ويسخرون منه ويستهزئون به أعظم قدراً عند الله تعالى: ممن له قدر في الدنيا فالناس يتفاوتون بحسب التقوى يقول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ).
وحينئذ فقد يكون كثير ممن له صورة حسنة أو مال أو جاه أو رياسة في الدنيا قلبه خراب من التقوى، ويكون من ليس له شيء من ذلك قلبه مملوء بالتقوى فيكون أكرم عند الله تعالى وأعظم حظاً، عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال: (مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس. هذا والله حريٌ إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجلٌ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حريٌ إن خطب أن لا ينكح وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع لقوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا)( ).
فاتقوا الله عباد الله وابتعدوا عن هذه الآفة لان الباعث عليها هو الكبر والكبر صفة ذميمة لا ينبغي أن توجد في إنسان مؤمن يتحلى بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ويعلم يقيناً أنه موقوف بين يدي الجبار المتكبر سبحانه وتعالى ومسؤول عما قدم في دنياه، فلنحفظ ألسنتنا مما يغضب الله، ولنجعلها دائماً رطبة بذكر الله حتى نفوز بسعادة الدارين ونفوز بشفاعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم طهر ألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة وقلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء، اللهم عن الميل والركون الى الباطل أو الخوض فيه، اللهم حبب إلينا الحق وأهله، اللهم إنا نسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس الثالث :
ـــــــــــــــــ

الدعاء وآدابه

الحمد لله الرحمن الرحيم، مجيب دعاء المضطربين، وكاشف هم المهمومين ومنفس كرب المكروبين، تسير أمور الكون كله بأمره سبحانه وتعالى بين حرفين: الكاف والنون إذا قال للشيء كن فيكون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القادر على كل شيء، وأشهد أن نبينا محمداً رسول الله كان إذا حزبه أمر هرع إلى مصلاه لجأ إلى ربه ودعاه، أما بعد:
فيقول الله تعالى: [وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ]( ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء)( ).
فالدعاء أخي المسلم هو تلك العبادة الروحية العظيمة، التي يحس فيها المخلوق بعظمة الخالق، حيث يلجأ العبد إلى ربه، بعد أن تنقطع عنه الأسباب، وتعجز عنه الحيل، وتتخلى عنه الماديات؛ فيتوجه تلقائياً إلى خالقه وبارئه لينال عنده الشعور بالطمأنينة، والراحة والسكن والأمن، وليجد ما لم يجده عند البشر من عطاء، كيف لا وهو قد لجأ إلى رب الأرباب، وملك الملوك الغني الحميد القادر على كل شيء والقادر على أن يحقق للعبد ما يريده.
وصدق من قال: من أنزل همه بالناس زاد ومن أنزل همه بالله زال؛ لأنه عندما ينزل همه بالناس يزيدونه هما على هم لكنه إذا أنزله بالقادر سبحانه وتعالى فهو يزول؛ لأن الله سبحانه وتعالى إذا قال للهم زُل سيزول بإذنه وقدرته سبحانه؛ لأنه على كل شيء قدير.
ولنا في نبينا الأسوة الحسنة فالله سبحانه وتعالى يقول: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] ( )، فلقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمن عندما تضيق به الأمور وتكثر عليه الأحزان فعليه أن يلجأ إلى الله عز وجل فهو وحده سبحانه الكاشف لها، ويتضح ذلك جلياً عندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف سنة عشر من البعثة ليدعو أهلها إلى الإسلام لكنه لم يؤمن به أحد بل أغروا سفهاءهم وعبيدهم ليرموه بالحجارة ووقفوا له صفين وهم يرجمون عراقيبه حتى اختصب نعلاه بالدماء، وكان زيد بن حارثه يقيه بنفسه حتى أصابه شجاج في رأسه، ولم يزل به السفهاء كذلك حتى ألجأوه لحائط عتبة وشيبة ابني ربيعة على ثلاث أميال من الطائف فلما التجأ إليه رجعوا عنه، وأتى الرسول حبلة من عنب فجلس تحت ظلها.
وهنا يعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم أهمية اللجوء إلى الله عز وجل أن يكشف ما بنا من ضر فهو سبحانه أرحم الراحمين في هذه اللحظات يرفع الرسول يديه إلى السماء ويدعو بهذا الدعاء الجامع الذي يقول فيه: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)( ).
رب ضائقة يضيق بها الفتى *** ذرعاً وعند الله منها المخرج
وصدق من قال:
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها *** فرجت وكنت أظنها لا تفرج

فعلى المؤمن أن يلجأ دائماً إلى الله تعالى بالدعاء، ويعلم أنه لا يرد القضاء إلا الدعاء، فليكثر من الدعاء في كل أحواله أن يصلحها الله عز وجل له، يدع الله أن ينصر الإسلام ويعز المسلمين، وأن يخذل الشرك والمشركين ويدمر أعداء الدين، ولكن عليه أن يدعو وهو موقن بالإجابة.
فلو انتبه المسلمون لوجدوا بين أيديهم سلاحاً يعجز أي مصنع حربي في العالم كله أن يصنعه وهو الدعاء، ولكن هذا السلاح لا يؤدي المفعول ولا النتيجة المرجوة منه إلا إذا أخرج من قلب خالص موقن بقدرة الله عز وجل؛ فاستخدموا هذا السلاح أيها المسلمون ولا تغفلوا عنه حتى لا يصدأ في أيديكم وينتصر عليكم الأعداء بسبب نسيانكم لهذا السلاح وتعليقكم بالدنيا وكراهيتكم للموت.
أيها الأحبة في الله:
اعلموا أن للدعاء وللذكر آداباً كثيرة يجب أن يتحلى بها الداعي وأن ينتبه إليها، ومن هذه الآداب:
1ـ الدعاء بباطن الكف: لما صح عن مالك بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سألتم الله فاسألوه بباطن أكفكم ولا تسألوه بظهورها)( ).
2ـ إذا دعا فليعزم المسألة: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم قال: (لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة فإنه لا مكره له)( ).
3ـ حسن الظن بالله تعالى: يقول الله تعالى: [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ]( ).
4ـ الاعتراف بالذنب: فعلى العبد أن يعترف بالذنب ويقر بالخطيئة وفي هذا العمل كمال العبودية لله سبحانه وتعالى، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علمني دعاءً أدعوا به في صلاتي قال: (قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم)( ).
5ـ للداعي أن يبدأ بنفسه في الدعاء: يقول الله سبحانه وتعالى: [مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ]( ).
6ـ خفض الصوت: بحيث يكون بين مرتبتي السكوت والجهر لقول الله تعالى: [وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
وغير ذلك من الآداب الكثيرة التي يستحب أن يقوم بها الداعي أثناء الدعاء حتى يكون دعاؤه موافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعيداً عن البدع، ومقبولاً إن شاء الله لدى رب العالمين.
وعلى المسلم أن يحافظ على الأدوار المشروعة في حله وترحاله حيث إنها تكون له بمثابة الحصن الحصين من الشياطين وتحفظه من كل سوء إذ إنه في قيامه بها يذكر ربه سبحانه وتعالى، ويقتفي أثر النبي صلى الله عليه وسلم ويحفظ نفسه من كل سوء؛ فليحافظ على أذكار الصباح والمساء وعلى الدعاء الوارد قبل الطعام وبعده وعند النوم وعند الاستيقاظ وعند الوضوء، وعند العودة منه، وعند دخول قرية جديدة نزل بها وفي كل أحواله يحافظ على هذه الأدعية المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم ممتثلاً قول الله تعالى: [أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
وعلى المؤمن أن يدعو الله عز وجل ويداوم على ذكر الله في جميع أحواله في السراء والضراء في المكره والمنشط في العسر واليسر ممتثلاً نصيحة النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما حين قال له: يا غلام، ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ فقلت: بلى، فقال: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة…)( ).
ولينتبه المسلم إلى أوقات قبول الدعاء فيبادر بالدعاء فيها ومنها: جوف الليل، والثلث الأخير من الليل، والسدس الأخير من الليل، ويوم الجمعة، ويوم عرفات، ودبر الصلوات المكتوبات، وأثناء السجود، وفي حال صيامه، وفي حال سفره.
اللهم لا تجعل ذنوبنا سبباً لرد دعائنا، اللهم اجعلنا عندك من المقبولين، اللهم شفع فينا عبدك ونبيك محمداً صلى الله عليه وسلم ونستعيذك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم إنا قد دعوناك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجميعن.

الدرس الرابع:
ــــــــــــــــ

النهي عن الانهماك في طلب الدنيا
والعمل للآخرة

الحمد لله الرازق ذي القوة المتين، يعطي ويمنح، ويجود ويصفح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له سبحانه وتعالى، لا تنفعه طاعة ولا تضره معصية، وأشهد أن محمداً رسول الله خير من عمل للآخرة وزهد في الدنيا واستعد للموت خير استعداد فكانت حركاته وسكناته كلها لله عز وجل وبلغ الرسالة وأدى الأمانة فاستحق الفردوس الأعلى، أما بعد:
فيقول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ).
إن من ينظر إلى الدنيا ببصيرة نافذة يوقن أن نعيمها ابتلاء، وحياتها عناء، وعيشها نكد، وصفوها كدر، وأهلها منها على وجل، إما بنعمة زائلة، أو بلية نازلة، من استغنى فيها فُتن، ومن افتقر فيها حزن، من أحبها أذلته، ومن أبصر طائفة فطناء أتقياء علموا أن الدنيا ظل زائل، ونعيم حائل، وكأنها أضغاث أحلام، وعرفوا أن هذه الحياة الفانية إنما هي طريق إلى الحياة الباقية؛ فرضوا منها باليسير، وقنعوا فيها بالقليل؛ فاستراحت قلوبهم وأبدانهم وكانوا عند الله تعالى هم المحمودين لم تشغلهم دنياهم عن ذكر ربهم سبحانه وتعالى، وتدبروا ماذا سيكون مصيرهم، أدركوا كل هذا فتأهبوا للسفر وأعدوا الجواب للحساب فطوبى لهم خافوا فأمنوا وأحسنوا ففازوا.
وطائفة أخرى جهلاء، عمي البصائر، لم ينظروا في الدنيا ولم يتكشفوا سوء حالها ومآلها، برزت لهم بزينتها ففتنتهم، فإليها أخلدوا، وبها رضوا، ولها اطمأنوا حتى ألهتهم عن الله تعالى وشغلتهم عن ذكره وطاعته وحق عليهم قول الله تعالى: [نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ]( )، جعلهم بسبب ذلك ناسين لها حتى لم يسمعوا ما ينفعها، ولم يفعلوا ما يخلصها، وسيرون يوم القيامة من الأهوال ما ينسيهم أرواحهم ويجعلهم حيارى ذاهلين، يقول الله تعالى: [يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ]( )، خدعتهم الدنيا ولم ينتبهوا لها على الرغم من أنها حذرتهم من نفسها قبل ذلك وبينت لهم عاقبة من يركن إليها بقولها:
هي الدنيا تقول بملء فيها
*** حذاري حذاري من بطش وفتكي

