السؤال رقم (1037) : حول فضل الاعتكاف وليلة القدر.

نص الفتوى: فضيلة الشيخ/ عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار.. حفظه الله تعالى
لقد قرب انتهاء شهر رمضان، ولم يبق فيه سوى الليالي الأخيرة منه، ويعلم فضيلتكم ما لهذه الأيام من فضائل عظيمة وأجور كثيرة، فنرجو من فضيلتكم توجيهنا لفضل هذه الأيام وخصائصها، وخاصة سنة الاعتكاف التي أثرت عن نبينا صلى الله عليه وسلم من حيث فضله، وأهميته، وشروطه، وآدابه، ووقت دخول المعتكف وخروجه، ومدة الاعتكاف، وبعض السلبيات التي يقع فيها بعض المعتكفين، ومبطلات الاعتكاف، وأيضاً فضل ليلة القدر. عسى الله تعالى أن ينفع بها من قرأها وسمعها. وجزاكم الله خيراً ونفع بكم الإسلام والمسلمين.

الرد على الفتوى

الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب، والصلاة والسلام على خير الخلق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان، وبعد:
فقد دخلت العشر الأخيرة من رمضان وفيها الخيرات والأجور الكثيرة، فيها الفضائل المشهورة والخصائص العظيمة.
فمن خصائصها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد بالعمل فيها أكثر من غيرها ويدل على ذلك ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره(رواه مسلم).
وما روته أيضاً قالت:كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله(رواه البخاري ومسلم). وهذه أدلة صريحة على فضل هذه العشر، وأن الاجتهاد فيها بجميع أنواع القربات فيه أجر عظيم وفضل كبير وخاصة الاعتكاف وقيام ليلة القدر.
ولاشك أن المسلم العاقل يسعى لاغتنام هذه الأوقات الفاضلة لعل الله أن يدركه برحمته وفضله.
فضل الاعتكاف:
ومن أفضل الأعمال في هذه العشر هو الاعتكاف لأنه عبادة روحية لتزكية النفس وتطهير القلب والعقل من شواغل الحياة وصوارف العيش، فيقطع فيه المسلم الأواب إلى ربه متحنثاً قانتاً قائماً وقاعداً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه.
والاعتكاف عبارة عن لزوم المسجد لطاعة الله تعالى، وهو سنة وقربة إلى الله تعالى، يدل لذلك الكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى:[ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد](البقرة:187)، وقالت عائشة رضي الله عنه:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله(رواه البخاري).
وأجمع المسلمون على مشروعية الاعتكاف في الجملة.
أهميته:
للاعتكاف أهمية كبيرة، ففيه تقرب إلى الله تعالى بالمكث في بيت من بيوته، وحبس النفس على عبادته، وقطع للعلائق عن الخلق للاتصال بالخالق، وإخلاء للقلب من الشواغل عن ذكر الله، والتفرغ لعبادة الله بالتفكر والدعاء والذكر وقراءة القرآن والصلاة والتوبة والاستغفار.
ومن اعتكف فقد أحيا سنة مهجورة منذ أزمنة طويلة، قال الإمام الزهري:عجباً للمسلمين!! تركوا الاعتكاف مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل.
وروح الاعتكاف هو تخلية القلب لله والإلحاف في طلب عفوه، والإلحاح في نيل رضاه، قال عطاء رحمه الله
:مثل المعتكف كرجل له حاجة عند عظيم، فجلس على بابه ويقول لا أبرح حتى تقضي حاجتي،
وكذلك المعتكف يجلس في بيت الله ويقول: لا أبرح حتى يغفر لي.
شروطه:
أولاً: النية لقول النبي صلى الله عليه وسلم:إنما الأعمال بالنيات..(رواه البخاري ومسلم).
ثانياً: أن يكون الاعتكاف في مسجد، قال تعالى:[وأنتم عاكفون في المساجد..](البقرة:187).
