الوصايا بين الإفراط والتفريط. بتاريخ 10/9/ 1442هـ
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ خالقِ كلِّ شيءٍ وهاديهْ، ورازقِ كلِّ شيءٍ حيٍّ وكافيهْ، وجامعِ الناسِ ليومٍ لا ريبَ فيه، العالمِ بكلِّ ما يُبْديه العبدُ وما يُخفيه، وما يذرُه وما يأتيْه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، ولا ربَّ لنا سُواه، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه حاملُ لواءِ الحقِّ ومُعْليه، ومُعلِّمُ الهدى وداعيْه، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وصحبِه ومَنْ تَبِعهَم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعدُ: فاتَّقوا اللهَ حق التقوى، وراقبُوه في السرِّ والنَّجوى.
عبادَ اللهِ: من الأمورِ المهمةِ في حياةِ المسلمِ أن تكونَ لهُ وصيةٌ يُوصيْ فيهَا بمَا لهُ وما عليه، وأن يتعجَّلَ ذلكَ، والوصيةُ: هي هبةُ الإنسانِ غيرَه عينًا، أو دينًا، أو منفعةً على أنْ يَمْلكَ الموصى له الهبةَ بعدَ الموتِ، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِين}[البقرة:180]، ولقوله ﷺ:(ما حقُّ امرئٍ مسلمٍ يبيتُ ليلتينِ ولَه ما يُوصيْ فيهِ إلّا ووصيَّتُه مَكتوبةٌ عندَه)(البخاري (2738) ومسلم (1627)، وفي لفظٍ عندَ مسلمٍ:(له شيءٌ يريدُ أن يُوصيَ فيه)(1627)، وزادَ مسلمٌ عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قال:(ما مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ ذلكَ إِلّا وَعِندِي وَصِيَّتِي)، وقال ابنُ قدامةَ: «وأجمع العلماءُ في جميعِ الأمصارِ والأعصارِ على جوازِ الوصيةِ».
عبادَ اللهِ: والوصيةُ على خمسةِ أقسامٍ: واجبةٌ، ومستحبةٌ، ومكروهةٌ، ومحرمةٌ، ومباحةٌ. فالواجبةُ: هي مَنْ كانَ عليه دين لا بينةَ عليه، وكذا تَجبُ للأقربينَ الذين ليس لهم حقٌّ في الإرثِ وكانوا فقراءَ والموصيْ غنيٌّ، وكذلك مَنْ كانَ له مالٌ عندَ غيرِه.
والمستحبةُ: هي في حقِّ مَنْ عندَه سعةٌ من المالِ، فيُوصيْ منه بشيءٍ يُنفَقُ في أعمالِ الخيرِ والبرِّ وتكونُ صدقةً لهُ بعدَ موتِه، وتكونُ في ثلثِ المالِ أو أَقَلْ لقولِه ﷺ: (الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كَثِيرٌ) البخاري(2743) ومسلم(1629)، وتكونُ لغيرِ وارثٍ، لقولِه ﷺ:(إنَّ اللَّهَ قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ فلا وصيَّةَ لوارثٍ) (أبو داود (2870)، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود (2870) حديث حسن صحيح).
وأما المكروهةُ: فهي ما إذا كانَ مالُ الموصيْ قليلاً وورثتُه محتاجونَ، قال ﷺ: (إنَّكَ أن تذرَ ورثتَكَ أغنياءَ، خيرٌ من أن تذَرَهمَ عالةً يتَكفَّفونَ النّاسَ)(ابن ماجة (2206)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة (2206 ).
وأما المحرمةُ: فهي الوصيةُ بما زادَ على الثلثِ، أو كانتْ لوارثٍ، للنهيْ عن ذلك.
وأما المباحةُ: فهي ماعدا ذلك؛ كأنْ يكونَ للموصيْ مالٌ قليلٌ وورثتُه غيرُ محتاجينَ أو يكونَ مالُه كثيرًا جداً وورثتُه محتاجونَ، فهنا تباحُ له الوصيةُ.
أيُّها المؤمنونَ: ومِنَ الحكمِ المهمةِ في تشريعِ الوصيةِ: أمْرُ الموصيْ أهلَه فيها بالتمسُّكِ بعبادةِ اللهِ وحدَه لا شريكَ له وتركِ عبادةِ ما سواه، وفيها تبرئةُ ذمةِ الموصيْ ممَّا يَحدثُ بعدَ موتِه من الأمورِ المنهيِّ عنهَا شرعًا، مِنَ التَّسخُّطِ، ولَطْمِ الخدودِ، وشَقِّ الجُيوبِ، وحلْقِ الرؤوسِ وغيرِ ذلكَ من البدعِ المحرمةِ، وهي عملٌ ينتفعُ به الميتُ بعدَ موتِه إذا وَضَعَ مالَه في أعمالِ الخيرٍ والبرٍّ، وفيها تبرئةُ ذمةِ الموصيْ من الحقوقِ والديونِ التي لهُ أو عليه، وفيها المحافظةُ على مالِ الدائنِ وبراءةُ ذمةِ المدينِ، وفيهَا حمايةٌ للأموالِ ورعايةٌ للقصَّرِ الذين لا يُحسنونَ التَصرُّفِ في أموالِهم، بوضعِ وصيٍّ عليهم ليحافظَ على أموالِهم.