فلا يغرر كموا مني ابتسام
*** فقولي مضحك والفعل مبك

وصدق من قال: اجتهادك فيما ضمن لك مع تقصيرك فيما طلب منك دليل على انطماس بصيرتك.
فهؤلاء الطائفة من الناس أقاموا الدنيا فهدمتهم، واغتروا بها من دون الله فأذلتهم، أكثروا فيها من الآمال، وأحبوا طويل الآجال، ونسوا الموت وما وراءه من أهوال ومخاوف فخاب أملهم وضل سعيهم وخسروا الدنيا وما أدركوا الآخرة.
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأتي من الدنيا إلا ما قدر له)( ).
والله سبحانه وتعالى يقول: [اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ]( ).
فاعلموا أيها المسلمون أن الدنيا حقيرة زائلة فانية فعليكم أن لا تتعلقوا بها أو تنهمكوا في طلبها؛ لأن الآخرة فيها عذاب شديد لمن عصى الله وانهمك في الدنيا ولم يعمل للآخرة، أما مغفرة ورضوانه سبحانه وتعالى فستكون لمن أطاع الله، واعلموا أن زينة الدنيا العاجلة ما هي إلا متاع الغرور والله سبحانه وتعالى جعل الدنيا مزرعة للآخرة ومطية لنعيمها.
وقد نظر الأنصار ذات مرة إلى بهجة الحياة الدنيا وزخرفها الزائل فلقنهم النبي صلى الله عليه وسلم درساً لا ينسونه وذلك عندما قالوا: (لقي الرسول صلى الله عليه وسلم قومه وقسم عليهم الغنائم ولم يصبنا منها شيء وكان ذلك في غزوة حنين فطلب النبي صلى الله عليه وسلم من سعد بن عبادة أن يجمع له قومه فجمعهم فأتاهم الرسول صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
(يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها عليّ في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى، الله ورسوله أمن وأفضل، ثم قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل، قال: أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم، أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم
الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار).
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً وحظاً، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا( ).
ولما دخل أبو الدرداء الشام قال: يا أهل الشام اسمعوا قول أخ ناصح فاجتمعوا إليه فقال: ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون وتؤملون ما لا تدركون، إن الذين كانوا من قبلكم بنوا مشيداً وأملوا بعيداً وجمعوا عتيداً فأصبح أملهم غروراً ومساكنهم قبوراً.
أخي المسلم لن ينفعك إلا عملك الصالح وما قدمته يداك من خير في الدنيا فيوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من سلم قلبه، واعلم أنك لن تجد من يدافع عنك في قبرك، والسفر يا أخي طويل فتزود له، والله عز وجل الجبار المتكبر هو القاضي فاعمل ما ينفعك ويخلصك من المنكر والنكير وأنت بصير على نفسك.
شعر:
وأنزلوني في قبـري على مــــهـل
*** وأنـزلوا واحـداً منـهم يلحدنــي

وكشف الثوب عن وجهي لينظرني
*** وأسبل الدمع من عينيه أغرقني

فــقام محــتزمـاً بالعــزم مشتــمـــلاً
*** وصفف اللبن من فوقي وفارقني

وقال هلوا عليه التراب واغــتنموا
*** حشن الثوب من الرحمن ذي المنن

في ظلمة القبر لا أم هناك ولا
*** أب شفيق ولا أخ يؤنسني

وأودعوني ولجوا في سؤالهـــموا
*** ما لي ســواك إلهـي من يخلصنـــي

وهالني صورة في العين إذ نظرت
*** من هو مطلع ما قد كان أدهشنــــي

من منكر ونكير ما أقول لهم
*** إذ هالني منهما ما كان أفزعني

فامنن عليّ بعفوك منك يا أملي
*** فإنني موثق بالذنب مرتهن

تقاسم الأهل مالي بعدما انصرفوا
*** وصار وزري على ظهري فأثقلني

فلا تغرنك الدنيا وزينتها
*** وانظر إلى فعلها في الأهل والوطن

وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها
*** هل راح منها بغير الزاد والكفن

خذ القناعة من ذنياك وارض بها
*** لو لم يكن لك إلا راحة البدن

يا نفس كفي عن العصيان واكتسبي
*** فعلاً جميلاً لعل الله يرحمني

اللهم أيقظنا من غفلتنا بفضلك وإحسانك، وتجاوز عن جرائمنا بعفوك وغفرانك، وألحقنا بالذين أنعمت عليهم في دار رضوانك، اللهم اجعل الدنيا في أيدينا ولا تجعلها في قلوبنا، اللهم اجعلنا من الزاهدين في الدنيا المقبلين على الآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وأدخلنا الجنة مع الأبرار برحمتك يا عزيز يا غفار.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس الخامس :
ـــــــــــــــــ

حقوق الآباء على الأبناء
وحقوق الأبناء على الآباء

الحمد لله الخالق لكل مخلوق، جعل الطين يرى ويسمع ويشم ويذوق، وهب له العقل وبين له طريق الطاعة وطريق الفسوق، هيأ له الرزق وترك له الخيار في البر بالوالدين أو العقوق، فمن شكر الله على نعمته فقد نجا ومن كفر فبالنار محروق، أحمده تبارك وتعالى حمداً يكافئ الفضل المسوق، وأعوذ بنور وجهه الكريم من ظلم الحقوق.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة التوكل والوثوق، شهادة الأمن إذا خسف القمر ولحق بالبصر البروق، سبحانه المدبر للأمور من الأزل فالحق يعلو وكل باطل مزهوق، قدر الأقوات لمن أطاع ولمن عصى والكل بفضله ومن فضله مرزوق، وأشهد أن نبينا محمداً رسول الله الصادق المصدوق، ما نطق عن الهوى بل وحي على قلبه وباللسان منطوق، وفيٌ في تعاهده، كريم في تعاقده، عظيم في تواضعه ليس في مثل أخلاقه مخلوق، أما بعد:
فنتحدث أولاً عن: (حقوق الآباء على الأبناء).
يقول الله تعالى: [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً]( ).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال
أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي: قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال الجهاد في سبيل الله…)( ).
وإن من أهم حقوق الوالدين على أولادهما ما يلي:
1ـ البر والإحسان إليهما: وذلك بألا يتعرض الولد بالسب أو العقوق إلى والديه؛ فإن ذلك من الكبائر بلا خلاف، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه)( ).
2ـ طاعتهما وعدم معصيتهما إلا فيما يغضب الله عز وجل: فطاعة الوالدين واجبة على أبنائهما إلا أن يأمراً بمعصية فلا يطاعان لكن مع ذلك يحسن إليهما، قال تعالى: [وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ]( ).
إن خليل الله إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم كان يدعو أباه إلى التوحيد الخالص لكن أباه كان يدعوه إلى الشرك ويحذره أنه إذا لم يكف عما هو فيه من دعوة إلى الملة الحنيفية ليعاقبنه عقاباً شديداً ومع ذلك كان رد خليل الله إبراهيم عليه السلام: [قال سلام عليك سأستغفر بك ربي إنه كان بي حفياً]( ).
عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً وأمر عليهم رجلاً وقال: (… لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف)( )، فيطيعهما في كل ما يرضي الله عز وجل ولا طاعة لهما في كل ما يغضب الله عز وجل لكن مع ذلك يحسن إليهما.
3ـ ألا ينغص ولا يكدر عليهما بكلام يزجرهما به: وفي هذا منع من إظهار المخالفة لهما بالقول على سبيل الرد عليهما والتكذيب لهما وقد نهانا الله عز وجل عن ذلك في قوله: [فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا]( ).
4ـ أن يقول لهما قولاً كريماً: يكون هذا القول مقروناً بالاحترام والتعظيم مما يقتضيه حسن الأدب وترشد إليه المروءة، وألا يدخل عليهما الحزن وألا يتسبب في بكائهما، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه على الهجرة وترك أبويه يبكيان قال: (ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما)( ).
5ـ الإنفاق عليهما عند كبر سنهما: لأن الوالد وما ملكت يداه ملك لأبويه، روي أن ولداً اشتكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أباه، وأنه يأخذ ماله، فدعا به فإذا هو شيخ يتوكأ على عصا فسأله فقال: إنه كان ضعيفاً وأنا قوي وفقيراً وأنا غني فكنت لا أمنعه شيئاً من مالي، واليوم أنا ضعيف وهو قوي، وأنا فقير وهو غني فكنت لا أمنعه شيئاً من مالي، واليوم أنا ضعيف وهو قوي، وأنا فقير وهو غني ويبخل عليّ بماله فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلا بكى ثم قال للولد: أنت ومالك لأبيك أنت ومالك لأبيك)( ).
ويقوي هذا ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنّ لي مالاً ووالداً وإن والدي يحتاج مالي قال: أنت ومالك لوالدك، إن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من كسب أولادكم)( ).
هذه الحقوق السابقة كانت في حال حياتهما أما بعد موتهما فلهما حقوق أخرى: من هذه الحقوق:
1ـ الدعاء والاستغفار لهما: قال تعالى: [وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً]( )، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)( ).
2ـ إكرام صديقهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما: عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً من الأعراب لقيه بطريق مكة فسلم عليه عبد الله وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه فقال ابن دينار فقلنا له: أصلحك الله إنهم الأعراب، وإنهم يرضون باليسير، فقال عبد الله: إن أبا هذا كان وداً لعمر بن الخطاب وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه)( ).
3ـ الحج عنهما وقضاء الصوم وغير ذلك: عن بريدة قال: بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت فقال: (وجب أجرك وردها عليك الميراث، قالت: يا رسول الله، إنها كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال: صومي عنها، قالت: إنها لم يحج قط أفأحج عهنا؟ قال: حجي عنها)( ).
وقد قيل: إن بر الأم مقدم على بر الأب؛ لأنها تنفرد عن الأب بأشياء منها مشقة الحمل، وصعوبة الوضع، وصعوبة الرضاع، وكثرة الشفقة والخدمة والحنو.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال ثم أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك)( ).
وبالجملة نقول: إن بر الوالدين شرط أساسي في قبول الأعمال الصالحة فإذا كان المرء باراً بوالديه قبلت منه أعماله أمّا إذا كان عاقاً لهما فلا ترفع أعماله حتى يبرهما ويحسن إليهما، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة عاق، ولا مدمن خمر…)( ).
فاتقوا الله أيها الأبناء وبروا آباءكم يبركم أبناؤكم، واعلموا أن بر الوالدين كما هو من أحب الأعمال إلى الله عز وجل فكذلك عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، جعلنا الله وإياكم من البارين بآبائهم.
قال بعضهم:
لأمك حق لو علمت كبير
*** كثيرك يا هذا لديه يسير

فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي
*** لها من جواها أنة وزفير

وفي الوضع لو تدري عليك مشقة
*** فكم غصص منها الفؤاد يطير

وكم غسلت عنك الأذى بيمينها
*** ومن ثديها شرب لديك نمير

وكم مرة جاعت وأعطيتك قوتها
*** حُنواً وإشفاقاً وأنت صغير

فضيعتها لما أسنَّت جهالة
*** وطال عليك الأمر وهو قصير

فآهاً لذي عقل ويتبع الهوى
*** وواهاً لأعمى القلب وهو بصير

وقال آخر:
قضى الله أن تعبدوا غيره حتما
*** فياويح شخص غير خالقه أمّا

وأوصاكمو بالوالدين فبالغوا
*** ببرهما فالأجر في ذاك والرّحما

فكم بذلا من رأفة ولطافة
*** وكم منحا وقت احتياجك من نعما

ثانياً: حقوق الأبناء على الآباء:
جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكو إليه عقوق ابنه فأحضره عمر وسأله لما تعق والدك؟ فقال الولد: يا أمير المؤمنين أليس للولد حق على أبيه؟ قال: بلى، قال: فما هي؟ قال: أن ينتفي أمه، ويحسن اسمه، ويعلمه الكتاب (أي القرآن).

