الرخصة وتطبيقاتها في الحج.

السبت 25 جمادى الآخرة 1440هـ 2-3-2019م

الحمد لله الذي رفع الحرج عن هذه الأمة ويسر عليها، القائل في محكم كتابه: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر). والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، القائل في سنته:(إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا)، وبعد:
فإن من مقاصد شرع الله وأصول دينه العظام رفع الحرج عن العباد و التيسير ودفع المشاق ورفع الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، وقد كان من دعاء أكرم الخلق:(ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا) وهو القائل:(إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتا ولكن بعثني معلماً ميسرا)، وقالت عائشة رضي الله عنها وعن أبيها:(ما خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه).
وبناء على ما سبق وغيره من النصوص قرر أهل العلم قواعد عامة في التيسير والتخفيف ورفع الحرج ومنها:(إذا ضاق الأمر اتسع)، و(المشقة تجلب التيسير).
وشريعة الإسلام لم تأت بما يكلف الناس فوق طاقتهم، ويوقعهم في الحرج بل جاءت ملائمة صالحة لكل زمان ومكان ولذا جاءت الرخصة فيها مناسبة لأحوال المكلفين في بعض الأحوال والأوقات التي تناسبهم.

تعريف الرخصة:
في اللغة : السهولة واليسر وهي خلاف التشديد .
وفي الاصطلاح: هي الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر، فالمقصود من الرخصة التسهيل والتيسير والتوسعة على المكلفين
ما لا بد منه للأخذ بالرخصة:
لا بد من توفر بعض الضوابط والشروط للأخذ بالرخصة ومن ذلك :
1) قيام الدليل الشرعي على الأخذ بالرخصة .
2) تحقق العذر الداعي للأخذ بالرخصة يقيناً لا ظنا .
3) الاقتصار على موضع الحاجة وعدم مجاوزة النص الشرعي ,
4) أحكام الرخصة ليست هي الأحكام الأصلية بل هي أحكام وضعها الشارع للتخفيف عن المكلفين ولرفع الحرج والضيق عنهم ، فالرخصة تسهيل و تيسير وتخفيف .
دليل مشروعية الرخصة :
مشروعية الرخصة ثبتت بالكتاب والسنة والإجماع .
فمن الكتاب قوله تعالى:(فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر)، وقوله تعالى:(وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة)، وقوله تعالى:(فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم).
ومن السنة: قوله صلى الله عليه وسلم:(إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته).
وقوله صلى الله عليه وسلم:(بعثت بالحنيفية السمحة).
وقد أجمع أهل العلم على مشروعية أحكام الرخص، وجواز الأخذ بها من قبل أصحاب الأعذار الشرعية .
حكم الرخصة :
هل تفيد الرخصة وجوب الأخذ بها أو استحباب ذلك، أم أنها تفيد إباحة الأخذ بها، هذه المسألة محل خلاف والراجح أن الأخذ بها مباح ، لأن معظم النصوص الواردة جاءت بنفي الإثم والحرج والجناح على من أخذ بالرخصة ثم إن أصل الرخصة هو التخفيف ورفع الحرج عن المكلفين .
أنواع الرخصة :
الرخصة مبنية على أعذار العبادة، وهذه الأعذار مختلفة ولذا اختلفت أنواع الرخصة، ومنها :
(1) ما استبيح مع قيام المحرم والحرمة، ومعنى الاستباحة هنا هو عدم المؤاخذة بتجويز الفعل، والمراد بها هنا أن يعامل الله فاعل الفعل المحرم بمقتضى العزيمة معاملة فاعل الفعل المباح في عدم المؤاخذة فلا يعاقبه الله مع بقاء الحرمة .
ومثاله :
إباحة إجراء كلمة الكفر على اللسان لمن أكره عليها ، مع اطمئنان قلبه بالإيمان ، قال تعالى : (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) .