ثالثاً: أن يكون المسجد الذي يعتكف فيه تقام فيه صلاة الجماعة لأن الاعتكاف في مسجد لا تقام فيه صلاة الجماعة سيقضي إلى ترك الجماعة أو تكرر خروج المعتكف كل وقت وهذا يناف المقصود من الاعتكاف.
آدابه:
ينبغي على المعتكف أن يلتزم ببعض الآداب التالية:
أولاً: حسن الخلق، والتواضع، والصبر على طاعة الله.
ثانياً: الاشتغال بالنوافل كالصلاة، وقراءة القرآن، والذكر، والاستغفار، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاء.
ثالثاً: كف الأذى عن إخوانه، من رفع للصوت، أو كثرة الحديث أو المزاح.
رابعاً: عدم الإكثار من الطعام لكي يستطيع التلذذ بطاعة الله وقربه.
خامساً: النصيحة لإخوانه إذا رأى منهم تقصيراً أو أخطاءً.
سادساً: العزوف عن المخالطة بقدر الإمكان.
سابعاً: الإكثار من الخلوة بالنفس والبعد عن كل ما يصرفها عن الله تعالى.
متى يدخل المعتكف:
قيل: بعد صلاة الفجر من اليوم الحادي والعشرين، فقد روي عن عائشة رضي الله عنها قالت:كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه(رواه البخاري ومسلم).
وقيل: قبل غروب شمس يوم العشرين من رمضان، أي قبل دخول ليلة الحادي والعشرين، حيث أن العشر الأواخر من رمضان تبدأ من يوم الحادي والعشرين وهذا أولى.
متى يخرج منه:
يكون خروج المعتكف من معتكفه بعد غروب شمس آخر يوم من رمضان وثبوت دخول شهر شوال.
مدة الاعتكاف:
اختلف أهل العلم في مدة الاعتكاف هل هي يوم وليلة على الأقل أم تكفي فيه الساعة؟ والصحيح ـ إن
شاء الله ـ أن أقله يوم وليلة، لأن الاعتكاف مقرون بالصيام ولا يمكن أن يصوم جزءاً من النهار.
الاشتراط:
يجب في حق من أراد الاعتكاف أن يشترط الأيام التي يعتكفها، بحيث يحدد بنيته عدد الأيام التي سيعتكفها، وأيضاً يجوز له اشتراط الخروج لاتباع جنازة، أو عيادة مريض، أو قضاء حاجة لأهله، أو تلبية دعوة، فإذا خالف فيما اشترط على نفسه بطل اعتكافه.
مسائل حول الاعتكاف:
الأولى: الخروج للصلاة على الجنازة ودفنها: على قولين: والصحيح ما ذهب إليه الجمهور إلى أن المعتكف ليس له أن يشهد الجنازة إلا إذا اشترط ذلك.
الثانية: خروجه لأداء صلاة التراويح في مسجد آخر غير مسجده الذي يعتكف فيه: لا يجوز لمن اعتكف في مسجد أن يخرج منه ليصلي التراويح في مسجد آخر، ومن فعل ذلك فقد قطع اعتكافه،وخالف السنة.
الثالثة: الأذان في مسجد والاعتكاف في آخر: الواجب في حق المؤذن والذي له مسجد مسؤول عنه ألا يترك مسجده ليعتكف في مسجد آخر، لأن الأذان واجب والاعتكاف سنة، فلا يقدم السنة على الواجب إلا إذا استأذن من الجهة المسؤولة.
الرابعة:الخروج لزيارة المريض:ذهب الجمهور إلى أن المعتكف ليس له أن يزور مريضاً إلا إذا اشترط ذلك.
الخامسة: من كان والداه أو أحدهما في حاجته، هل الأولى له الاعتكاف؟: الواجب في حقه في هذه الحالة لزوم والديه أو أحدهما إذا كانا في حاجة إليه، وهذا حق واجب لهما عليه، فلا يقدم المسنون على الواجب، ويمكن له الاستئذان منهما لحضور صلاة القيام مع المسلمين، فإن أذنا له فخير، وإن لم يأذنا له فطاعتهما أولى.