فقال الولد: يا أمير المؤمنين إنه لم يفعل شيئاً من ذلك، أما أمي فإنها زنجية كانت لمجوسي، وقد سماني جعلاً، ولم يعلمني من الكتاب حرفاً واحداً؟ فالتفت إليه أمير المؤمنين وقال له: أيها الرجل، أجئت إليّ تشكو عقوق ابنك وقد عققته قبل أن يعقك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك.
فنستطيع أخي المسلم من خلال النص السابق أن نحدد حقوق الأبناء على الآباء وهي:
1ـ أن يحسن اختيار أمه: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، وجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)( ).
فالمرأة الصالحة هي خير متاع الحياة الدنيا، وهي التي يسر زوجها إذا نظر إليها وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه في نفسها وماله إذا غاب عنها، وترعى أولاده وخدمه وحشمه وتحافظ عليهم.
المرأة الصالحة التي تعين زوجها على طاعة الله عز وجل وتكون خير عون له على أمر دينه ودنياه، المرأة الصالحة التي إذا غضبت من زوجها أو غضب منها زوجها قالت له: هذه يدي في يدك لا أكتحل بغمض حتى ترضى وهي التي أخبر عنها الرسول أنها من أهل الجنة.
المرأة الصالحة هي التي تربي أولادها على الصدق والأمانة والعفة والعزة كأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وهي تعلم ولدها عبد الله بن الزبير رضي الله عنه العزة في دين الله عز وجل وتقول له: يا بني لضربة بسيف في عز أعظم وأكرم وأشرف عند الله عز وجل من ضربة بسوط في ذل.
المرأة الصالحة التي تعرف واجبها تجاه ربها، وواجباتها تجاه زوجها، وواجبها تجاه أولادها وبيتها، وواجبها تجاه دينها ودعوتها، وواجبها مجتمعها الذي تعيش فيه وأنها لابد أن تكون نافعة له، فتؤدي كل ما عليها من هذه الواجبات بانضباط وانتظام وبدون إفراط أو تفريط، فإذا فعلت ذلك كانت عاقبتها عند الله طيبة عظيمة. عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذّا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت)( ).
2ـ أن يحسن اختيار اسمه: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن)( ).
فعلى الأب أن يختار لابنه اسماً حسناً حيث إنه سيدعي به يوم القيامة ومن ذلك أسماء الأنبياء والصحابة وغيرهما مما يحمل معناً عظيماً يسر به الولد إذا كبر، وعلى الأب أن يبتعد عن تلك الأسماء التي يمكن أن تكون سبباً في ضحك الناس على الابن والاستهتار به مثل: شحات، وفلفل، وفجله، وخشية، وجحش وجَدي، وبغل، وثور، وحلبسه، وسجلابي، وجعران، وزويل.
وأن يبتعد الأب أيضاً عن الأسماء المستوردة التي ربما تكون سبباً في أن ينظر العقلاء من الناس إلى الابن أو الابنة على أنهما من المدللين الذين لا يعتد بهم ولا يعتمد عليهم في أي شيء مثل: ميمي، ميرٌ، شوشو، سوسو، فيفي، هايدي، وشادي وغيها من هذه الأسماء.
3ـ أن يعلمه شيئاً من القرآن: قال الإمام الشافعي رحمه الله: ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم، فهو نور يهتدي به الحائر)، ويقول القابسي:
فمن رغب إلى الله أن يجعل له من ذريته قرة أعين، لم يبخل على ولده بما ينفقه عليه في تعليمه القرآن، فلعل الوالد إذا أنفق ماله عليه في تعليمه القرآن أن يكون من السابقين بالخيرات بإذن الله، والذي يعلم ولده فيحسن تعليمه
ويؤدبه فيحسن تأديبه قد عمل عملاً يرجى له من تضعيف الأجر فيه( ).
والأب عندما يفعل ذلك إنما يخدم به نفسه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما يروي عنه أبو هريرة: (إذا مات الإنسان انقطع عمله عنه إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)( )؛ فالأب إذا ربى ولده على أخلاق الإسلام وحفظ القرآن، وألزمه بأخلاق النبي محمد صلى الله عليه وسلم نشأ الولد نشأة صالحة وكان دائماً في طاعة الله عز وجل، ومن ثم إذا مات الأب نفعه هذا الابن الصالح بالدعاء حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قد وضح لنا بأن الدعاء المقبول مقصور على الولد الصالح.
اللهم اجعلنا من البارين بآبائهم ، واجعلنا خير أبناء الخير آباء، وبارك لنا في آبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهما كما ربياني صغيراً، واغفر لهما وأدخلهما الجنة، واجزهما عنا خير الجزاء واجمعنا بهما في الجنة واغفر لموتانا وموتى المسلمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس السادس:
ـــــــــــــــــ

حقوق الزوجين

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى، أمر بالزواج للحفاظ على النوع البشري، وجعل الزواج حصناً لعباده من الغوية والضلال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه، أما بعد.
فيقول الله تعالى آمراً الشباب الذين تموج بهم الشهوة موجاً ولا يجدون ما يتزوجون به: [وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
ويقول صلى الله عليه وسلم في نفس المقام: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)( ).
معاشر الشباب ممن أنعم الله عليهم بالزواج، معاشر النساء المسلمات ممن أنعم الله عليهن بنعمة الزواج: فاتقوا الله في الصلة التي بينكم وحافظوا على العلاقة التي نظمها الله عز وجل لكم في كتابه الكريم مبيناً أن أساس هذه العلاقة وهي علاقة الزوجية المودة والرحمة كما قال الله تعالى: [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ* وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
اعلموا وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه أنه يلزم كل واحد من الزوجين معاشرة الآخر بالمعروف من الصحبة الجميلة وكف الأذى، وألا يماطله حقه مع قدرته، ولا يظهر الكراهة لبذله بل ببشر وطلاقة وطيب نفس ولا يتبعه منّه ولا أذى، لأن هذا من المعروف المأمور به في قوله تعالى: [ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ] ( ). وقوله تعالى:[وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ]( ).
وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (إني أحب أن أتزين كما أحب أن تتزين لي، لأن الله تعالى يقول:[وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ]( )، وحق الزوج على الزوجة أعظم من حقها هي عليه لقوله تعالى: [وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( )، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)( ).
أولاً: حقوق الزوج على زوجته:
1ـ القوامة:
يقول الله تعالى: [الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ]( ).
وهذا الحق تنازل عنه الكثير من الناس بمحض اختيارهم مما كان له أثر سيء على استقرار الحياة الزوجية، فعلى الرجل أن يكون حازماً في لين، عطوفاً في غير رخاوة، فالمرء إذا كان صلباً كُسر ليناً طوي، ولكن الأفضل أن يكون وسطاً في كل شيء لتستمر الحياة الزوجية في خير سعادة وهناء.
2ـ الطاعة بالمعروف:
يقول الله تعالى: [وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً]( ).
عن حصين بن محصن قال: حدثتني عمتي قالت: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الحاجة فقال: أي هذه، أذات بعل أنت؟ قلت: نعم، قال: كيف أنت له؟ قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه، قال: فأين أنت منه؟ فإنما هو جنتك ونارك)( ).
3ـ ألا تأذن لأحد في بيته إلا بإذنه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن بي بيته إلا بإذنه…)( ).
قال النووي ـ رحمه الله ـ: في هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يفتات على الزوج إلا بإذنه في بيته، وهو محمول على ألا تعلم رضا الزوج به، أما لو علمت رضا الزوج بذلك، فلا تحرج عليها( ).
4ـ خدمتها له:
فخدمة الزوجة لزوجها من الأمور الواجبة عليها له، وهذا الأمر يختلف من بيت لآخر، ومن زوج لزوج، ومع ذلك نجد من النساء من ترهق زوجها فتطالبه بخادمة مع قدرتها على القيام بشؤون البيت، واستغنائها عمن يخدمها، وهذا الأمر يكون فيه ثقل على كاهل الزوج، ويحدث بسببه مشاكل جمّة تنتج عن انفراد بعض أبناء البيت من الشباب بهذه الخادمة، وعلى الزوج أن لا يكلف زوجته ما لا تطيق ويقتدي بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان يخصف نعله ويرقع ثوبه ويعلف الناضح ويقم البيت إلى آخر ذلك من الأمور التي تدل على عظيم تواضعه صلى الله عليه وسلم.
5ـ ألا تصوم وزوجها حاضر إلا بإذنه:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه…)( )، وذلك لأن صيام التطوع قد يفوت على الزوج كمال الاستمتاع بزوجته ويحرمه منها أثناء صيامها، فإن رضي به فقد أسقط حقه باختياره ولا حرج هنا عليها، وإذا لم يرض به فالأوجب عليها أن تتركه وذلك فيما يخص الصيام في النافلة الذي يكون تطوعاً أما صيام الواجب كصيام رمضان وغيره فليس للزوج أن يمنع زوجته منه.