عبادَ اللهِ: يُقصِّرُ بعضُ النَّاسِ في تنفيذِ الوصيةِ، ولا يُبالونَ بها، وهذا لا يجوزُ، فيجبُ تنفيذُ الوصيةِ وعدمُ تأخيرهَا، ويأثمُ الوصيُّ إذا تعمَّدَ عدمَ تنفيذِها أو تأخيرَها، ويُشرعُ تَنفيذُ الوصيةِ مباشرةً إذا ماتَ الموصيْ؛ ولا يجوزُ الإضرارُ بالوصيةِ بأنْ يوصيَ بأكثرَ من الثلثِ، وكذلكَ لا يجوزُ تفضيلُ بعضِ الورثةِ على بعضٍ أو إخراجُ المالِ مضارةً بالورثةِ ونحوَه.
واعْلموا رَحِمَكُمْ اللهُ أنَّ قضاءَ الدينِ مقدَّمٌ على الوصيةِ، لقوله ﷺ:( إنَّ أخاكَ محتبَسٌ بدَيْنِه، فاقْضِ عنه)(ابن ماجة (1988) وصححه الألباني في صححي سنن ابن ماجة (1988).
وينبغي كتابةُ الوصيةِ في حالِ الصحةِ، فعن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه قالَ: قالَ رَجُلٌ للنبيِّ ﷺ: يا رَسولَ اللَّهِ أيُّ الصَّدَقَةِ أفْضَلُ؟ قالَ: أنْ تَصَدَّقَ وأَنْتَ صَحِيحٌ حَرِيصٌ، تَأْمُلُ الغِنى، وتَخْشى الفَقْرَ، ولا تُمْهِلْ حتّى إذا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلانٍ كَذا، ولِفُلانٍ كَذا، وقدْ كانَ لِفُلانٍ)(البخاري(2748) ومسلم(1032)، وقال ﷺ: (أَيُّكُمْ مالُ وارِثِهِ أحَبُّ إلَيْهِ مِن مالِهِ؟ قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، ما مِنّا أحَدٌ إلّا مالُهُ أحَبُّ إلَيْهِ، قالَ: فإنَّ مالَهُ ما قَدَّمَ، ومالُ وارِثِهِ ما أخَّرَ)(البخاري (6442). ويضعُ عبارةً مناسبةً، كأنْ يقولَ: (وأُوصيْ بأَنْ يُصرفَ الثلثُ، أو الربعُ، أو الخمسُ في أعمالِ البرِّ حَسَبَ ما يُناسبُ الزمانَ والمكانَ والأحوالَ والأشخاصَ على نظرِ الوصيْ).
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِين}[البقرة:180].
باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، فاسْتَغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين. أما بعدُ: فاتَّقوا اللهَ أيها المؤمنون، واعلموا أنَّ مِنْ مبطلاتِ الوصيةِ: موتَ الموصى له، أو قتلَ الموصىْ له المُوصيْ، أو تلفَ الموصى به ـ من مالٍ وغيرِه ـ، وردَّ الموصى له الوصيةَ، وإنكارَ المُوصيْ للوصيةِ وجحودَها.
ومن الأمورِ المعتبرةِ في إثباتِ الوصيةِ: الكتابةُ، والإشهادُ؛ إذا تعذَّر كتابتُها، وأَنْ تكونَ الوصيةُ بالإشارةِ إنْ كانَ الموصيْ عاجزاً عن الكلامِ لاعتلالٍ في لسانِه أو لخرسٍ، فإنَّ إشارتَه كافيةٌ في ثبوتِ وصيتِه، بشرطِ كونِها مفهومةً.
ويجوزُ للموصيْ الرجوعُ في الوصيةِ أو التغييرُ فيها، بَحَسَبَ ما يرى من المصلحةِ في ذلك، ما دامَ على قيدِ الحياةِ.
ولا يُشترطُ في الصيغةِ التي تَنعقدُ بها الوصيةُ ألفاظٌ مخصوصةٌ، فتكونُ بكلِّ لفظٍ يدلُّ عليها سواءٌ كان لفظًا صريحًا كقولِ الموصيْ «أوصيتُ لفلانٍ بكذا» ونحوِه، أو لفظًا غيرَ صريحٍ يُفهم منه الوصيةُ بالقرينةِ كقولِ الموصِيْ «أَعْطُوا كذا لفلانٍ بعدَ موتيْ».
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى والقدوةِ المجتبى فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ وعلا:[إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا].
الجمعة: 10/9/ 1442هـ