أحكام صيام القضاء وست من شوال – خطبة الجمعة 3-10-1445هـ

الجمعة 3 شوال 1445هـ 12-4-2024م

 

 

إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، صَلَّى اللهُ عليْهِ وعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ إلى يوم الدين أمَّــا بَعْـدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) الطلاق: [4].
أيُّهَا المؤمنُونَ: إِنَّ عِبَادَةَ اللهِ عزَّ وجلَّ، هِيَ مهمَّةُ الإِنْسَان الَّتِي خَلَقَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ لأَجْلِهَا قَالَ تعالَى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات: [56] وتِلْكَ الْعِبَادَةُ لا تَخْتَصُّ بِشَهْرِ رَمَضَانَ فَقَط، أوْ ليلةِ القَدْرِ وَحْدَهَا، وَإِنَّمَا حثَّتْ الشَّرِيعَةُ الإسلاميَّةُ على اسْتِدَامَةِ الْعِبَادَةِ في كلِّ زمانٍ، والمدَاوَمَةِ على العملِ الصَّالِحِ  في كلِّ وقتٍ وآنٍ؛ لتكونَ حياةُ العبدِ خالصةً للهِ عزَّ وجلَّ، دِثَارُهَا العبودِيَّةُ ولباسُهَا التَّقْوَى، وسَمْتُهَا التَّقَرُّبُ للهِ بِمَا يرْضَاهُ منَ الأقْوَالِ والأَفْعَالِ، قالَ تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) الأنعام: [162-163].
عباد الله:
وقدْ أَمَرَ اللهُ عزَّ وجلَّ أنْبِيَائَهُ وَرُسُلَهُ بِلُزُومِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ واسْتِدَامَتِهِ والمُحَافَظَةِ عليهِ، قالَ تعالى في وصية عيسَى عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) مريم: [31] وأَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِقَوْلِهِ (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) الحجر: [99]

عِبَادَ اللهِ: واسْتِدَامَةُ العِبَادَةِ صِفَةُ المُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ، وسَمْتُ المتَّقِينَ والأَبْرَارِ، إنَّ المؤمِنَ يواصَلُ العبادةَ، لا يكلُّ ولا يملُّ، يعلمُ أنَّ ربَّ رمضان هو ربُّ شوَّال، وربُّ الأنامِ هُوَ ربُّ الأعْوَامِ، وربُّ الشهورِ وربُّ الدهورِ، قَالَ تَعالَى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) [المعارج: 34] وقال ﷺ: (أحَبَّ الأعْمالِ إلى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وإنْ قَلَّ) أخرجه البخاري (6464) ومسلم (2818) وكانَ هَدْيُ النَّبِيِّ ﷺ الانْضِبَاطَ في الطَّاعَةِ بِلا فُتُورٍ أَوْ وَهَنٍ والالْتِزَامَ بالعبَادَةِ دونَ تَرَاخٍ أَوْ كَسَلٍ، تقولُ عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: (كانَ رَسولُ اللهِ ﷺ إذا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ) أخرجه البخاري (1970) ومسلم (782)  أيْ: أَتْقَنَهُ وَدَاوَمَ عَلَيْهِ.

عِبَادَ اللهِ: والنَّاظِرُ إلى حالِ العِبَادِ في شَهْرِ رَمَضَانَ، يَتَعَجَّبُ لما يَؤُولُ إليهِ حالُ بعضهم بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ، مِنَ التَّقْصِيرِ في الْفَرَائِضِ، والانْقِطَاعِ عن النَّوَافِلِ، وهذَا ما حذَّرَنَا مِنْهُ نبيُّنَا ﷺ قالَ عَبْدُ اللهِ بْن عَمْرو بنُ العاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: قَالَ لي رَسولُ اللَّهِ ﷺ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، لا تَكُنْ مِثْلَ فُلانٍ؛ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ!) أخرجه البخاري (1152).

أيُّهَا المؤْمِنُونَ: إِنَّ شهرَ رمَضَانَ يُوقِدُ في نَفْسِ المؤْمِنِ جَذْوَةَ الْحَمَاسِ للطَّاعَةِ، والرَّغْبَةَ في القُرْبِ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ، والمسْلِمُ الْفَطِنُ هُوَ الَّذِي يُحَافِظُ على تِلْكَ الْجَذْوَةِ فلا يَدَعُهَا تَنْطَفِئُ وإِنْ وجَدَ مِنْ نَفْسِهِ الْكَسَلَ وَالْفُتُورَ عنِ الطَّاعَةِ، ذكَّرَهَا بِعَظِيمِ رَحْمَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَأَنَّ الْعِبَادَةَ سَبِيلُ الْقُرْبِ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ وَنَيْلِ مَحَبَّتِهِ، وفي الحديثِ: (وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ) أخرجه البخاري (6502)