6ـ أن تحافظ على نفسها وماله وأولاده:
إن أنفس ما في بيت الرجل زوجته وماله وأولاده وهي أمانة بيد المرأة يجب عليها تمام حفظها ورعايتها لأنها مسترعاة على ما في البيت ومسؤولة عنه يوم القيامة، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع ومسؤول عن رعيته … والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها…)( ).
ونجمل أخي المسلم حقوق الزوج على زوجته بحديث عمرو بن الأحوص قال: شهدت حجة الوداع مع رسول اللهصلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ فذكر في الحديث قصة فقال: (… ألا واستوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً، ألا إن لكم على نسائكم حقاً، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن)( ).
ثانياً: حق الزوجة على الزوج:
وقد أجملة الحديث الذي رواه حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه قال: (قلت: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت أو اكتسبت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح ولا تهجر إلا في
البيت)( ).
وإليك أخي المسلم حقوق الزوجة على الزوج تفصيلاً:
1ـ المهر:
لقول الله تعالى: [وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً]( )، على أن يكون هذا الأمر بدون إفراط ولا تفريط، ولا إسراف ولا تقتير، على أن نأخذ في اعتبارنا أيضاً حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيما روته عنه عائشة رضي الله عنها أنه قال: (إن من أعظم النساء بركة أيسرهن صداقاً)( ).
2ـ النفقة والسكن:
يقول الله تعالى: [وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ]( )،
ويقول تعالى: [أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ]( ).
وما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: أتت هند إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح وأحتاج أن آخذ من ماله فقال صلى الله عليه وسلم: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)( ).
3ـ المعاشرة بالمعروف:
يقول الله تعالى: [وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ]( ).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي…)( ).
فعلى المزوج أن يمتثل أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في معاملته مع زوجاته ويلتزم المنهج الشرعي في معاملتها بالمعروف والحسنى، فلنعامل قوارير البيوت وشقائق الرجال معاملة طيبة على أن لا تكون هذه المعاملة بها تكلف وغير طبيعية بل يجب أن يكون الصدق أساسها والرحمة والمودة من ظواهرها.
4ـ المبيت والمعاشرة:
فعلى الزوج أن يراعي هذا الحق حتى لا يضطر حليلته إلى الخروج عن حيائها فعليه أن يكون عطوفاً حنوناً عليها، يداعبها، ويحن إليها، ويشبع غريزتها، عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً، فقال: كل، قال: إني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل أقسمت عليك، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق سلمان)( ).
5ـ تعليمها أمور دينها:
وهذا الحق أهم الحقوق كلها خاصة إذا كانت المرأة لم تأخذ من التعليم الشرعي ما يكفيها في أمور دينها ودنياها، فالمرأة إذا فقهت أمور دينها وعلمت ما عليها من واجبات تجاه ربها، وتجاه زوجها وبيتها وأولادها، وتجاه دينها وتجاه دعوتها، وتجاه المجتمع الذي تعيش فيه استطاعت أن تخطو خطوات راسية نحو إنشاء جيل مسلم يتربى على الطهر والعفة والصدق ليس هذا فحسب، بل إنها بذلك تستطيع أن تعبد ربها على بصيرة، وتؤدي العبادات على الوجه الصحيح لها، ومن ثم تنجو من عذاب الله يوم القيامة، وما أحوجنا هذه الأيام إلى أمهات صالحات ينشئن أجيالاً نقية طاهرة تدافع عن الدين وتحمي الأوطان.
6ـ على الزوج أن لا يطلق العنان لزوجته تختلط مع الرجال وتحادثهم، وتذهب للأسواق وحدها، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الحمو( ) هو الموت فكيف بغيره.
فعلى الزوج أن يصون كرامة زوجته ويحفظ عرضها ويغار عليها، وعلى الزوجة أن تحتجب ولا تظهر شيئاً من مفاتنها أمام الأجانب.
والمرأة المسلمة يجب أن تكون كذلك حتى لا تعدو عليها الذئاب البشرية، وعلى الزوج أن يكون غيوراً على زوجته مقتدياً بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأطهار، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (…قال صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من غيرة سعد فوالله لأنا أغير منه والله أغير مني…)( ).
فعليكم أيها الأزواج أن تغيروا على زوجاتكم وتحافظوا عليهن؛ لأن الذئب لا يأكل من الغنم إلا القاصية.
ثالثاً: الحقوق المشتركة بين الزوجين:
هناك حقوق مشتركة بين الزوجين على كل منهما أداؤها على الوجه الذي يرضي الله عز وجل ومن هذه الحقوق:
1ـ عدم إفشاء السر:
إن هذا الحق أيها الأحبة من الآداب العامة التي حث عليها الإسلام، فعلى كل منهما أن يكتم ما يراه من صاحبه أو يسمعه منه خاصة فيما يقع بينهما، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة؛ فالرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها)( ).
2ـ المناصحة بينهما:
عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة. قلنا لمن؟ قال: الله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم)( ).
فالتناصح بين الزوجين له دور كبير وعظيم في الارتقاء بمستوى الأسرة، ورتق الفتوق الواقعة فيها، وإنارة درب السلامة من التردي في خطأ، بيد أن كثيراً من الأزواج يرى من غير الطبيعي أن تؤدي المرأة دورها في نصيحة زوجها، وأن من السائغ والمعتاد لدى الرجال أن تكون النصيحة من جانب الزوج دون زوجته ويصل الظن ببعض الرجال على أن قيام الزوجة بالنصيحة نوع من التطاول والعجرفة وخدش لكرامة الرجل، وقوامته.
وهذا فهم خاطيء لا يتوافق وخلق التواضع، بل لا يتوافق وفهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر؛ حيث يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي)، وكذلك قال بعض التابعين: (إن المسلم الناصح لأخيه المسلم كمن يقول لشخص ما: اهرب فإن قمة هذا الجبل ستقع فوقك فتودي بحياتك، أو استيقظ مسرعاً فإن هذه الحية ستلدغك).
وعدم قبول النصح بين الزوجين ربما كان سبباً في هدم الأسرة وعدم سعادتها، فاتقوا الله أيها الأزواج وقبلوا النصح من زوجاتكم، واتقين الله إماء الله واقبلن النصح من أزواجكن بصدر حب لتحافظوا على كيان الأسر، ولتهنأوا بسعادة عظيمة.
3ـ الشورى:
يقول الله سبحانه وتعالى: [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ]( )، وقال تعالى: [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ]( ).
والشورى مبدأ عظيم وأساسي بل ركيزة هامة من ركائز ديننا الحنيف فإذا
وجد هذا المبدأ بين الزوجين كان له الأثر الأكبر في سعادة كل منهما واستقرار الحياة بينهما بل وشعور جميع أعضاء الأسرة بالأمن والطمأنينة؛ لأن الرجل عندما يستشير زوجته هو يشعرها بكيانها وبدورها في هذا البيت التي هي ركن أساسي من أركانه بعيداً كل البعد عن هذه المفاهيم السقيمة التي يظن مدعيها أن مشورة المرأة تقدح في قوامة الرجل عليها.
والله سبحانه وتعالى يقول: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً]( )؛ فلقد دخل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على أمنا أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها غاضباً مما فعل أصحابه يوم الحديبية حيث أمرهم بالحلق والتحلل فكأنهم تحرجوا وتباطئوا فأشارت عليه أم سلمة رضي الله عنها أن يحلق هو حتى يحلقوا؛ فأخذ صلى الله عليه وسلم بمشورتها فما كان من الصحابة إلا أن بادروا إلى امتثال أمره عليه الصلاة والسلام.
وهكذا يجب أن يسود التعاون والمودة والرحمة والحب والعطف الحياة الزوجية ليهنأ كل منهما بهذه الحياة وينشأ ذرية صالحة تخدم دين الله عز وجل، وتدافع عن البلاد والأوطان.
اللهم بارك لنا في زوجاتنا وبارك لزوجاتنا فينا، اللهم ارزقنا ذرية طيبة صالحة تعبدك من بعدنا يا كريم، اللهم هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم اجعل في زوجاتنا نوراً، وفي أبنائنا نوراً، وفي بناتنا نوراً، وفي آبائنا نوراً، وفي أمهاتنا نوراً، اللهم أعظم لنا نوراً، يا نور السماوات والأرض.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس السابع :
ـــــــــــــــــ
حق الجار

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، أما بعد:
فيقول الله تعالى: [وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ]( ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهن أو يعلم من يعمل بهن؟ فقال أبو هريرة: فقلت: أنا يا رسول الله، فأخذ بيده وعد خمساً وقال: اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً، وأحب الناس ما تحب لنفسك تكن مسلماً، ولا تكثر الضحك؛ فإنه كثرة الضحك تميت القلب)( )، وعن أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره…)( ).
واعلم أخي المسلم أن الجار أحد ثلاثة: إما أن يكون جاراً غير مسلم؛ فهذا حقه الجوار فقط، وإما أن يكون جاراً مسلماً؛ فهذا له حق الجوار وحق الأخوة في الإسلام، وإما أن يكون جاراً مسلماً قريباً، فهذا له حق الجوار، وحق أخوة الإسلام وحق صلة الرحم؛ فليراع ذلك بارك الله فيكم.
وعلى المسلم أن يتجنب أذى جاره أو النظر إلى محارمه، فقد ورد في ذلك نهي شديد فيما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قال قلت له: إن ذلك لعظيم، قال: قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قال: قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تزاني حليلة جارك( )؛ فأنزل الله تعالى: [وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً]( ).
وما أجمل قول الشاعر:
أغض طرفي إن بدت لي جارتي
*** حتى يواري جارتي مأواها

واعلم أخي المسلم أن حقوق الجار على الجار كثيرة منها:
1ـ إذا استعانك أعنته:
عن جابر بن عبد الله قال: … قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (… من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)( )؛ فخير الناس أنفعهم للناس وخير الناس من كان في عون الناس لأن الناس لا يستغني بعضهم عن بعض كما قال أحدهم:
الناس للناس من بدو وحاضرة
*** بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم

يقول علقمة بن لبيد يوصي ولده: (يا بني إن احتجت إلى صحبة الرجال فاصحب: من إن صحبته زانك، وإن أصابتك خصاصة أعانك، وإن قلت سدد قولك، وإن صلت قوى صولتك، وإن بدت منك ثلمة( ) سدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن سألته أعطاك، وإن نزلت بك إحدى المهمات واساك، من لا تأتيك منه البوائق، ولا تختلف عليك منه الطرائق)( ).
ولاسيما إذا كان هذا الصديق جاراً وفياً يعرف حقوق جاره عليه، فإنه لا شك سيكون نعم الجار وينطبق عليه كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في سلوك الجار مع الجار وهو يقول: إن الجار يغفر لجاره زلته، ويرحم عبرته ويستر عورته، ويقيل عثرته، ويلتمس عذره، ويرد غيبته، ويديم صحبته، ويحفظ خلته، ويرعى ذمته، ويعود مرضته، ويشهد جنازته، ويجيب دعوته، ويقبل هديته، ويكافئ صلته، ويشكر نعمته، ويحسن نصرته، ويحفظ حرمته، ويقضي حاجته، ويقبل شفاعته، ولا يخيب طلبته، ويشمت عطسته، ويرشد ضالته، ويرد سلامه، ويستحسن كلامه، ويبر أقسامه، ويصدق أحلامه، وينصره ظالماً؛ برده عن ظلمه، ومظلوماً بإعانته على أخذ حقه، ويواليه ولا يعاديه، ولا يخذله، ولا يشمته، ويحب له الخير كما يحب لنفسه، ويكره له من الشر ما يكره لنفسه( ).
2ـ إذا استقرضك أقرضته:
أخرج ابن ماجه في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوباً: الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر، فقلت لجبريل: ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: لأن السائل يسأل عنده، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة)( ).
والقرض الحسن أخي المسلم هو الذي لا يكون فيه منُ ولا أذى وبعيداً عن شبهة الحرام كالربا وغيره، قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ]( )، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا الموبقات السبع، قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا…)( ).
وقد قيل: إن أبا حنيفة رحمه الله كان لا يجلس في ظل دار جاره الذي أقرضه ملاً، لأنه يعتبر هذا من الربا حسب القاعدة عنده ـ كل قرض جر نفعاً فهو ربا ـ ولذا على المسلم التقي النقي إذا أقرض إنساناً مبلغاً من المال فلا يدخل بيته كثيراً بصورة لم يكن معتاداً عليها لكي يأكل أو يشرب أو غير ذلك.
وعلى المسلم أن يتورع أيضاً عن تكلفة مدينة بقضاء بعض المصالح فيكون بذلك قد ألحق به الضرر حيث إنه يستحي من دائنه بسبب هذا القرض، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ضرر ولا ضرار…)( ).
3ـ إذا افتقر عدت عليه:
أي أحسنت إليه وتعاونت معه تأكيداً للمعنى الكبير الذي يشير إليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)( ).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله عز وجل خلقاً خلقهم لحوائج الناس: يفزع الناس إليهم في حوائجهم، أولئك الآمنون من عذاب الله)( ).
ومن أجل ذلك كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الفضلاء عليهم رضوان الله أجمعين يتسابقون ويتنافسون في فعل الخير والتعاون والتراحم لأنهم يعلمون أن الجائزة جنة عرضها السماوات والأرض فهذا عمر بن الخطاب يستعمل رجلاً على حمص يقال له: عمير بن سعد، فلما مضت السنة كتب إليه أن أقدم علينا، فلم يشعر عمر إلا وقدم عمير ماشياً حافياً، عكازته بيده، وإداوته ومزوده وقصعته على ظهره، فلما نظر عمر إليه قال: يا عمير، أجبتنا أم البلاد بلاد سوء؟ فقال يا أمير المؤمنين: أما نهاك الله تجهر بالسوء؟ وتنأى عن سوء الظن؟ وقد جئت إليك بالدنيا أجرها بقرابها، فقال له: وما معك من الدنيا؟ فقال: عكازة أتوكأ عليها وأدفع بها عدواً إن لقيته، ومزوداً أحمل فيه طعامي، وإداوة أحمل فيها ماءً لشربي وطهوري، وقصعة أتوضأ فيها، وأغسل فيها رأسي، وآكل فيها طعامي، فوالله يا أمير المؤمنين، ما الدنيا بعد إلا تبع لما معي.

