حول الحج (3)

السبت 25 جمادى الآخرة 1440هـ 2-3-2019م

الخطبة الأولى :

الحمد لله الكبير المتعال مصرف الدهور والآجال وخالق الخلق على غير مثال يعز من يشاء ويذل من يشاء يقبل القليل مع الصدق والإخلاص في الأعمال.ويعفو عن الكثير لمن تاب وهو كريم ذو العز والجلال أحمده حمد معترف بالتقصير في جميع الأحوال وأشكره على نعم تتجدد في البكور والآصال. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا شبه ولا مثال وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحابه وعلى جميع الآل.

أمـــا بــــعـــــد:

أيها الناس اتقوا الله واعلموا أنكم ملقوه وسيسألكم عن جميع أعمالكم صغيرها وكبيرها دقيقها وجليلها حسنها وسيئها فأعدوا رحمكم الله لذلك السؤال جوابا.

عباد الله قد مر بنا موسم من مواسم الآخرة هو عشر ذي الحجة ويوم عرفة ويوم الحج الأكبر وأيام التشريق وقد شرع الله في تلك الأيام أنواعاً من العبادات يشترك فيها الحاج وغيره من صيام وتكبير وتلبية ومناسك حج وعمره وذبح قرابين فلننتظر ماذا قدمنا في هذه الأيام الفاضلة. لنقف مع أنفسنا قليلاً فإن كنا قدمنا فيها شيء من العمل الصالح فلنحافظ عليه ولنتابع فعل الخيرات لأن من علامة قبول العمل عند الله إتباعه بالعمل الصالح وإن كنا قد فرطنا وما أكثر ذلك منا فلنتدارك الأمر ونكثر العمل الصالح ونستغفر ونتوب عما سلف منا لأن مواسم الطاعات لا تعوض وقد لا تتكرر على المسلم وخصوصاً موسم الحج لما فيه من المنافع العظيمة للحجاج وغيرهم يقول تعالى [لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ].

والمنافع التي يشهدها الحجيج كثير فالحج موسم ومؤتمر. الحج موسم تجارة وموسم عبادة والحج مؤتمر اجتماع وتعارف ومؤتمر تنسيق وتعاون وهو الفريضة التي تلتقي فيها الدنيا والآخرة. يقدم الحجيج من كل فج ومن كل قطر ومعهم من خيرات بلادهم ما تفرق في أرجاء الأرض في شتى المواسم يتجمع كله في البلد الحرام في موسم واحد فهو موسم عبادة وموسم تجارة.

موسم عبادة تصفو فيه الأرواح وهي تستشعر قربها من الله في بيته الحرام وتتذكر الماضي المشرق الذي تحاول أن تبني عليه الحاضر في كل الوسائل المتاحة.

تتذكر إبراهيم الخليل ــ عليه السلام ــ وهو يودع البيت في فلذة كبده إسماعيل وأمه ويتوجه بقلبه الخافق الواجف إلى ربه [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ].

وتتذكر هاجر وهي تبحث عن الماء لنفسها وطفلها الرضيع في تلك الحرة الملتهبة حول البيت تهرول بين الصفا والمروة وبعد جولات سبع وبعد التعب والإعياء تجد النبع يتدفق بين يدي الرضيع إسماعيل وإذا هي زمزم ينبوع الرحمة في الصحراء القاحلة.

وتتذكر إبراهيم عليه السلام يرى الرؤيا فلا يتردد في التضحية بفلذة كبده ويمضي في الطاعة بقلب المسلم الكبير وصبر المؤمن الواثق بربه [قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى] ورؤيا الأنبياء حق. فيأتي الجواب من المؤمن الراضي بقضاء الله وقدره يتقبل بصدر رحب ونفس مطمئنة [قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ] وهنا تتجلى تمام الطاعة والخضوع في جواب إسماعيل عليه السلام أفعل ما تؤمر ولم يقل ما رأيت أو ما ترى بل ما تؤمر دون زيادة أو نقصان وفي هذه اللحظات العصيبة تتجلى رحمة أرحم الراحمين بعد أن صدق الأب والابن وأسلما لأمر الله جل وعلا
[وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ].

وتتذكر جهاد إبراهيم الخليل عليه السلام ضد الشيطان وهو يحصيه بالحصيات ليبعده عن طريق وهو يؤدي العبادة امتثالاً لأمر الله وتقرباً إليه.

عباد الله الحج مؤتمر جامع للمسلمين قاطبة يجدون فيه أصلهم الضارب في أعماق الزمن [مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ] ويجدون فيه محورهم الذي يشدهم جميعا إليه تلك القبلة التي يتوجهون إليها جميعاً ويجدون فيها رايتهم التي يفيئون إليها راية العقيدة الواحدة التي تتوارى في ظلها فوارق الأجناس والألوان والأوطان ويجدون فيه قوتهم الكامنة قوة التجمع والتوحد والترابط.

عباد الله إن العبادات الشرعية ذاتُ تأثير على الناس في إصلاحهم وتزكيتهم ولكنها قد يطرأ عليها ما يفقدها ذلك التأثير الخاص فتصبح غير مصلحة للنفوس ولا مزكية لها ومن أخطر ما يطرأ على العبادة فيفقدها صلاحيتها وتأثيرها في إصلاح النفوس وتطهيرها الشركُ في العبادة, وسوء عملها, وفقد الإخلاص فيها ويظهر ذلك جليا في عبادة الحج فكثيرهم أولئك الذين يفيدون على المشاعر لكن الحجاج قليلون ولقد قيل يوماً لعبد الله رضي الله عنهما ما أكثر الحجاج فقال للمستكثر ما أقلهم. فليست العبرة بكثرة الركب وإنما العبرة بإخلاص النية وسلامة القصد وصواب العمل وقد أومأ إلى ذلك
المعنى شاعر العربية إذ يقول:

خليليَّ قطاعُ القيافي إلى الحمى
كثير وجمع الواصلين قليل

عباد الله لقد قام موسم سوق من مواسم الآخرة فربح قوم بالصفقة ورجع آخرون بالذل والخيبة فهنيئا للمقبول وعليه الاستمرار ليصل إلى المقصود ويا شقاوة المخذول وعليه تدارك الوقت قبل فوات المأمول.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ]

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية:

الحمد لله على فضله وإحسانه حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيراً.