ويمثل له أيضاً بمن أكره على أكل مال غيره ، كأن يقال له : إن لم تأكل هذا المال و إلا قتلناك ، فهنا حرمة المال أهون من حرمة النفس ، فله أكل المال وعليه دفع عوضه لمالكه .
(2) ما استبيح مع قيام المحرم دون الحرمة .
ومثاله: إباحة الفطر في رمضان بعذر السفر أو المرض قال تعالى : (فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر)
فهنا المحرم باق ، وهو لزوم الصوم لمن شهد الشهر والحرمة غير باقية لوجود العذر ، بل هي متراخية إلى عدة من أيام أخر .
أثر المشقة في الترخيص :
المشقة لها تأثير في لزوم الرخصة بحق المكلف .
والمشقة قسمان :
قسم لا تنفك عنه العبادة ، كالوضوء والغسل في البرد ، والصوم في النهار الطويل للمقيم ، فهذا النوع من المشقة لا يوجب تخفيفا .
وقسم تنفك عنه العبادة بحسب مرتبته ، وهذا القسم مراتب ، يبدأ بالخوف على فوات النفس والعضو وينتهي بالوجع اليسير كالزكام و وجع الإصبع .
لكن ينبغي أن تكون المشقة حقيقية ، أما إن كانت متوهمة فلا أثر لها في التخفيف .
هل الأولى الأخذ بالعزيمة أو الرخصة:
الذي يظهر أن الأمر متروك حسب نظر الشخص الذي يقع له الأمر ، فهو يختلف حسب الأحوال والظروف والملابسات ونوع المشقة الحاصلة به .
وأما على وجه العموم فالأمر متروك لنظر المجتهد وتقديره للوقائع .
وبعد هذا العرض يتضح لنا أن التيسير مقصد شرعي عظيم وهو من سمات شريعة الإسلام ومن محاسن الحنيفية السمحة ، لكن ذلك لا يسوغ التساهل في أحكام الشريعة وتتبع الرخص و الفتيا بشواذ الأقوال و إنما يكون تحقيق هذا المقصد بإتباع الكتاب والسنة .
قال ابن حزم رحمه الله:(كل أمر من الله تعالى لنا فهو يسرٌ وهو رفعُ الحرج وهو التخفيفُ ولا يسرَ ولا تخفيفَ ولا رفعَ حرجٍ أعظمُ من شيء أدّى إلى الجنة ونجّى من جهنم وسواء كان حظراً أو إباحة … ) .
وقال ابن سعدي رحمه الله -: (فأصل الأوامر والنواهي ليست من الأمور التي تشق على النفوس بل هي غذاء للأرواح و دواء للأبدان وحمية عن الضرر فالله أمر العباد بما أمرهم به رحمة وإحسانا و مع هذا إذا حصل بعض الأعذار التي هي مظنة المشقة حصل التخفيف والتسهيل ) .
وقد حذر علماء السلف من تتبع الرخص وشواذ المسائل وزلات العلماء وغريب الأقوال ، قال بعضهم : (من طلب الرخصة من الإخوان عند المشورة ومن الفقهاء عند الشبهة ومن الأطباء عند المرض أخطأ الرأي وحمل الوزر وازداد مرضا) .
وقال ابن القيم رحمه الله:(ومن علامات تعظيم الأمر والنهي أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حد يكون صاحبه جافيا غير مستقيم على المنهج الوسط) .
تطبيقات الرخصة في الحج:
سأذكر جملة من المسائل في الحج يتبين فيها أن المسلم يباح له الأخذ بالرخصة متى لحقته المشقة و وجد العذر و هذه المسائل تختلف حسب المشقة وحسب المكلف لكن يجمعها إباحة الأخذ بالرخصة .
(1) العجز عن الحصول على تصريح الحج :
الذي يظهر أن الحصول على تصريح الحج شرط لوجوب الحج ، فمن عجز عنه فهو معذور ، لأن المشاعر لها طاقة استيعابية محدودة وهذا التنظيم سواء كان في الداخل أو الخارج فيه مصالح عظيمة ولذا لا يسوغ التحايل على إخراجه بكذب أو تزوير أو دفع رشوة أو غير ذلك .