فقام عمر فبكى بكاءً شديداً ثم قال: اللهم ألحقني بصاحبي غير مفتضح ولا مبدل، ثم عاد إلى مجلسه فقال: ما صنعت في عملك يا عمير؟ قال: أخذت الإبل من أهل الإبل، والجزية من أهل الذمة عن يد وهم صاغرون، ثم قسمتها بين الفقراء والمساكين وأبناء السبيل فوالله يا أمير المؤمنين لو بقي عندي منها شيء لأتيتك به، فقال عمر: عد إلى عملك يا عمير، فقال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تردني إلى أهلي، فأذن له، فأتى أهله.
فبعث عمر رجلاً يقال له حبيب بمائة دينار وقال: اختبر لي عميراً، وانزل عليه ثلاث أيام حتى ترى حاله هل هو في سعة أو ضيق؟ فإن كان في ضيق فادفع إليه الدنانير، فأتاه حبيب إن أردت أن تتحول إلة جيراننا فافعل لعلهم يكونون أوسع عيشاً منا فإنا والله لو كان عندنا غير هذا لآثرناك، فدفع إليه حبيب بالدنانير وقال له: قد بعث بها أمير المؤمنين إليك فدعا بفرو خلق لامرأته فجعل يصر منها الخمسة الدنانير والستة والسبعة ويبعث بها إلى إخوانه من الفقراء إلى أن أنفذها.
فقدم حبيب على عمر، وقال جئتك يا أمير المؤمنين من عند أزهد الناس، وما عنده قليل ولا كثير، فأمر له عمر بوسقين من طعام وثوبين فقال: يا أمير المؤمنين: أما الثوبان فاقبلهما، وأما الوسقان فلا حاجة لي بهما، عند أهلي صاع من بر هو كافيهم حتى أرجع إليهم( ).
هكذا أخي المسلم يجب أن يكون الجار مع الجار.
4ـ إذا مرض عدته:
عن علي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم يعود مسلماً غدوة إلا صلي عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح وكان له خريف في الجنة)( ).
وإن زيارة المرضى تقرب الناس من بعضهم البعض وترفع معنويات المريض وتجعل بينهم صلات قوية ليس هذا فحسب بل هي موعظة بليغة للزائر أنه يرى أن الإنسان مهما تكبر وتعنت فيمكن لقليل من المرض أن يرقد في السرير ومن ثم يبتعد عن المعاصي حتى لا يناله انتقام الجبار المتكبر الذي ربما يبتليه بمرض يودي بحياته.
ومن السنة أن يقول الزائر للمريض، لا بأس عليك طهور إن شاء الله، شفاك الله وعافاك، وأن يطعمه في الحياة وقرب الشفاء، إلى غير ذلك من الكلمات الطيبة التي يكون لها أثر عظيم في نفس المريض.
5ـ إذا أصابه خير هنأه:
فعلى الجار أن يظهر الفرحة بخير أصاب جاره حتى يشعر بحبه له وسعادته بما هو سعيد به؛ فإذا رأيت جارك أو صاحبك قد لبس ثوباً جديداً فقل له قولة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام: عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى على عمر قميصاً أبيض فقال: (ثوبك هذا غسيل أم جديد؟ قال: لا، بل غسيل، قال : البس جديداً وعش حميداً ومت شهيداً)( ).
وإذا قدم جارك من سفر فقل له: (الحمد لله الذي سلمك، والحمد لله الذي جمع الشمل بك)( ).
وإذا رجع من غزو فقل له: (الحمد لله الذي نصرك وأعزك وأكرمك)( ).
وإذا أراد أن يحج فقل له مودعاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أريد هذه الناحية للحج، قال فمشى معه وقال: يا غلام، زودك الله التقوى، ووجهك في الخير وكفاك الهم، فلما رجع سلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرفع رأسه إليه فقال: يا غلام، قبل الله حجك وكفر ذنبك وأخلف نفقتك)( ).
وإذا أراد الزواج فقل له بعد عقد النكاح ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفأ الإنسان، إذا تزوج قال له: (بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في الخير)( ).
وإذا رزق بمولود فيستحب أن يهنأ بما جاء عن الحسين بن علي رضي الله عنه أنه علم إنساناً التهنئة فقال له: إن أردت أن تهنئ من رزقه الله بمولود فقل له: (بارك الله لك في الموهوب لك وشكرت الواهب، وبلغ أشده، ورزقت بره)
ويستحب أن يرد عليك المهنئ فيقول لك: (بارك الله لك، وبارك عليك وجزاك الله خيراً، ورزقك الله مثله، أو أجزل الله ثوابك)( ).
6ـ إذا أصابته مصيبة عزيته:
أيها الأخ المسلم: اعلم أن التعزية فيها كثير من التعاطف والتحاب والتعاون على البر والتقوى والحمل على الصبر والرضا بالقضاء والقدر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحث على الرجوع إلى الله تعالى، وفيها تسلية المصاب والتخفيف عنه لتقل عليه المصيبة شيئاً ما، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عزى مصاباً فله مثل أجره)( ).
على أن يكون لفظ التعزية لفظاً شرعياً كما ورد في السنة، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: (أرسلت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم إليه أن ابناً لي قُبض فأتنا فأرسل يقرئ السلام ويقول: (إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب…)( ).
7ـ إذا مات اتبعت جنازته:
لأن ذلك من حقوق المسلم على المسلم وهي إلى الجار أقرب، عن أبي هريرة
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى على جنازة فله قيراط،
ومن تبعها حتى يقضى دفنها فله قيراطان أحدهما أو أصغرهما مثل أحد)( ).
فلتعتبر نفسك مسؤولاً عن أسرة جارك منذ لحظة وفاته وافعل معهم حسبما يقتضي الشرع الحكيم من قرآن وسنة ما كنت تتمنى أن يفعله جارك مع أهلك وأولادك لو كنت أنت الميت ملتزماً بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في كل أفعالك متورعاً عن الحرام مهما صغر.
8ـ لا تستطل عليه بالبنيان فتحجب عنه الريح إلا بإذنه:
وفي هذا الحق يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون هناك احترام متبادل بين الجيران بحيث يحافظ كل منهما على مصلحة الآخر، وبحيث لا يكون سبباً في منع الخير عنه، أو منع الهواء عنه، فإذا أراد الجار أن يبني جداراً يفصل بينه وبين جاره لابد وأن يلاحظ عدم استطالة هذا الجدار حتى لا يحجب الهواء عن جاره، وإذا رأى ضرورة لذلك فيجب أن يستأذنه أولاً ويستمع إلى رأي جاره حتى لا يحدث ضرر ولا ضرار وحتى لا يكون هناك تعد على مصلحة هذا الجار الملاصق.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ضننت أنه ليورثه)( ).
9ـ ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها:
فعلى المسلم تجاه هذا الحق أن يكون سخياً لاسيما بالنسبة لجاره الفقير الذي يؤلمه ويؤلم أولاده مطالبتهم إياه أن يحضر لهم لحماً وهو لا يستطيع فهذا واجب عليك حتى لا تكون سبباً في تورطه مع أولاده وحتى تكون من المؤمنين الذين قال الله فيهم: [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( )، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع)( ).
10ـ وإن اشتريت فاكهة فأهد له:
فإن لم تفعل فأدخلها سراً ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده، فخروج أولادك بالفاكهة ليغيظوا بها أولاده يحزنه ويغضبه لأنه عاجز عن شراء مثلها ليرضي أولاده، فلا حفظ هذا أخي المسلم حتى لا تقع الضغينة بينك وبين جارك.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كم من جار متعلق بجاره يوم القيامة يقول: يارب هذا أغلق بابه دوني فمنع معروفه)( ).
فعليك أخي المسلم أن تؤدي هذه الحقوق مع غيرها من الحقوق الأخرى التي أشار إليها الإمام الغزالي رحمه الله بقوله: (وجملة حق الجار أن يبدأه بالسلام، ولا يطيل معه الكلام، ولا يكثر عن حاله السؤال، ويعوده في المرض، ويعزيه في المصيبة، ويقوم معه في العزاء، ويهنئه في الفرح، ويظهر الشركة في السرور معه، ويصفح عن زلاته، ولا يتطلع من السطح إلى عوراته، ولا يضايقه في وضع الجذع على جداره، ولا في مصب الماء في ميزابه، ولا في مطرح التراب في فنائه، ولا يضيق طريقه إلى الدار، ولا يتبعه النظر فيما يحمله إلى داره، ويستر ما ينكشف له من عوراته، وينعشه في صرعته إذا نابته نائبة، ولا يغفل عن ملاحظة داره عند غيبته، ولا يسمع عليه كلاماً، ويغض بصره عن حرمته، ولا يديم النظر إلى خادمته، ويتلطف بولده في كلمته، ويرشده إلى ما يجهله من أمر دينه ودنياه…)( ).
اللهم اجعلنا من المؤدين لحقوق الجار، ومن الملتزمين بأخلاق نبيك المختار، وأعتق رقابنا يا كريم من النار، وأدخلنا الجنة مع الأبرار برحمتك يا عزيز يا غفار، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وتلاوة كتابك الكريم آنا الليل وأطراف النهار.وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس الثامن :
ــــــــــــــــــ

صلة الرحم

الحمد لله الرحمن الرحيم، وسعت رحمته كل شيء، سبحانه وتعالى جعل صلة الرحم سبباً في زيادة الرزق، وسبباً للحصول على البركة في العمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً رسول الله خير من وصل رحمه وخير من أحسن إليهم وخير من تقرب إليهم، أما بعد:
فيقول الله تعالى: [وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى]( ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه، قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فهو لك)( )، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرءوا إن شئتم: [فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ]( ).
والرحم هي القرابة، وسميت بذلك لأنها داعية التراحم بين الأقرباء، وصلة الرحم موجبة لرضا الرب عن العبد وموجبة لثواب الله للعبد في الآخرة، والرحم سبب لبسط الرزق وتوسيعه وسبب لطول العمر، وهذه الأشياء من الأمور المحبوبة إلى العبد.
وإنما رتبت البركة في العمر على صلة الرحم؛ لأن المرء إذا وصل رحمه أرضى ربه فأجله أقرباؤه واحترموه، فامتلأ نفسه سروراً وشعر بمكانة عالية من أجل ما وفقه الله له من صنيعه الذي صنع، والسرور منشط، كما أن الحزن مثبط والشعور بالتعظيم عن الأعمال الطيبة داع للإكثار منها، وبذل الجهد في سبيلها.
والمراد بصلة الرحم موالاتهم ومحبتهم أكثر من غيرهم؛ لأجل قرابتهم وتأكيد المبادرة على صلحهم عند عداوتهم، والاجتهاد في إيصال كفايتهم بطيب نفس عند فقرهم، والإسراع إلى مساعدتهم ومعاونتهم عند حاجتهم، ومراعاة جبر قلوبهم مع التعطف والتلطف بهم وتقديمهم في إجابة دعوتهم والتواضع معهم، ونصحهم في كل شؤونهم والبداءة بهم في الدعوة والضيافة قبل غيرهم، وإيثارهم في الإحسان والصدقة والهدية على من سواهم؛ لأن الصدقة عليهم صدقة وصلة؛ وذلك في حالة إذا كانوا مسلمين وأهل استقامة.
أما إن كانوا كفاراً فجاراً؛ فمقاطعتهم في الله هي صلتهم، بشرط بذل الجهد في وعظهم وإعلامهم ـ إذا أصروا ـ بان ذلك بسبب بعدهم عن الحق، ولا يسقط مع ذلك صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب أن يهديهم اله عز وجل، وأن يعودوا على صراط الله المستقيم.
وإنه لن يحدث جرم أو ذنب مثل الذي حدث من مسطح بن أثاثة الذي اشترك مع عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين في المدينة، وحمنة بنت جحش في حادثة الإفك يوم أن اتهموا أمنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بصفوان بن المعطل في غزوة بني المصطلق، ولاقى أربعة أشخاص هم من خيرة الناس على وجه الأرض أشد ما لاقوا من العناء والتعب النفسي والحزن والهم شهراً كاملاً انقطع فيه الوحي عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهم أشرف الخلق: محمد صلى الله عليه وسلم ورفيق حياته وأول من آمن به من الرجال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وابنته أطيب الطيبات وأعف العفيفات ومن أطهر النساء عائشة رضي الله عنها وإنها والله لو لم تكن من أطيب الطيبات لما أصبحت زوجة لأطيب الطيبين، والرابع هو أحد صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال الرسول في حقه: (والله ما رأيت منه إلا خيراً)( ).
ولما جاء الوحي ببراءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بقول الله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( )، قطع أبو بكر الصديق العطايا التي كان يعطيها لمسطح بن أثاثة بعدما خاض في عرض ابنته لكن الله سبحانه وتعالى عاتب أبا بكر الصديق على ذلك في نفس السورة التي نزلت فيها براءة ابنته، يقول الله تعالى: [وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وقد نزلت هذه الآية الكريمة بعد أن تاب مسطح بن أثاثة توبة نصوحاً( ) حتى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: والله لأرجع إلى مسطح النفقة التي كنت أعطيه إياها ولا أنزعها منه أبداً لأني أحب أن يغفر الله لي.
ولذلك لما كتب ابن المقري رسالة لوالده حين امتنع عن النفقة عليه يقول له فيها:
لا تقطعن عادة برّ ولا

*** تجعل عتاب المرء في رزقه

فإن أمر الإفك من مسطح
*** يحط قدر النجم من أفقه

وقد جرى الذي قد جرى منه
*** وعوتب الصديق في حقه

فإذا بوالده يجيبه ويوضح له السبب في ذلك المنع قائلاً:
قد يمنع المضطر من ميتة
*** إذا عصى في السير في طرقه

لأنه يقوى على توبة
*** توجب إيصالاً إلى رزقه

لو لم يتب من ذنبه مسطح
*** ما عوتب الصديق في حقه

وإنه مما يؤكد هذا المعنى العظيم وهو الحلم عن الأقارب إذا أساءوا إلى الإنسان ومعاملتهم معاملة طيبة رغم المعاداة التي يقومون بها تجاه هذا الشخص، ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً قال: يا رسول الله إني لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليّ، فقال: (لئن كنت كما تقول فكأنما تسفهم الملل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك)( ).
وفي حديث أبي سفيان في قصة هرقل أنه قال لأبي سفيان: (… بم يأمركم؟ ـ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ فقال أبو سفيان: قلت: يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف…)( ).
فعليك أخي المسلم بصلة الرحم لما لذلك من ثواب عظيم وفضل كبير من الله عز وجل على من يصل رحمه، وعليك أن تعلم أن الذي يقطع رحمه يناله عقاب وخيم من الله عز وجل بل يفقد البركة في كل شيء وتكثر مشاغله وهمومه وأحزانه ومن ثم يجد نفسه غير موثوق في طاعة الله وهذا من أعظم البلاء ومن أشد أنواع غضب الرب سبحانه وتعالى على عبده.
أخرج أبو يعلى بإسناد جيد عن رجل من خثعم قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في نفر من أصحابه فقلت: أنت الذي تزعم أنك رسول الله؟ قال: نعم، قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: إيمان بالله، قال: قلت: يا رسول الله: ثم مه؟ قال: ثم صلة الرحم، قال: قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أبغض إلى الله؟ قال: الإشراك بالله، قال: قلت: يا رسول الله ثم مه؟ قال: ثم قطيعة الرحم، قال: قلت: يا رسول الله ثم مه؟ قال: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف)( ).
شعر:
وكن واصل الأرحام حتى لكاشح
*** توفر في عمر ورزقٍ وتسعد

ولا تقطع الأرحام إنّ قطيعة
*** لذي الرحم كبرى من الله تُبعِد

فلا تغشى قوماً رحمة الله فيهم
*** ثوى قاطع قد جاء ذا بتوعد

هكذا يجب علينا أيها المسلمون أن نعلم أن صلة الرحم من أحب الأعمال إلى الله عز وجل وأن من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله.
اللهم اجعلنا من الواصلين لأرحامهم، اللهم وفقنا إلى طاعتك وباعد بيننا وبين معاصيك، اللهم اجمع شملنا بأقاربنا وأهلينا وذوينا واجمع قلوبنا وإياهم على التقوى واملأ قلوبنا جميعاً بالرحمة والود ونقها من الغل والحسد والحقد والبغضاء والعداوة، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدرس التاسع :
ـــــــــــــــــ

