حول الحج (1)

السبت 25 جمادى الآخرة 1440هـ 2-3-2019م

الخطبة الأولى :

الحمد لله الذي فرض الحج على عباده مرة في العام وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من لبى وحج إلى البيت الحرام صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيراً

أمــــــــا بــــــعـــــــد:

أيها المؤمنون والمؤمنات في مثل هذه الأيام من كل عام تسعى وفود المسلمين من مشرق الأرض ومغربها باسم الله وعلى بركة الله إلى أعز بقاع أرض الله تؤدي فريضة الحج وتسبح في أنوار العبادات فتتداعى في النفوس أشرفُ الذكريات وأمجدُها ويتمثل في الخواطر المرفرفة ذلك المشهد الذي يصوره قول الحق تبارك وتعالى [وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ].

بعد أن فرغ سيدنا إبراهيم عليه السلام من بناء البيت رفع يديه إلى السماء وقال يا رب قد فرغت من بناء بيتك فأوحى الله إليه أن أذن في الناس بالحج أي ناد في الناس داعياً لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرتك ببنائه فقال إبراهيم عليه السلام فأين يبلغ ندائي فقال الله له عليك الأذان وعليَّ أن أُسمع عبادي فقام على الصفا وقيل على أبي قبيس وقال (يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه فيقال إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت جميع أرجاء الأرض وأسمع من في الأرحام والأصلاب وأجابه من كتب له الحج
إلى يوم القيامة لبيك اللهم لبيك).

زر من هويت وإن شطت بك الدار
***وحال مِنْ دونه حُجب وأستار
لا يمنعنك بُعْد عن زيارته
***إن المحب لمن يهواه زوَّار

الحج مؤتمر إسلامي من نوع فريد حيث يلتقي فيه المسلمون لقاءً دورياً فعليهم أن يستفيدوا منه في بحث مشكلات البلاد والشعوب الإسلامية و الأقليات الإسلامية ويضعوا الحلول العاجلة لهذه المشكلات ويلتقي في الحج رجال المال والاقتصاد لوضع أسس التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري بين المسلمين حماية للإنتاج من أن تعبث به أيدي الأعداء وفي الحج ربط للحاضر المشرق السعيد بالماضي الخالد المجيد.

وإذا فاتك التفات إلى الماضي
***فقد غاب عنك وجه التأسي

وفي الحج تتجلى الوحدة الإسلامية والمساواة الإنسانية في أسمى صورها و أروع مظاهرها فإن الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح كما قال تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] [وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا].

لك الدين يا رب الحجيج جمعتهم
***لبيت طهور الساحِ والعرصات
أرى الناس أصنافاً ومن كل بقعة
***إليك انتهوا من غربةٍ وشتات
تساووا فلا الأنساب فيها تفاوت
***لديك ولا الأقدار مختلفاتِ

وفي الحج يلتقي المسلمون من جميع أرجاء الأرض ليوثقوا روابطهم ويوحدوا صفوفهم وينظموا جهودهم ويثبتوا للدنيا أنهم أمة واحدة تعلو فوق المطامع والخلافات وتتطلع لرب الأرض والسماوات كيف لا وهم حَمَلةُ رسالة خالدة هي رسالة الخير والحب والسلام.

نعم إخوة الإيمان الحج عظيم في مناسكه عظيم في مظهره عظيم في نتائجه عظيم في منافعه وأثاره.

وهو ارتباط بالواقع التاريخي للأمة الإسلامية التي انطلق تاريخها من هذه الديار المباركة المقدسة.

من أعظم ثمرات الحج أنه مكفر للذنوب قال صلى الله عليه وسلم (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه).

والحجاج والعمَّار وفد الله قال الرسول صلى الله عليه وسلم (الحجاج والعمَّار وفد الله إن دعوه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم).

عباد الله اعلموا أن من أراد الحج ينبغي له أن يعمـل أموراً غفل عنها الكثير من الناس ومن أهمها.

أولاً: المبادرة إلى التوبة النصوح من جميع الذنوب والآثام لقوله تعالى [وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] وحقيقة التوبة الإقلاع عن الذنوب وتركها والندم على ما مضى منها والعزم على عدم العود فيها.

ثانياً: الاجتهاد في الخروج من مظالم الخلق وردها إلى أصحابها مهما كانت صغيرة أو كبيرة سواء كانت مظلمة مالية أو وقوعاً في عرض أخيه المسلم. لما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) رواه البخاري.

ثالثاً: الاجتهاد في قضاء الديون ورد الودائع والعواري وأداء حقوق الله من زكاة وكفارة ونذر مخافة أن تزول به قدم فتضيع حقوق الله وحقوق الناس.

رابعاً: كتابة وصيته قبل سفره وكتابة ماله وما عليه من الديون وخصوصاً التجار عليهم أن يسجلوا كل مالهم وما عليهم من حقوق.