والله جل وعلا يقول : (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) فمن عجز عن الحصول على التصريح فهو غير مستطيع وبالتالي فهو معذور .
(2) الرخصة في ارتكاب المحظور للمعذور :
ومن أمثلة ذلك : حلق الشعر لمن احتاج إليه وكذا لبس المخيط وتغطية الرأس قال تعالى : (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) .
وجاء في حديث كعب بن عجره : (لعلك آذاك هوامك) قال : نعم يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك بشاة) .
وقد أجاز أهل العلم لبس الإزار الذي يشبه التنورة ولم يجعل فيه فدية ، والذي يترجح أنه لا يجوز ذلك إلا لمن كان معذوراً كالبدين الذي لا يستطيع لبس الإحرام فله أن يلبس إزاراً وسروالاً وعليه الفدية ولا أثم عليه .
(3) لبس الكمام للمحرم :
الذي يظهر أن للمحرم لبس الكمام ولا شيء عليه فهو ليس مفصلاً على العضو كالثوب و السروال و غيرها ، بل يلبس عند الحاجة إليه ، وتعظم الحاجة هذا العام لخشية العدوى بتقدير الله جل وعلا ، فلبسه بذل للسبب، والله جل وعلا يقضي بعلمه ما يشاء .
(4) العجز عن المبيت بمزدلفة :
المبيت بمزدلفة واجب من واجبات الحج اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد بات بها وصلى الفجر بها وجلس حتى أسفر جداً، وهو القائل: (خذوا عني مناسككم ) وإذا لم يبيت الحاج في مزدلفة فعليه دم جبراً لتركه الواجب .
وقد رخص رسولنا صلى الله عليه وسلم للضعفة أن يدفعوا من مزدلفة في النصف الثاني من الليل .
ولكن لو عجز الحاج عن المبيت بمزدلفة فلم يصل إليها نهائياً، إلا بعد طلوع الشمس، فهنا هل نقول بأنه ترك واجباً فيلزمه دم أم نقول إنه معذور ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، الذي يظهر أنه معذور و لا شيء عليه ما دام قد بذل الأسباب للوصول إليها لكن لم يستطع بسبب الزحام وكثرة الحجاج .
(5) العجز عن المبيت بمنى :
المبيت بمنى واجب من واجبات الحج في أصح أقوال أهل العلم وهذا
الواجب منوط بالاستطاعة ، قال تعالى : (فاتقوا الله ما استطعتم) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) .
فإذا لم يجد الحاج مكاناً بمنى سقط عنه هذا الواجب و يبيت في أقرب مكان إلى منى يستطيعه ، فإن عجز عن المبيت في منى نهائياً كالمريض ورجال الأمن المكلفين بأماكن غير منى و الأطباء الذين يناوبون في مستوصفات خارج منى فهؤلاء ومن في حكمهم يسقط عنهم هذا الواجب ولا شيء عليهم ، وقد رخص رسولنا صلى الله عليه وسلم للسقاة والرعاة في عدم المبيت بمنى وهؤلاء مثلهم في العذر .
(6) الرمي قبل الزوال :
من أهل العلم من رخص في ذلك لوجود المشقة وكثرة الزحام والرخصة متى وجد سببها وجدت لكن مع تطوير هذا المنسك ووجود هذه الأدوار التي تتسع للآلاف في وقت واحد يظهر أن الأمر يختلف ، فإذا زال سبب الرخصة فلا يؤخذ بها والاحتياط ألا يرمي الحاج قبل الزوال ، وأما الحالات الخاصة فلها أحكامها .
(7) حج الخادمات ومن في حكمهن بلا محرم :
من شروط الاستطاعة الخاصة بالمرأة وجود المحرم وهو زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ) وهذا يشمل سفر الحج وغيره .
