جبر الخواطر
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، جَعَلَ الخيرَ في التحلِّي بالفضائلِ، ورتَّبَ على ذلكَ أجزلَ الثَّوابِ وأعظمَ الأجورِ، أحمدُه سبحانه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ المستحقُّ للثناءِ والمجدِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صلَّى اللهُ وسلَّم عليهِ وعلى آلِه وصحبِه إلى يومِ الدينِ. أما بعدُ: فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون}[الحشر:18].
أيُّها المؤمنونَ: جاءَ الإسلامُ بالحضِّ على مراعاةِ الخواطرِ وجبرِها، وتطييبِ النُّفوسِ وعدمِ كسرِهَا، وجَعَلهَا سبحانَه عبادةً يُتقرَّبُ بها الخلقُ إليهِ وصفةً يُحبُّها ويَرْتَضِيْها، وربُّنا سبحانَه جَبَرَ خواطرَ عبادِه وطيِّبَ نفوسَهم، وتفرَّدَ بالكمالِ في ذلكَ، فكمْ مِنْ ضالٍ هداهُ، وفقيرٍ جَبَرهُ فأغنَاه، وضعيفٍ قوَّاهُ، ومظلومٍ أجابَ دعاءَه، ومحتاجٍ فرَّجَ همَّه ويسَّر أمرَه وأمضَاه، ومريضٍ شفَاهُ، ومبتلىً عافَاهُ، ومُضطَّرٍ أنجَاهُ، ومستغيثٍ ملهوفٍ أغاثَه وأعطَاهُ، وداعٍ لبَّى دُعاءَه، وسائلٍ أعطاهُ ما يتمنَّاهُ، ومكروبٍ فَرَّجَ عنْه وأزالَ كربَه وهدَاه، وحزينٍ واسَاه، ومهمومٍ مغمومٍ أزالَ همَّه وغمَّه وملأَ قلبَه فرحًا وسرورًا، فلهُ الحمدُ سبحانَه على فضلِه وعظيمِ جودِه وكرمِه.
وقدْ أخْبرنَا سبحانَه في كتابِه أنَّه جَبَرَ قلوبَ أنبيائِه ورسلِه ومَنْ اصطفَاهُمْ مِنْ خَلْقِه، عندَ نزولِ البلاءِ بهم، ومعاناتِهم في أوساطِ أقوامهِم، فلمْ يُخَيِّبْ رجاءَهم، ولم يردَّ دعاءَهم، في أصعبِ المواقفِ وأشدِّهَا عليهِم، ومِنْ هؤلاءِ نَبيُّنا محمدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا أُخرِجَ من مكةَ وهي أحبُّ البقاعِ إليه، وقَفَ قَبْلَ خروجِه على موضعٍ يقالُ له الحزورةَ، وهو تلٌّ مرتفعٌ يُطلُّ على الكعبةِ، فقال: (ما أطيبَكِ من بلدٍ، وأحبَّكِ إليَّ، ولولا أن قومي أخْرجوني منكِ ما سكنتُ غيرَكِ، واللهِ إنكِ لَخيرُ أرضِ الله، وأحبُّ أرضِ اللهِ إلى اللهِ، ولولا أنَّي أُخرجتُ منكِ ما خرجتُ)(رواه الترمذي (3925)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (3925)، فَجَبَر اللهُ تعالى خاطرَه، وأوحى إليهِ وهو في طريقِه إلى المدينةِ بقولِه:{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}[الْقَصَصِ: 85]، فردَّه إليهَا عزيزًا فاتحًا منتصرًا، وهكذا فعل سبحانَه مع سائرِ أنبيائِه ورسلِه والصالحينَ من عبادِه.
عبادَ اللهِ: إنَّ جَبْرَ الخواطِر خُلقٌ عظيمٌ وسجيَّةٌ تَدلُّ على سموِّ نفسِ صاحبِهَا، ورجاحةِ عقلِه وسلامةِ صدرِه، وقد كانَ نبيُّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أفْضَلَ الناسِ في هذا الخلقِ العظيمِ، فهو مِنْ أصلحِ الناسِ قلبًا، وأصدقِهم لسانًا، وأحسنِهم خلقًا، وأعظمِهم تواضعًا ولينًا ورفقًا، وأكثرِهِم جُودًا وكرمًا، وأطيبِهم نفسًا وفضلاً. قال عنْه ربُّنَا جلَّ وعلا:{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم}[التوبة:128]، وقالَ تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آلِ عِمْرَانَ: 159]، فكانَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أسرعَ الناسِ في جبرِ خواطرِ أصحابِه، وتطييبِ نُفوسِهم، ومِنْ ذلكَ: ما رُوي عن ابنِ مسعودٍِ رضيَ اللهُ عَنْه أنَّه كانَ متعلقًا في نخلةٍ فكَشفتْ الريحُ عنْ ساقَيهِ الضَّعيْفتَينِ فَضَحِكَ القومُ منه، فمَا كانَ مِنْ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم إلا أنَّه قالَ لهمْ جابرًا لخاطرِه ومُعلِّمًا إيَّاهم بفضلِه عندَ ربِّه:(والذي نفسيْ بيدِه لهُمَا أثقلُ في الميزانِ مِنْ أُحُدٍ)(رواه أحمد (3991)، وحسنه الألباني في إرواء الغليل (1/104).