خامساً:الاجتهاد في رضا والديه ومن يتوجب عليه بره وطاعته وكذا ينبغي أن يسترضي كل من بينه وبينهم تعامل سواء أقاربه أو غيرهم.

سادساً: النفقات في الحج يجب أن تكون طيبة من مال طيب حلال فإن الله عز وجل طيب لا يقبل إلا طيبا فالأموال التي تكتسب من الربا في البنوك وغيرها أو تأتي من المكاسب المحرمة كالدخان والمجلات الخبيثة أو الأشرطة السيئة أو تأتي من الغش والخداع والكذب والزور والبهتان والغصب والاحتيال هذه الأموال وغيرها من كل مال حرام لا يقبل الله منه زكاة ولا حجاً ولا صدقةً وإن كانت هذه العبادات تجزيء في ظاهر الحال إلا أنها تكون وبالاً على صاحبها عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرج الرجل حاجاً بنفقه طيبه ووضع رجله في الغرز فنادى لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء لبيك وسعديك زاد حلال وراحلتك حلال وحجك مبرور غير مأزور وإذا خرج الرجل بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز فنادى لبيك اللهم لبيك ناداه منادى من السماء لا لبيك ولا سعديك زادك حرام ونفقتك حرام وحجك غير مبرور).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي شرع الشرائع وبين الأحكام وفرض على القادرين حج بيته الحرام وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي خصص الحج بوقت وأطلق وقت العمرة في جميع العام وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل من طاف وسعى ولبس الإحرام صلى الله عليه وعلى آله و صحبه البررة الكرام

أمــــــا بــــــعـــــــد:

إخوة الإيمان ومما ينبغي على من عزم على الحج أيضا.

سابعاً:إذا عزم المسلم على الحج فينبغي له أن يتعلم كيفيته وهذا فرض إذ لا تصح العبادة ممن لا يعرفها ويستحب له أن يأخذ معه كتاباً واضحاً جامعاً لأحكام المناسك ليستفيد منه مع رفقته في الطريق وأثناء المقام في المشاعر.

ثامنا: اختيار الرفقة الصالحة التي تعينه على الخير وتبعده عن الشر وإن تيسر أن يكون الرفيق من طلاب العلم فذلك حسن لإنه يعنيه على مبارَّ الحج ومكارم الأخلاق ويمنعه بعلمه وعمله من سوء ما يطرأ على المسافرين من مساوئ الأخلاق والتساهل بالأمورالشرعية وشغل الوقت بما لا ينفع وليحذر المسلم من مصاحبة الجهال والمجاهرين بالمعاصي قولاً وفعلاً لئلا يعود خاسراً والعياذ بالله
.
تاسعاً: يجب على الحاج أن يقصد بحجه وجه الله والدار الآخرة والتقرب إلى الله بما يرضيه من الأقوال والأعمال في تلك البقاع الشريفة ويحذر كل الحذر من أن يقصد بحجه الدنيا وحطامها أو الرياء والسمعة والمفاخرة بذلك فإن ذلك من أقبح المقاصد ومن أسباب حبوط العمل وعدم قبوله والعياذ بالله.

عاشراً: مما ينبغي أن يُـعلم أن الإنابة في حج الفريضة لا تجوز إلا للمعذور العاجز عن الحج أو من مات ولم يحج لما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة قالت: (يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال نعم وذلك في حجة الوداع وأما حج النافلة فمحل خلاف بين أهل العلم والذي يظهر جوازه إن شاء الله وعليه الفتوى شريطة أن يكون قصد النائب حسنا وحذار حذار من قصد الكسب فإن ذلك منذر بخطر عظيم. عباد الله قد تساهل الكثير في أمر النيابة فأصبحوا يبحثون عن الأكثر نقوداً وبهذا جعلوا الحج سلعة تعرض في السوق يطلبون الربح من ورائها كما أن البعض لا يبحث عن النائب عنه وينتقيه من أهل الصلاح والتقوى بل أحياناً يوكل شخصاً تظهر عليه آثار المعاصي ويتلبس بها من حين ذهابه من بيته إلى رجوعه إليه والأكمل له أن يختار شخصاً من أهل الصلاح والتقى الذين يعرفون أحكام الحج ولهم دراية تامة به ولقد قرر أهل العلم قاعدة شرعية وهي أنه لا يجوز أن يحج ليأخذ ويجوز أن يأخذ ليحج فمن كان له الرغبة في الحج لكنه لا يجد نفقته وقد حج عن نفسه فله أن يتوكل عن غيره وأما من قصد الحج لمجرد أخذ النقود فهذا غير جائز وليُعلم أن للنائب أن يأخذ ما يعطيه إياه من وكله ولو كان فاضلاً عن نفقه الحج مادام لم يشترط عليه ومادام أن غرضه هو الحج وليس التكسب.

هذا وصلوا وسلموا على أكرم من زار المشاعر وطاف بالبيت الحرام فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال جل من قائل عليما [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]