حكمة الابتلاء
وأخطاء في فهم القدر

الحمد لله الذي ظهر لأوليائه بنعوت جلاله، وأنار قلوبهم بمشاهدة صفات كماله، وتعرف إليهم بما أسداه من إنعامه وإفضاله، فعلموا أنه الواحد الأحد الفرد الصمد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله القائم له بحقه وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، أرسله الله رحمة للعالمين وإماماً للمتقين وحسرة على الكافرين وحجة على العباد أجمعين.
أما بعد:
فيقول الله تعالى: [الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ]( )، ويقول تعالى: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ]( ).
عن أبي يحي صهيب بن سنان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)( ).
كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الأعلى في مكة وقد كان مستضعفاً محارباً، وكان صلى الله عليه وسلم الأعز في مكة وقد كان مطارداً مرصوداً، وصدق الله تعالى: [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
نقول أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في تلك المكانة مع أنه المحارب المستضعف لأن الإيمان هو المرتبة الأعلى، والشرك والنفاق هما المرتبة الأدنى، والمؤمن من أكثر الناس بلاءً ولكنه أعظمهم قدراً.
والمؤمن أكثر الناس محاربة ولكنه أملكهم لحريته، وحرية المؤمن في كونه غير أسير لشهواته، ولا مستضعف لنزواته، فهو عبد الله سبحانه وتعالى وحده، وأما غير المؤمنين فهم عباد توزعت قلوبهم بين آلهة شتى.
ولذلك فإن ما ينتاب المؤمن ويحل عليه من مصائب لا ينزع منه العلو والعزة ما دام مؤمناً وما المصائب والفتن إلا اختبارات تبين مدى ما يمتلك العبد من الإيمان، وقد اقتضت حكمة الله في خلقه أن يعرضهم للاختبار حبّاً ورعاية لهم، فالعباد ليسوا بعيدين عن هذه الاختبارات الإلهية التي تهدي الضال وتنبه الغافل وتقيم الحجة على الكافر، يقول الله تعالى: [الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ]( ).
فالاختبارات الإلهية للمؤمنين تزيدهم إيماناً وقوة وصلابة في عقيدتهم، وللكاذبين تعيدهم إلى الإيمان تائبين متذكرين نادمين، فإن لم يتوبوا ويتذكروا فضحهم الابتلاء وعراهم أمام الناس وخلص صفوف المؤمنين منهم.
إن من أهم فوائد حكمة الابتلاء أنه بمثابة فرصة لمراجعة حسابات مضت، ووقفة أمام مستقبل آت يؤمل فيه الخير والسعادة، والابتلاء يزيد الرجال نضوجاً وصلابة، والدعاة الصادقين بصفة خاصة ثباتاً ويقيناً.
ولن يكون الابتلاء شراً بالمؤمنين أبداً، فهو خير يسوقه الله لعباده ليعودوا إليه وقد علتهم عزة الإيمان التي يمتلكونها ولو كانت السياط اللاهية تأكل من أجسادهم لأن طالب الحق لن يسلمه أهل الباطل، وأمام المؤمنين أقسى دروس الابتلاء وأشدو امتحان شهدته الدعوة الإسلامية على مدى تاريخها الطويل ألا وهو حادث الإفك ومع ذلك فقد كانت خيراً ولم تكن شراً، ويقول الله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( )؛ لذا كان الابتلاء وسيلة من وسائل الانتقاء والتصفية، يقول الله تعالى: [لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ]( ).
وإن حكم الابتلاء استخراج عبودية المؤمنين وذلهم لله وانكسارهم له سبحانه وتعالى وافتقارهم إليه، وأن يسألوه سبحانه النصر على عدوهم ولو كانوا دائماً منصورين قاهرين غالبين لبطروا وأشروا، ولو كانوا دائماً مقهورين مغلوبين منصوراً عليهم عدوهم لما قامت للدين قائمة ولا كانت للحق دولة، فاقتضت تضرعوا إلى ربهم، وأنابوا إليه وخضعوا له، وانكسروا له وتابوا إليه، وإذا غلبوا أقاموا دينه وشعائره وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وجاهدوا عدوه، ونصروا أولياءه.
ومن حكم الابتلاء أنه سبحانه وتعالى يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفي حالة العافية والبلاء، وفي حال إدالتهم والإدالة عليهم، فلله سبحانه وتعالى على العباد في كلتا الحالتين عبودية بمقتضى تلك الحال التي لا تحصل إلا بها، ولا يستقيم القلب بدونها كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد، والجوع والعطش، والتعب والنصب، وأضدادها( )، فهذه المحن والبلايا شرط في حصول الاستقامة المطلوبة من العبد.
ومن حكم الابتلاء: أن امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم ويخلصهم ويهذبهم كما حكى الله سبحانه وتعالى في حكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أحد يقول الله تعالى: [وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]( ).
أخطاء في فهم القدر:
الله سبحانه وتعالى عليم بما هو كائن وبما كان وبما سيكون حتى ما سيفعله الناس مختارين بدون جبر، والإنسان المدرك البالغ مكلف من ربه ضمن دائرة اختباره، التي منحها الله سبحانه وتعالى له، أن يعمل أعمالاً ويترك أخرى، وجعله الله مسؤولاً مسؤولية تامة عن أعمال ضمن دائرة اختياره، ورتب له الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية( ).
ومما أمر الله به اتخاذ الأسباب لتحقيق مطالبه وحاجاته من الحياة الدنيا ولتحقيق ما يرجو من الثواب العظيم يوم الجزاء الأكبر، ومما نهاه الله عنه التهور، والإسراف المضر، وتناول كل ما يضره في الحياة الدنيا، وكل ما فيه شر يجلب له المؤاخذة والعقاب يوم الدين ومن اتخذ من الناس سبباً حقق الله نتائجه بقضائه وقدره خيراً كان أو شراً، إلا أن يكون الله حكمة خاصة في خرق سنته في حادثة من الحوادث، فمن ذبح نفسه، أو جأ نفسه بحديدة أو تحسى سُماً قتله الله حسب سنن الله الثابتة التي نظم بها الأسباب والمسببات، ومن زرع زرعاً وتعهده أنبت الله زرعه وأعطاه ثمراته، ولو كان كافراً بربه.
وإن ما لم يمنح الله لمخلوقاته فيه أسباباً، فإنه يخضع لسلطان القضاء والقدر مباشرة، دون أن تتخذ هذه المخلوقات المريدة له أسباباً، والناس يدركون من هذه الحقائق السابقة شيئاً وينحرف إدراكهم عن الجزء الأكبر منها.
ويرتكب كثير من الناس الكبائر والمعاصي بإرادتهم الحرة ويعرضون أنفسهم بذلك لعقاب الله عز وجل وعذابه في الدنيا والآخرة، ثم يعتذرون قائلين بأن ذلك قضاء وقدر جبري قضاه الله عليهم وقدره، بل إن بعض الأنفس تتجرأ على الله سبحانه وتعالى بقولها: إن الله هو الذي أراد لهم طريق المعصية ولم يهدهم أو ييسر لهم الهدى وهم كاذبون فيما قالوا عن الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وقد حكى الله سبحانه وتعالى ذلك في كتابه الكريم، يقول تعالى: [أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ]( ).
وإن مما يفهمه الناس أيضاً خطأ في القدر أنهم يظنون أن ابتلاء الله عز وجل عبداً من عباده بالفقر دليل على غضب الله عز وجل على هذا العبد، ويظنون أن الله تعالى راض عن عبده فلان بسبب أن الله وسع عليه الرزق وهذا فهم خاطئ؛ فهذا الأمر ليس له صلة بذلك؛ فرضى الله سبحانه وتعالى على عبده قائم على قيام هذا العبد بأوامر الله وتقواه وورعه، وغضب الله على العبد قائم على معصية هذا العبد وبعده عن أوامر الله تعالى.
وربما أرى الله سبحانه وتعالى أن صلاح عبد من عباده سيكون سببه الفقر وأن فساد عبد من عباده سيكون سببه الغنى لذلك يبتليهم بهذه الأمور، يقول الله تعالى: [وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ]( )، ويقول الله تعالى [ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ]( ).
ومن ظن أن الابتلاء يكون بالخوف والجوع ونقص من المال والأنفس والثمرات وغير ذلك من أنواع المصائب فهو مخطئ، بل ربما كان الابتلاء بالخير والنعمة وهنا تكون الصعوبة على العبد في مثل هذا البلاء حيث إن نزول النعمة من المنعم سبحانه وتعالى لابد وأن يقارنها الشكر من العبد عليها، وفي الابتلاء بالخير يقول الله تعالى: [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ]( ).
اللهم ارزقنا الصبر على البلاء وأجرنا في مصائبنا خيراً، اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء وسوء القضاء ودرك الشقاء وشماتة الأعداء وإن أردت بالعباد فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين ولا مبدلين، اللهم أهلك الظالمين بالظالمين وأخرج الموحدين من بينهم سالمين ربنا لا تجعلنا قتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس العاشر:
ـــــــــــــــــ

الغش

الحمد لله الذي جعل الصدق سبباً في بركة الرزق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً رسول الله نهى عن الغش وذمة فقال فيما روى عنه أبو هريرة رضي الله عنه: (… من غشنا فليس منا)( )، أما بعد:
فالمسلم يدين الله عز وجل بالنصيحة لكل مسلم، ويعيش عليها، فليس له أن يغش أحداً، أو يغدر، أو يخون؛ لأن هذه صفات ذميمة قبيحة في المرء والقبح لا يكون خلقاً للمسلم ولا وصفاً له بحال من الأحوال؛ لأن طهارة نفسه التي يكتسبها من الإيمان بالله والعمل الصالح تتنافى مع هذه الأخلاق الذميمة والتي هي شر محض لا خير فيها، والمسلم بطبعه قريب من الخير بعيد من الشر.
والله سبحانه وتعالى قد نهانا عن هذا الخلق الذميم وهو الغش فقال تعالى: [وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ]( )، وقال تعالى: [قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ]( ).
وبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم عاقبة الغش في أحاديث كثيرة منها: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال: (ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟ من غش فليس مني)( ).
ومنها ما يبين أن البركة تمحق بسبب الغش وعدم الصدق في البيع، عن حكيم ابن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو قال: (حتى يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)( ).
وعلى صعيد آخر، لما ترك الإنسان الغش ونهى عنه غيره وخاف من الله واتقاه كان ذلك سبباً في حصول الخير الكثير له وشمول الرحمن الرحيم له برحمته يتضح هذا جلياً في موقف الفتاة التي مر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وهو يتفقد الرعية ببيتهم وسمع أمها وهي تقول لها: هيا يا بنيتي أعدي اللبن واخلطيه بالماء ليصبح كثيراً، ثم نذهب إلى السوق ونبيعه فنربح كثيراً، فقالت لها ابنتها: لو علم أمير المؤمنين عمر بذلك لغضب، فقالت الأم: وأين عمر حتى يرانا؟ قالت البنت: إذا كان عمر لا يرانا فإن رب عمر يرانا.
فرجع عمر إلى بيته وأشار على أحد أبنائه وهو عاصم ودله على بيت الفتاة وأمره أن يذهب ليخطبها ويتزوجها إن كان له رغبة فيها فقيل: إن الله عز وجل بارك لهما ورزقهما أحد عشر ولداً كلهم قد قرأ القرآن.
واعلم أخي المؤمن أن للغش مظاهر منها:
1ـ أن يزين المرء لأخيه القبيح أو الشر أو الفساد ليقع فيه؛ فإذا لم يفعل اشتكاه لمن يلي أمره نكاية به متهماً إياه بهذا القبيح.
فيروى أن أحد الملوك خاف على ثروته فأتى بشاب صالح يتيم كان يدعى احمد وكتب له كل ثروته وجعله مسؤولاً عن ماله وقصره وخدمه وحشمه وجواريه وحرسه، وذات يوم كان أحمد هذا يتمشى في حديقة القصر إذ رأته إحدى الجواري فدعته إلى الزنا فأبى وقال: إن الله قد حرمه على المؤمنين، ولما لم يجبها أحمد اليتيم إلى طلبها نفذت رغبتها مع أحد عبيد القصر، لكن قدر الله عز وجل أن يراها أحمد اليتيم وهي تزنى؛ فخافت أن يذهب إلى الملك ويخبره فأسرعت هي وبادرت بإخبار الملك كذباً وبهتاناً وادعت على أحمد أنه رودها عن نفسها فأبت فأرغمها وزنى بها جبراً.
فبحث الملك عن أحمد ليعاقبه وطلب منه أن يذهب إلى الطاهي ليحضر غذاء الملك بنفسه، وكان الملك قد اتفق مع الطاهي وقال له: إن جاءك من يطلب منك غذائي فاقطع رقبته بالسيف وأتني به، وبينما أحمد يسير على مطبخ القصر إذ رآه جماعة من الناس يتشاحنون في وسط القصر في قضية ما، وقالوا: لنجعل أحمد اليتيم حكماً بيننا فهو ذو رأي سديد وحكمة عظيمة فطلبوا منه أن يحكم بينهم، فقال لهم: لكن الملك طلب مني أن أحضر له غذاءه بنفسي، فقالوا له: لنرسل أحد العبيد يحضر غذاء الملك واحكم أنت بيننا فيما نحن فيه.
فجلس أحمد ليحكم بينهم وذهب أحد العبيد لإحضار غذاء الملك ولما وصل العبد إلى الطاهي وطلب منه طعام الملك ضرب الطاهي عنقه وأخذ رقبته وذهب بها إلى الملك، فلما كشفها الملك أمر الحراس بإحضار أحمد اليتيم فوراً، فحضر فأمره الملك أن ينظر إلى الرقبة المقطوعة قائلاً له: هل تذكر ذنباً لصاحب هذه الرقبة، قال: نعم أيها الملك رأيته ذات مره يزني بإحدى جواري قصرك، فما كان من الملك إلا أن قال: صدق الله تعالى إذ يقول: [وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ]( ).
وارتفع شأن أحمد اليتيم عند الملك وعظم قدره، وقام الملك بمعاقبة الجارية( ).
2ـ أن يريه ظاهر الشيء الطيب الصالح، ويخفي عليه باطنه الخبيث الفاسد ومن ثم يترتب على ذلك مفاسد لا يحمد عقباها، وهذا المظهر بصفة خاصة قد اشتهر كثيراً في أمر البيع وفي أمر الزواج.
فتجد بعض البائعين مثلاً يضع في نهاية القفص وهو يبيع أي سلعة أوراقاً كثيرة ثم يضع أفضل هذه السلع أعلى القفص وبذلك يكون قد خدع المشتري من جهتين: الأولى: أن يظن المشتري أن القفص مليء عن آخره بينما هو لا يتعدى الثلث، والثلثان ورق وغيره، والثانية أن المشتري يظن أن القفص كله بنفس درجة الجودة التي رآها في أعلاه.
وبعضهم يأتي بزيت الطعام ويخلطه ببعض العطور على أن تكون كمية الزيت هي الغالبة ويضعها في عبوات زجاجية ويخرج منها ريح العطر ويبيعه بثمن قليل.
وغير ذلك من الغش في العاملات والبيع والشراء وما أكثرها في أسواق المسلمين وكأن البائع الذي يغش لن يحاسب عن ذلك ولو استحضر المسكين يقيناً أنه موقوف بين يدي الله جل وعلا ومسؤول عن غشه على رؤوس الملأ لما أقدم على هذه الفعلة الشنعاء ولكن الطمع والجشع وحب المال يغري بمثل هذه المعاصي والعياذ بالله.
وكثيراً ما يكون الغش في الزواج فتجد من الآباء من يخدع الشاب المتقدم لإحدى بناته فيقدم له ابنته الصغيرة البكر ويوم البناء يجدها الكبيرة الثيب فيجد بعضهم أنه لا مناص ولا هروب من هذا الزواج فيوافق وهو يتقطع حسرة وندامة، أو يريه الجميلة ويم البناء يرى أنها الدميمة القبيحة فيضطر للقبول حياءً، أو يزوجوه إياها وهي بها عيب ما أو مرض ما.
وهذا تغرير بالزوج وهو من أشد أنواع الغش؛ لأنه ينتج عنه مفاسد عظيمة كالطلاق وضياع الشباب وشتات الأسر وكان من الأحرى بالمسلمين في هذا المجال أن يقتدوا بنبيهم الصادق الأمين محمد صلى الله عليه وسلم وبأصحابه الأطهار الذين جعلوا الصدق سمتهم الظاهر وابتعدوا عن الغش والتغرير والخداع.
فهذا بلال بن رباح رضي الله عنه يذهب مع أخيه أبي رويحة عبد الله بن عبد الرحمن الخثعمي وهو الذي آخى الرسول بينه وبين بلال كانا قد ذهبا إلى داريا( ) في خولان لكي يخطب بلال لأخيه أبو ويحة من هذه القبيلة، فلما قدما عليهم قال بلال: متحدثاً بكل صدق وأمانة بعيداً عن الغش والخداع والتعزير مبيناً العيوب والمساوئ تاركاً الحديث عن المزايا والمحامد كما هو حاصل اليوم في معظم الزيجات إلا ما رحم ربي.
قال لهم: أتيناكم خاطبين، وقد كنا كافرين فهدانا الله، وكنا مملوكين فأعتقنا الله، وكنا فقيرين فأغنانا الله، فإن تزوجونا فالحمد لله، وإن تردونا فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فقال لهم القوم: إنه لشرف لنا أن نزوج ابنتنا لأخي مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما خرجا من عند القوم قال أبو رويحة لأخيه بلال: ألا تذكرني بخير؟ فقال بلال: صه يا أخي والله لم يزوجك إلا الصدق( ).
هكذا يجب أن نكون وهكذا يجب أن تكون أخلاقنا ومعاملاتنا يعلوها الطهر
والعفاف والصدق والنور والوضوح ليس فيها زيف ولا زيغ ولا غش ولا خداع ولا تغرير.
3ـ أن يظهر له خلاف ما يضمره، ويسره تغريراً به، وخديعة له غشاً، وإن ذلك لمن صفات المنافقين الذين يأتون هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه يظهرون الإيمان ويبطنون النفاق والحقد على الإسلام والمسلمين ويخادعون المسلمين ويغررون بهم حتى يوقعوا بهم في المهالك.
وسبحان الله العظيم نرى في بداية سورة البقرة أن الله سبحانه وتعالى تحدث عن المتقين في أربع آيات، وعن الكافرين في آيتين، بينما الحديث عن المنافقين جاء في ثلاث عشرة آية، ومن هذه الآيات قوله سبحانه وتعالى: [يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ]( )، وقوله تعالى: [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ]( ).
ثم بين الله سبحانه وتعالى في إحدى نعوته لهم أنهم هم الخاسرون وأنهم
بعيدون عن طريق الهداية؛ لأنهم اتخذوا الغش لهم طريقاً في حياتهم، يقول الله تعالى: [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ]( ).
4ـ أن يعمد إلى إفساد ماله عليه، أو زوجه، أو ولده أو خادمه، أو صديقه بالوقيعة فيه والنميمة، وقد بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن من يفعل واحدة من المظاهر السابقة فليس من المسلمين في أخلاقهم والتزامهم بأمر ربهم واقتدائهم بأخلاق نبيهم صلى الله عليه وسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خبب زوجة امرئ أو مملوكه فليس منا)( ).
فعلى المسلم أن يتقي الله ولا يعمد لمثل هذه الأمور التي ينتج عنها الشحناء والبغضاء والعداوة والتي ربما تكون الغشاش الذي نمّ وأوقع بين الرجل وأهله وغيرهم هو المحتمل للإثم الناجم عن الظلم الذي حدث لهم.
5ـ أن يعاهد على حفظ نفس أو مال أو كتمان سر ثم يخونه ويغدر: والمسلم عندما يجتنب هؤلاء الثلاثة الغش والغدر والخيانة يكون مطيعاً لله ولرسوله، إذ هذه الثلاثة محرمة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وقد بينا ذلك سابقاً في أحاديث كثيرة.
وإن من الآيات القرآنية التي تؤيد ما نقول قول الله تعالى: [وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً]( )، وقوله تعالى: [فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ]( )،وقوله تعالى: [وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ]( ).
وإن المسلم باجتناب تلك الصفات يكون مقتدياً بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم فهذا هو الرسول صلوات الله وتسليماته عليه يلقى من المشركين إيذاءً عظيماً وعنتاً وتضييقاً على دعوته وتعذيباً لأصحابه ومع ذلك يوم أن أمره الله سبحانه وتعالى بالهجرة من مكة إلى المدينة فكر أول ما فكر وهو مصدر الأخلاق الطيبة في أن يرد أمانات أهل مكة إلى أصحابها التي كانوا استودعوها إياه، ولم يتخذوا إيذاءهم له ومحاربتهم لأصحاب ذريعة في أن يغرر بهم أو يخونهم في أماناتهم، حاشاه صلى الله عليه وسلم فهو الذي قال الله في حقه: [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
وإنه لمن الأحرى بنا أن نكون كذلك ونجعل أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم دستوراً لنا وأن نبتعد عن هذه الأخلاق الذميمة كالغش والخداع والتغرير والتزييف؛ لأنه لا ينبغي لمسلم أن يتصف بواحدة منها.
اللهم جنبنا كل خلق ذميم، اللهم جنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا وأهلنا وأموالنا، اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الخاتمة :
ــــــــ
توجيه ودعاء