وعَنْ أنسِ بنِ مالكٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، يُقال لَهُ: زَاهِرُ بْنُ حَرَامٍ، كَانَ يُهدِي إِلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلمَ الْهَدِيَّةَ، فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ:(إن زاهِراً بَادِيَنا، وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ)، قَالَ: فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ، فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَالرَّجُلُ لَا يُبصره؛ فَقَالَ: أَرْسِلْنِي، مَن هَذَا؟، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا عَرَفَ أَنَّهُ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ، جَعَلَ يُلْزِقُ ظَهْرَهُ بِصَدْرِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ: (مَنْ يَشْتَرِي هَذَا الْعَبْدَ؟)، فَقَالَ زَاهِرٌ: تجدُني يَا رَسُولَ اللَّهِ كاسِداً، قَالَ: (لَكِنَّكَ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ، أَنْتَ عندَ اللهِ غَالٍ)(رواه ابن حبان (5790)، وقال شعيب الأرناؤوط إسناده صحيح على شرط الشيخين ).
أيُّها المؤمنونَ: اعْلموا أنَّ أفضلَ الناسِ جبرًا لخواطرِ إخوانِهم ورأفةً ورفقًا بهم وتجاوزًا عن هفواتِهم والتماسَ الأعذارِ لأخطائِهم والسعيَ في حوائِجهم وحُبِّ الخيرِ لهم، وأشدَّهم حرصًا على إدخالِ السرورِ عليهم، هم أصحابُ القلوبِ الرحيمةِ والنفوسِ الطيبةِ الزَّكيةِ وهؤلاءِ همْ أسعدُ الناسِ قلبًا والفائزونَ برحمةِ ربِّهم ورضوانِه وجنَّتِه. يقولُ بعضُ أهلِ العلمِ:”مَنْ سارَ بينَ النَّاسِ جابرًا للخواطرِ أَدْرَكَهُ اللهُ في جَوفِ المخاطرِ”. وها هو كعبُ بنُ مالكٍ رضيَ اللهُ عنه لمَّا تاب اللهُ تعالى عليه وعلى صاحبيه وقد تخلَّفوا عن غزوةِ تبوكَ، يقولُ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ رضيَ اللهُ عنه يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّانِي، وَاللَّهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرَهُ وَلَا أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ ..) (رواه البخاري (4418)، وكيفَ ينسى كعبٌ هذهِ اللحظةَ لطلحةَ وقدْ جَبَرَ كسرَ قلبِه وأفْرَحَه بعد بلائِه ومحنَتِه.
يقولُ سفيانُ الثوريُّ: “ما رأيتُ عبادةً يَتَقَرَّبُ بها العبدُ إلي ربِّهِ مثْلَ جَبْرِ خاطِر أخيهِ المسلمِ”.
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ: {.. وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَاب}[البقرة:197]
باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، فاسْتَغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين. أما بعدُ:
فاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واعلموا أنَّ جَبْرَ الخواطرِ له صورٌ كثيرةٌ يُحبُّها اللهُ جلَّ وعلا ويَرْتَضِيها، ومِنْ ذلكَ:
1ـ الكلمةُ الطيبةُ يَتَكلَّمُ بها العبدُ فتكونُ سببًا في إزالةِ الهمِّ والحزنِ والآلامِ، وإدخالِ الفرحِ والسرورِ والسكينةِ والاطمئنانِ على أخيهِ المسلمِ.
2ـ بذلُ الابتسامةِ والبشاشةِ على القريبِ والبعيدِ؛ فهيَ سببٌ عظيمٌ في تأليفِ القلوبِ وإزالةِ الشحناءِ عن الصدورِ وجابرةٌ لخواطرِ الضعفاءِ والفقراءِ وأصحابِ الحاجاتِ.
3ـ سدُّ حاجاتِ الفقراءِ والمساكينِ والأراملِ والأيتامِ والمعسرينَ وغيرِهم، مِمَّنْ يعانُونَ المرارةَ ببذلِ المالِ لهم، وقضاءِ حوائجِهم، والسَّعيِ في تيسيرِ أمورِهم.
4ـ تعزيةُ أهلِ الميِّتِ عندَ فَقْدِ ميِّتهِم وتَسليتُهم ومواساتُهم وتخفيفُ مصابهِم.
5ـ مواساةُ مَنْ حَصَلَتْ لهُ مصيبةٌ في نفسِه مِنْ مرضٍ أو بلاءٍ في جسدِه، أو في مالِه بفقدِه، أو فَقَدَ أحدًا من أهلِه أو أقاربِه بسببِ موتٍ أو حادثةٍ، أو غيرِ ذلكَ من الابتلاءاتِ.
6ـ شراءُ غرضٍ من بائعٍ متجوُّلٍ في حَرِّ الشمسِ، يسيرُ على قدميهِ باحثًا عن رزقِه؛ مساعدةً له وجبرًا لخاطرٍه.
7ـ قبولُ اعتذارِ المخطئِ، والصَّفْحُ عنه ومسامحتُه.
8ـ السعيُ في قضاءِ حوائجِ الناسِ، وتفريجُ الكروبِ وتيسيرُ الأمورِ.
9ـ البحثُ عن أصحابِ الحاجاتِ وبذلُ المالِ والمساعدةُ لهم، تأليفًا لقلوبِهم، وتطييبًا لنفوسِهم، وجبرًا لكسرِ حرمانِهم.
هذه بعضُ صورِ جبرِ الخواطرِ وهناك الكثيرُ غيرُها، فاحرصوا عليهَا واعْلموا أنَّكم تُوفَّونَ أجرهَا يومَ تلقونَ ربَّكم فيجازيْكم خيرًا كثيرًا.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى والقدوةِ المجتبى فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ وعلا:[إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا].
الجمعة: 9 / 6 / 1442هـ