السادسة: الاستئذان من الوالدين أو أحدهما لدخول الاعتكاف: إذا أذن الوالدان لولدهما بالاعتكاف فلا حرج عليه في دخول الاعتكاف ولزومه، وأما إن لم يأذنا له فلا يجوز له مخالفتهما، بل يجب عليه طاعتهما ولزوم برهما.
السابعة: الخروج من معتكفه للضرورة: يجوز للمعتكف أن يخرج لقضاء الحاجة، والطهارة، والطعام، ولبس الثياب، والأولى له أن يجمع هذه الأمور في مسجد واحد كي لا يقطع اعتكافه، بحيث يحضر معه ملابسه، ويوصي أحد أقاربه بإحضار طعامه، وأن يكون المسجد به ملحق لقضاء الحاجة والطهارة.
من أخطاء الاعتكاف:
(1) الاجتماع والحديث فيما لا فائدة فيه: فيكره في حق المعتكف كثرة الحديث، وكثرة المزاح، والانشغال فيما لا يعنيه.
(2) إحضار الأكل الكثير مع إرهاق الأهل في إعداده: وهذا مخالف للسنة لأن الإكثار من الأكل يضيع على أهل المعتكف وقتاً كبيراً يضيع هباءً منثورا، ويضيع عليهم فرصة حضور قيام الليل، وتلاوة القرآن، وسائر الأعمال الصالحة، وأيضاً يسبب الإكثار من الطعام إنشغال المعتكفين به والإكثار منه، فتثقل عليهم العبادة، فلا ينبغي على المعتكف أن يشغل نفسه ولا غيره بما يعود عليهم بالخسارة وخاصة في هذا الوقت الفاضل.
(3) عدم استغلال الوقت فيما يعود عليه بالنفع من تلاوة للقرآن، وذكر الله، وصلاة التهجد، وغير ذلك من الأعمال الصالحة: وهذا يحدث كثيراً من بعض الشباب الغافل، فتجد الشاب يحرص على الاعتكاف ولكن عند دخوله لمعتكفه يحصل منه التفريط وتضييع الوقت فيما لا يعود عليه بالفائدة، فيكثر من التحدث إلى غيره، ويكثر من الضحك، وغير ذلك مما يشاهد من بعض الشباب، فالأولى في حق هؤلاء عدم إضاعة الوقت إلا فيما يعود عليه بالخير في العاجل والآجل.
وأيضاً بعض المعتكفين يقعون في بعض الكبائر كالغيبة والنميمة، وغير ذلك من الأمور التي يحاسب عليها العبد. والبعض يبيع ويشتري في المسجد ويغفل أنه جاء لبيت الله من أجل الخلوة وترك شواغل الدنيا، ويظن أن هذا الأمر لا يؤثر على اعتكافه، وبعضهم يحضر الصحف والمجلات وما فيه صور، وبعضهم يحضر المحمول وينشغل ببعض الألعاب، أو بالبيع والشراء، وبعضهم ينشغل بالجوالات واللعب بها، وكثرة الكلام فيما لا فائدة فيه، والأولى لهؤلاء الانشغال بالطاعة والعبادة.
مبطلات الاعتكاف:
وأما ما يبطل الاعتكاف فهو كالآتي:
أولاً: الجماع: لقوله تعالى:[ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد](البقرة:187).
ثانياً: المباشرة دون الفرج.
ثالثاً: الخروج من المسجد لغير حاجة.
رابعاً: الإنزال متعمداً.
خامساً: قال بعض أهل العلم: يفسد باقتراف كل كبيرة من المعاصي والمحرمات.
فعلى المسلم الحرص على سلامة اعتكافه مما يفسده أو يقلل من ثوابه وأجره.
ويكفي المسلم شرفاً وفخراً أن يكون من القائمين في ليلة القدر والتي هي خير من ألف شهر، كما قال الله تعالى:[ليلة القدر خير من ألف شهر](القدر:3)، وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم أن من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، فقال:(من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)(متفق عليه). فنسأل الله تعالى أن يعيننا جميعاً على كل ما يرضيه، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه، وأن يجعلنا من عتقائه من النار ووالدينا وجميع المسلمين.