ومتى حجت المرأة من غير محرم أتمت وحجها صحيح ، لكن لو أن أهل البيت عندهم خادمة وسيحجون ولن يبقى في البيت نساء فهل يأخذونها معهم ، ولو لم يكن معها محرم أم أنهم يتركونها في البيت أو عند أحد من جيرانهم ، في مثل هذه الحالة يرى بعض أهل العلم أن الأخذ بسفرها معهم ولو لم يكن معها محرم أولى ارتكاباً لأدنى المفسدتين لدفع أعلاهما، وهذا القول له حظه من النظر .
(8) سقوط طواف الوداع عن الحائض والنفساء :
رخص رسولنا صلى الله عليه وسلم للمرأة الحائض والنفساء ألا تطوف الوداع ولذا لما قالوا عن صفيه أنها قد حاضت، قال: أحابستنا هي، قالوا إنها قد أفاضت يا رسول الله، قال: إذاً تنفر، وهذا دليل على أنها يسقط عنها طواف الوداع، وهذا من تيسير الله وتخفيفه على المرأة في مثل هذه الحالة.
(9) إنابة العاجز لكبر أو مرض غيره في الحج أو العمرة :
قد يعرض لبعض الناس ما يمنعه من الحج والعمرة كالمرض والكبر ، فرخص له الشارع في أن ينيب غيره وفي ذلك رفع للحرج والمشقة .
ودليل ذلك: (أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الركوب و أدركته فريضة الله في الحج فهل يجزئ أن أحج عنه، قال : أنت أكبر ولده، قال : نعم ، قال : أرأيت لو كان عليه دين أكنت تقضيه، قال : نعم ، قال : فحج عنه ) .
(10) الترخيص لمن اشترط عند الإحرام أن يحل ولا شيء عليه :
إذا اشترط الحاج والمعتمر عند إحرامه أن يحل متى حصل له عارض يمنعه من الحج أو العمرة من مرض أو غيره بأن قال عند إحرامه : (إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني) فهنا له التحلل من إحرامه متى حصل له ذلك ولا شيء عليه ، ودليل ذلك حديث ضباعة بنت الزبير حيث جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إني أريد الحج وأنا وجعه، فقال لها : حجي واشترطي فإن لك على ربك ما استثنيت ) .
فالمشترط يستفيد بالشرط أمرين أحدهما:جواز الإحلال، و الثاني: سقوط الدم عنه.
(11) الاستنابة في الرمي عند عدم الاستطاعة :
الأصل في العبادات البدنية أن يؤديها المكلف بنفسه إذا كان قادراً عليها لكن جاء الترخيص في بعض العبادات البدنية عند العجز عنها ، ومن ذلك الإنابة في رمي الجمرات لمن عجز عن الرمي بنفسه لمرض أو كبر أو كف بصر أو صغر أو كانت المرأة حاملاً ومستند ذلك قوله تعالى : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) و قوله تعالى : (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) ، وقد جاء من حديث جابر : ( كنا نرمي عن الصبيان ) .
(12) العدول إلى الصيام لمن لم يجد الهدي :
من واجبات الحج هدي التمتع والقران ومن عجز عنه عدل إلى الصيام ، قال تعالى: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب ) .
هذه الأمثلة وغيرها كثير لبعض الرخص في الحج وهي مبنية على ما سبق بيانه من تحقق سبب الرخصة وأما ما يفعله بعض الناس من إتباع الهوى والأخذ بالأقوال الشاذة وتتبع رخص الفقهاء ، فهذا يختلف كثيراً عن الأخذ بالرخصة الشرعية، وعلى كل حال فالإثم ما حاك في النفس وإن أفتاك الناس وأفتوك .
اسأل الله بمنه وكرمه أن يوفقنا لحج مبرور وذنب مغفور وعمل صالح متقبل مبرور كما أسئلة بمنه وكرمه أن يحفظ بلادنا من كيد الكائدين و عدوان المعتدين وأن يوفق الحجاج لأداء حجهم بكل يسر وسهولة وأن يديم علينا نعمة الأمن والإيمان والسلامة والإسلام وأن يزيدنا من فضله ونعمه إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد .