مرحبًا بالضيفِ الكريمِ
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي امتنَّ علينا بشهرِ رمضانً وَفَتحَ لنا فيه أبوابَ الجنانِ، وبشَّرنا فيه بجزيلِ الأجرِ والإحسانِ، وأشهدُ أن لا إلَه إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له صاحبُ الجودِ والإنعامِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه خيرُ مَنْ صامَ وقامَ وبَذَلَ وأَحْسنَ إلى الأنامِ، صلَّى اللهُ وسلَّم عليهِ وعلى آلِه وصحبِه ومَنْ تَبِعَهم بإحسان، أما بعدُ: فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، فتقوى اللهِ خيرُ مُعينٍ للعبدِ على السيرِ والعملِ للوصولِ إلى نعيمِ الجنانِ.
أيُّها المؤمنون: لقدُ أقبلَ علينا شهرُ رمضانَ الذي خصّه اللهُ تعالى بالتشريفِ والتكريمِ، وفَرَضَ علينا صيامَه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:183]، وأَنْزَل فيه القرآنَ العظيمُ،{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة:185]، وسنّ لنا رسولُنا صلى اللهُ عليه وسلَّم قيامَه، فقال:(مَنْ قامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه)(رواه البخاري (37)، ومسلم (759).
عبادَ اللهِ: كان نبيُّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُبشِّر أصحابَه بقدومِه، فيقولُ:(أتاكم شهرُ رمضانَ، شهرٌ مبارَكٌ، فَرَضَ اللهُ عليكم صيامَه، تُفتحُ فيه أبوابُ الجنَّةِ، وتُغلَق فيه أبوابُ الجحيمِ، وتُغَلُّ فيه مَرَدَةُ الشياطينِ، وفيه ليلةٌ هي خيرٌ من ألفِ شهرٍ، من حُرِمَ خيرَها فقد حُرِمَ) (رواه النسائي (4/129)، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (55). فهو للأمةِ ربيعُها، وللعباداتِ موسمُها، وللخيراتِ سُوقُها؛ فلا شَهْرَ أَفْضَل للمؤمنِ منه، وهو شهرٌ فضّل اللهُ تعالى أوقاتَه على سائرِ الأوقاتِ، وخصّه بأسمى الصفاتِ وأجملِ العباداتِ.
وكان السَّلفُ يفرحونَ بقدومِ شهرِ رمضانَ، ويَستبشرونَ بدخولِه فَيُهنِّأُ بعضُهم بعضًا، لعلمِهم بعظيمِ قدرِه، وجزيلِ فضلِ اللهِ عليهم فيه، وما يُنْزلهُ تعالى على عبادِه من الرحماتِ، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:(إذا جاءَ رَمَضانُ فُتِّحَتْ أبْوابُ الجَنَّةِ، وغُلِّقَتْ أبْوابُ النّارِ، وصُفِّدَتِ الشَّياطِينُ)(رواه البخاري (3277)، ومسلم (1079)، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:( إذا كان أولُ ليلةٍ من شهرِ رمضانَ صُفِّدَتِ الشياطينُ ومَرَدةُ الجنِّ، وغُلِّقتْ أبوابُ النارِ فلم يُفتحْ منها بابٌ، وفُتِّحَتْ أبوابُ الجنةِ فلم يُغلقْ منها بابٌ، ويُنادي منادٍ كلَّ ليلةٍ: يا باغيَ الخيرِ أقبلْ ويا باغيَ الشرِّ أقْصرْ، وللهِ عتقاءُ من النارِ وذلك كلَّ ليلةٍ) (رواه الترمذي (682)، وابن ماجه (1642)، وحسنة الألباني في صحيح الجامع (759).
وهو شهرُ قبولُ التَّوبةِ، وتكفيرِ السيئاتِ، وإقالةِ العثراتِ، وإجابةِ الدعواتِ، ومضاعفةِ الحسناتِ، ورفعِ الدَّرجاتِ، وإجزالِ الهباتِ.