أمـــا بـــــعــــــد:

أيها الناس اتقوا الله جل وعلا واعلموا أن صالح الذرية ينفع الآباء بعد موتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له”

فاحرصوا بارك الله فيكم على صلاح أولادكم وبناتكم بكل الوسائل المتاحة لكم. وأُذكركم عباد الله. أن العام الدراسي قد بدأ هذه الأيام وبدأت معه الاستعدادات الشكلية وخصوصاً في الأمور المادية فـقـل أن يقصر الأب مع أبنائه أو بناته في شيء يحتاجونه لدراستهم كالحقائب والكراسات والأقلام والمحابر وغيرها من لوازم الدراسة وذلك أمر طيب ومحمود ولكن هل وقف الأب يسأل نفسه مع بداية العام الدراسي هل أدى مسؤليته تجاه أبنائه وبناته من ناحية التربية والتوجيه هل تابعهم في مدارسهم ماذا يتعلمون ماذا يقرءون ولمن يقرءون هل كانت لهم مع أساتذتهم وقفات في التشجيع والأخذ بأيديهم وتلمس أوجه قصورهم من ناحية السلوك والأخلاق.

هل وقف الأب يسأل نفسه أكان لدراسة أبنائه وبناته آثار على سلوكهم وتعاملهم مع الآخرين إن مسئوليتكم أيها الآباء تتضاعف مع بدء كل عام دراسي فليس المقصود دراسة الابن ونجاحه ثم حصوله على الوظيفة إنما الأهم هو كيف يربي هذا الابن ما هي أنجح الوسائل لإصلاحه والأخذ بيده لما فيه خيره وصلاحه إنك أيها الأب مسئول مسئولية مباشرة عن أبنائك وبناتك فأنت المربي الأول لهم وأنت قدوتهم الأولى في السلوك والأخلاق والتعامل على حــد قــول الــشاعــر:

وينشأ ناشيء الفتيان منا
على ما كان عوَّده أبوه

وأنتم أيها الأساتذة تذكروا أنكم تحملون رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم في توجيه الناشئة وإرشادهم فاحرصوا على سلامة النية وصدق الطوية وإخلاص العمل لله سبحانه وتعالى وعليكم بالتذرع بالصبر والتحمل الأذى لأن مشقة التعليم لا تدانيها مشقة وبالمقابل فلذته لا تدنيها لذة.

وأنتم أيها الشباب اغتنموا فرصة العمر فإنكم مسئولون عن شبابكم ولازموا أساتذتكم واحرصوا على الاستفادة منهم وخصوصاً الأخيار العاملين بعملهم.

عباد الله اعلموا أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وأمر بذلك ملائكته والمؤمنين من خلقه فقال تبارك وتعالى قولاً كريما تشريفاً لنبيه وتعظيما [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ] وقال صلى الله عليه وسلم “من صلى علي مرة واحده صلى الله عليه بها عشرا ً” اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا وإمامنا وقدوتنا صاحب اللواء المعقود والحوض المورود والمقام المحمود وارض اللهم عن أصحابه أجمعين وعن آل بيته الطيبين الطاهرين وارض اللهم عمن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين اللهم دمر أعداك أعداء الدين واحم حوزة المسلمين وطهر ديارهم واحفظ أموالهم وأعراضهم وجعلهم هدى مهتدين اللهم اهد ولاة الأمر المسلمين عامه اللهم اجعلهم سلما لأوليائك حربا على أعدائك اللهم هيئ لهم البطانة الصالحة التي تعينهم إذا ذكروا وتذكرهم إذا نسوا اللهم من أردنا أو أراد بلادنا بسوء فأشغله في نفسه اللهم أهلكه وأهلك من شايعه وعاونه وأيده من المنافقين و العلمانيين الذين يمثلون طعنات في جسم الأمة المسلمة.

استغفروا الله العظيم وأتوب إليه اللهم أنت الله لا إله إلا أنت أنت الغني ونحن عبادك الفقراء اللهم أسقنا وأغثنا اللهم رحماك رحماك بالشيوخ الركع والأطفال الرضع والبهائم اللهم رحماك رحماك بعبادك المؤمنين اللهم إننا عصيناك حتى بلغت المعاصي عنان السماء ولكننا نطمع في عفوك ورضوانك اللهم فأنزل علينا من بركاتك اللهم عم بلادنا بالخيرات والأمطار والبركات اللهم طهرها من المنافقين والعلمانيين والكفار والحاقدين وأتمـم علينا نصرك وتأييدك بدحر الطغاة والمتآمرين الذين يريدون لهذا البلد الشر اللهم وارحم هذا الجمع من المسلمين وفرج همهم واكشف غمهم واغفر سيئاتهم وأقل عثراتهم وارفع درجاتهم ورد غائبهم إلى أهله ووطنه يا رب العالمين عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر و البغي يعضكم لعلكم تذكرون وأوفوا بعهد الله إذ عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.