عِبَادَ اللهِ: وَفَضْلُ اللهِ عزَّ وجلَّ عَظِيمٌ، وَرَحْمَتُهُ وَاسِعَةٌ لا يَحُدُّهَا زَمَانٌ، وَلا تَخْتَصُّ بِمَكَانٍ وَلا تَنْقَضِي بِانْقِضَاءِ رَمَضَانَ، وللهِ عزَّ وجلَّ مِنَحٌ في سَائِرِ أَحْوَالِ الدَّهْرِ، وَنَفَحَاتٌ في جَمِيعِ أَيَّامِ الْعُمْرِ، فللمسلمِ لِقَاءٌ خَاصُّ مَعَ رَبِّهِ جلَّ وعلا خَمْسَ مَرَّاتٍ في يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ، قالَ تَعَالَى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا) النساء: [103]  وإذا كانَ الثُّلُثُ الآخرُ مِنَ الليلِ (يَنْزِلُ رَبُّنا تَبارَكَ وتَعالَى كُلَّ لَيْلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يقولُ: مَن يَدْعُونِي، فأسْتَجِيبَ له؟ مَن يَسْأَلُنِي فأُعْطِيَهُ؟ مَن يَستَغْفِرُني فأغْفِرَ له؟) أخرجه البخاري (1145) ومسلم (758) وفضلُ اللهِ واسعٌ، ورَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.

أَعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) العنكبوت: [56].

بَارَكَ اللهُ لَي ولكم فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الْآَيَاتِ وَالْحِكْمَةِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَة:

الْحَمْدُ للهِ ربِّ الْعَالمِينَ، أَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ الذَّاكِرِينَ، وَأَشْهَدُ أَلّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خاتمُ المرْسَلِينَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أجمعين، أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: واعلموا أنَّ ممَّا يُشْرَعُ للمسلمِ بعدَ رمضَانَ، المُبَادَرَةُ إلَى قَضَاءِ الصِّيَامِ لِمَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ مِنْ عُذْرٍ، وخَاصَّةً النِّسَاءَ، فالمسلمُ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ ولَا يجوزُ تَأْجِيلُ القضاءِ إلَى رمضانَ آَخَر مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَمَنْ فَعَلَ فَعَلَيْهِ مَعَ الْقَضَاءِ الْكَفَّارَةُ على الرَّاجِحِ، وهِيَ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ عنْ كُلِّ يَوْمٍ.
عِبَادَ اللهِ: وصومُ الْقَضَاءِ صَوْمٌ واجِبُ، يَلْزَمُ له تبييتُ النيةِ من الليلِ، ويحرمُ الفطرُ في قضاءِ رمضانَ إلا مِنْ عذرٍ يبيحُ الفطرَ كسفرٍ أو مرضٍ، ولا يلزمُ التَّتَابُعُ في القضاءِ، ومنْ تركَ القضاءَ حتَّى ماتَ؛ فإنْ كانَ مِنْ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ كمرضٍ استمرَّ بهِ حتَّى ماتَ، فليسَ عليهِ شيءٌ، أمَّا إنْ تركَ القضاءَ مِنْ غيرِ عذرٍ فماتَ؛ فيشرع لولِيِّهِ أنْ يُطْعِمَ عَنْهُ.
أيُّهَا المؤمنونَ: وممّا يشرعُ للمسلمِ بعدَ رمضانَ صِيَامُ ستَّةِ أيَّامٍ مِنْ شَوَّال قالَ النبيُّ ﷺ: (مَن صامَ رَمَضانَ ثُمَّ أتْبَعَهُ سِتًّا مِن شَوَّالٍ، كانَ كَصِيامِ الدَّهْرِ) أخرجه مسلم (1164). ويجوزُ صيامُهَا متفرِّقَةً أو متتابِعَةً، ويُقَدَّمُ قضاءُ رمضانَ على صيامِ السِّتِّ من شوال، إلا إذا خَشِيَ انقضاءَ شوالَ ولا يجوزُ الجمعُ بين نيةِ القضاءِ والستِّ من شوالَ في يومٍ واحدٍ.
أسْأَلُ اللهَ عزَّ وجلَّ أَنْ يُعِيدَ عَلَيْنَا رَمَضَانَ أَعْوَامًا عَدِيدَةً. اللَّهُمَّ انْصُر الإِسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمُشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ. اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلاةَ أَمْرِ المسلمينَ لكلِّ خيْرٍ، واجْعَلْهُمْ رَحْمَةً عَلَى عِبَادِكَ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ سَلْمَان بن عبد العزيز لما تُحِبُّ وتَرْضَى وخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ والتَّقْوَى اللَّهُمَّ وَفِّقْهُ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لما فيهِ خيرُ البلادِ والعبادِ ولما فيهِ عزُّ الإسلامِ، وصلاحُ المسلمينَ، وارْزُقْهُم البِطَانَةَ الصالِحَةَ الَّتِي تَدُلُّهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وتُعِينُهُمْ عَلَيْهِ.

اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ، اللَّهُمَّ احْفَظْهُمْ مِنْ بينِ أيديهِم ومِنْ خَلْفِهِمْ وعنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَمِنْ فَوْقِهِمْ، وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ يُغْتَالُوا مِنْ تَحْتِهِمْ.
اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخَنَا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا الْمَظْلُومِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ في كُلِّ مَكَانٍ، اللَّهُمَّ اجْبُرْ كَسْرَهُمْ، وَارْحَمْ ضَعْفَهُمْ، وَتَوَلَّ أَمْرَهُمْ، وَانْصُرْهُمْ عَلى عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِمْ، واجْعَلْ لَهُمْ مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، وَاجْعَلْ لَهُمْ مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا. رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّم عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

الجمعة: 3 / 10 / 1445هـ