في ختام هذه الدروس التي بينت فيها كيف يسير المسلم على الدرب القويم، والصراط المستقيم، وذلك من منطلق اقتدائه بصاحب الأخلاق ومصدرها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والتي أوضحت فيها كيف ساد الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين الدنيا بأسرهم وأصبحت لهم منازل رفيعة لدى رب العالمين سبحانه وتعالى حتى إن بعضهم ليبشر بأنه من أهل الجنة وهو مازال حياً على ظهر الأرض يمارس جميع مظاهر حياته، أقول ما بلغوا تلك المنزلة إلا حين ارتقوا بأخلاقهم وسلوكياتهم وإيثارهم الآخرة على الدنيا.
وأوصي إخواني القراء أن يحولوا هذه الأخلاق والسلوكيات التي تحدثت عنها إلى واقع يعيشونه ويطبقون هذه الأخلاق والسلوكيات على حياتهم ويعتبرون هذه الدروس الوعظية بمثابة الزاد الإيماني الذي أولاً يروحون عن أنفسهم، وثانياً ينهلون منه المعرفة الصحيحة والواضحة المبينة بالقرآن والسنة الصحيحة؛ فيعيش المجتمع عيشة الصدق والعدل والرحمة والقناعة ويجتنب المجتمع المسلم الرذائل بعد معرفته بخطورتها وضررها وسوء عاقبتها أفراداً ومجتمعات، وذلك كما بينت من خلال حديثي عن الأخلاق الذميمة وضررها على المجتمعات.
وإذا التزم المسلمون بآداب الإسلام: كالاستئذان والمحافظة على حقوق بعضهم تجاه بعض خاصة حقوق الآباء من بر وطاعة وحقوق الجار وحقوق صلة الرحم وغير ذلك من الحقوق؛ فإنهم يعيشون حياة هادئة سعيدة ومنضبطة يحفظ كل فرد منهم حرمة أخيه المسلم وقد اتضحت معالم هذه الآداب ومظاهر هذه الحقوق من خلال حديثي عن الحقوق الإسلامية وآداب الاستئذان والزيارة.
وعلى المسلم أن ينتبه للأسباب التي ينجو بها من عذاب الله والأسباب التي بها يغفر الله عز وجل له ويحصلها. وقد بينت ذلك في حديثي عن أسباب النجاة وأسباب العذاب وأسباب المغفرة، وأسباب الرزق وغير ذلك.
وفي ختام عملي هذا أدعو الله عز وجل أن يتقبله مني ويجعله خالصاً لوجهه الكريم ويجعله في ميزان الحسنات.
اللهم انفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً، اللهم وفقنا للالتزام بأخلاق القرآن، وبأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم ونستعيذك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل وارزقنا الإخلاص في السر والعلن، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم ارحمنا برحمتك تغننا بها عن رحمة من سواك، اللهم لا تجعل ذنوبنا سبباً لرد دعائنا، اللهم إنا قد دعوناك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وكتب
أبو محمد/ عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار
مساء الأربعاء 3/2/1417هـ ـ الزلفي ـ ص. ب 188

فهرس الموضوعات:
ــــــــــــــــــــــ

الموضوع الصفحة
مقدمة
الأخلاق الفاضلة
الدروس الخاصة التي تقرأ بعد صلاة العصر:
الدرس الأول: الاتحاد والتحذير من التفرق
الدرس الثاني: الحياء
الدرس الثالث: العدل
الدرس الرابع: الرحمة
الدرس الخامس: الحلم
الدرس السادس: العفة
الدرس السابع: القناعة
الدرس الثامن: الإحسان
الدرس التاسع: الصدق
الدرس العاشر والحادي عشر: الكرم
الدرس الثاني عشر والثالث عشر: الصبر
الدرس الرابع عشر: الإيثار
الدرس الخامس عشر: الحسد
الدرس السادس عشر: الكسل
الدرس السابع عشر: الغضب
الدرس الثامن عشر: الكبر
الدرس التاسع عشر: الغيبة والنميمة
الدرس العشرون: إرشاد الصائمين
الدرس الحادي والعشرون: محاسبة النفس
الدرس الثاني والعشرون: الاستقامة وأثرها في صلاح الفرد والمجتمع
الدرس الثالث والعشرون: الأخوة في الله وحقوقها
الدرس الرابع والعشرون: آداب الاستئذان والزيارة
الدرس الخامس والعشرون: أسباب المغفرة وأسباب العذاب
الدرس السادس والعشرون: أسباب النجاة وأسباب الرزق
الدرس السابع والعشرون: موجبات الشكر
الدرس الثامن والعشرون: من هو الفائز في رمضان؟
الدرس التاسع والعشرون: وداع رمضان
الدرس الثلاثون: التحذير من العودة إلى المعاصي بعد رمضان
القسم الثاني
الدروس الخاصة بصلاة التهجد ـ آخر الليل
الدرس الأول: فضل مجالس العلم
الدرس الثاني: آفات اللسان
الدرس الثالث: الدعاء وآدابه
الدرس الرابع: النهي عن الانهماك في طلب الدنيا والعمل للآخرة
الدرس الخامس: حقوق الآباء على الأبناء وحقوق الأبناء على الآباء
الدرس السادس: حقوق الزوجين
الدرس السابع: حق الجار
الدرس الثامن: صلة الرحم
الدرس التاسع: حكمة الابتلاء وأخطاء في فهم القدر
الدرس العاشر: الغش
الخاتمة: توجيه ودعاء