فاحمدوا اللهَ أَنْ وَهَبَ لكم من العمرِ ما يُبلِّغكمْ هذَا الشهرَ، وأنتم تتقلَّبونَ في نعمةِ الأمنِ والأمانِ، والسلامةِ والإسلامِ، والمعافاةِ في النفسِ والأهلِ والولدانِ ورغدِ العيشِ.
عبادَ اللهِ: ينبغي علينَا جميعًا أن نَستغلَّ هذا الشهرَ على الوجهِ المأمورِ به شرعًا، وأَنْ نَبذُلَ ما في وُسعنا لتحصيلِ زادٍ ينفعُنا في الآخرةِ، قَبْلَ أن تمضيَ أيامُه ونتحسَّرَ على ما فرَّطنا فيه، ويَكْفينا شرفًا وفخرًا أنَّ صيامَه وقيامَه إيمانًا واحتسابًا تُنالُ به المغفرةُ من جميعِ الذنوبِ.
فشهرُ رمضانَ مدرسةٌ ربَّانيةٌ فَرَضَه اللهُ علينا ليُربِّي نفوسَنا على تقواه ومحبتِه وتعظيمِه وخشيتِه وشكرِه على جزيلِ نعمِه وعطائِه، وحتَّى يُصلحَ به قلوبَنا وجوارحَنا ونياتِنا وأعمالَنا، يقولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم:(مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعمَلَ بِه فليْسَ للهِ حَاجَةٌ أنْ يدَعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ)(رواه البخاري (1903). فأبشروا أيُّها الصائمونَ والقائمونَ بالأجرِ الكبيرِ من ربٍّ كريمٍ، وافرحوا بطاعتِكم لربِّكم عندَ فطرِكم، وأبشروا بتحصيلِ الفَرَحِ الأعظمِ عندَ لقاءِ ربِّكم، يقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ)(رواه البخاري (1904) ومسلم (1151).
أَعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:183].
باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، فاسْتَغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آله وصحبِه أجمعين. أما بعدُ:
فاتَّقوا اللهَ أيُّها المؤمنونَ، واعلموا أنَّ شهرَ رمضانَ فُرصةٌ تَتَكرَّر كُلَّ عامٍ، والمحرومُ حقًّا مَنْ حُرمَ في هذا الشهرِ رحمةَ اللهِ تعالى لانشغالِه بشهواتِ نفسِه وملذاتِها، وركونِه إلى الدَّعةِ والراحةِ، وعدمَ الجدِّ والاجتهادِ في أيامِه وليالِيه.
فاجتهدوا رَحمكُم اللهُ باستغلالِ أيامِ هذا الشهرِ بالمحافظةِ على الصلواتِ المفروضةِ، والإكثارِ من النَّوافلِ، والذكرِ والاستغفارِ والدعاءِ وتلاوةِ القُرآنِ، والبذلِ والإحسانِ إلى الخلقِ، فقد كان ذلكَ هديُ نبيِّكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فعن ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهمَا قالَ:(كانَ النبيُّ ﷺ أجْوَدَ النّاسِ بالخَيْرِ، وكانَ أجْوَدُ ما يَكونُ في رَمَضانَ حِينَ يَلْقاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ جِبْرِيلُ عليه السَّلامُ يَلْقاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ في رَمَضانَ، حتّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عليه النبيُّ ﷺ القُرْآنَ، فَإِذا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عليه السَّلامُ، كانَ أجْوَدَ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ)(رواه البخاري (1902) ومسلم (2308).
وكذلكَ الإكثارُ من الدعاءِ عندَ فطرِكُم، وسؤالِ اللهِ ما شئتمْ من فضلِه، فهذا الوقتُ مِنْ أرجَى أوقاتِ استجابةِ الدُّعاءِ، يقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:(ثلاثةٌ لا تُردُّ دعوتُهم، وَذَكرَ منهم: والصّائمُ حتّى يفطرَ..)(رواه ابن ماجه (1752)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1432).
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى والقدوةِ المجتبى فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ وعلا:[إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا].
الجمعة: 27/8/1442هـ