وداعًا شيخي الغالي -الشيخ الدكتور/عقيل بن أحمد العقيلي- بتاريخ 25-2-1443هـ.
الموت حق، والفناء مكتوب على كل مخلوق، وصدق الله العظيم: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) آل عمران الآية (185)
الموت حقيقة تواجه كلّ حي، فلا يستطيع لها ردًّا، ولا دفعًا؛ لأن الحياة أنفاسٌ معدودة، وآجالٌ مضروبة، ولن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها وأجلها.
لقد ودّعنا هذا اليوم السبت 25-2-1443هـ شيخي الغالي، العالم الزاهد، العابد الصابر، النقيّ العفيف، الشيخ الدكتور/ عقيل بن أحمد العقيلي، الذي تمت الصلاة عليه بالمسجد النبوي، ودفن في البقيع.
لقد اختصّ الله من خلقه من أحبّ، فهداهم للإيمان، وعلّمهم الكتاب والحكمة، وفقّههم في دين الله، رفعهم بالعلم، وزيّنهم بالحلم، بهم يُعرف الحلال من الحرام، والحق من الباطل، والنافع من الضار، هم ورثة الأنبياء، وقرة عيون الأصفياء، موتهم مصيبة، وأي مصيبة!
إنه مصاب للأمة جمعاء؛ لأنهم مصابيح الدجى، وعلامات الهدى، كالشمس في النهار.
ونحسب شيخنا واحدًا من هؤلاء العلماء الصادقين المتصفين بالصفات الحميدة العالية، مثل الإخلاص والأمانة والتواضع والحلم والصبر والرفق واللين.
لمست في شيخي –رحمه الله- ثلاث خصال، قيل عنها (إذا أراد الله بعبد خيرًا اجتمعت فيه، وهي: الفقه في الدين، والزهد في الدنيا، والبصر بعيوب النفس).
عرفت شيخي صاحب خلق رفيع في تواضعه، وابتسامته ، وأدبه، ووفائه لمحبيه وتلاميذه، وصدق التابعي الجليل طاووس بن كيسان-رحمه الله- حيث يقول: (إن هذه الأخلاق منائح يمنحها الله جل وعلا من يشاء من عباده، فإذا أراد الله بعبد خيرًا، منحه خلقًا صالحًا).
ويصدق في شيخي –رحمه الله- قول الحسن البصري-رحمه الله- (كان الرجلُ إذا طلَب العِلم لم يلبَثْ أن يرى ذلكَ في بصَرِه، وتخشُّعه، ولسانه، ويدِه، وصلاته، وزُهده)
عرفت شيخي مكبًّا على كتاب الله، له عناية خاصة به، قراءة وحفظًا، ومراجعةً ومدارسةً، يجلس الأوقات الكثيرة في المسجد النبوي عند عمود من أعمدته متفرّغًا للتلاوة والتدبر والفهم، ويندر أن اتصل به للسلام عليه عند ذهابي للمدينة إلا وأجده في المسجد، ليس حوله أحد، يترنّم بالآيات، فهي أنيسه وجليسه.
وعرفت شيخي حريصًا على مدارسة العلم، فهو كثير الاتصال للمناقشة في مسائل علمية، يبحثها، أو يسأله الناس عنها.
وعرفت شيخي مجيدًا لنظم الشعر العربي الفصيح والشعر العامي، وله قصائد كثيرة، بل له منظومات طويلة جدًا في مناسبات مختلفة.
ومما أحفظ من شعره، قصيدته الرائعة في رثاء الوجيه عبدالمحسن السلمان -رحمه الله- الذي اشتهر في وقته بالقيافة ومعرفة الأثر، وكان له دور كبير في حفظ الأموال والاعراض.
قال في مطلعها:
عزاء لكم يا آل عبد لمحسن مصيبتكم هزّت عظيم التجلد.
وله قصيدة في الثناء على الجامعة الإسلامية التي دَرَسَ فيها، وأصبح عضو هيئة تدريس طيلة عمله الوظيفي، قال فيها:
لربي حمدي والثناء ودعوتي على نعمة الإسلام خير شريعة
إلى أن قال:
بها يستقى العلم الصحيح ويعتنى بأبناء إسلام بكل حفاوة
عليها رجال مخلصون ونخبة لهم هدفٌ بثُّ العلوم بخبرة
وقد أثرى شيخنا المكتبة الإسلامية بالعديد من الكتب، وكانت أول رسائله، رسالة الماجستير بعنوان: (التصرفات النافذة في مال الغير دون إذن ولاية)، ثم رسالة الدكتوراه بعنوان: (النيابة في الفقه الإسلامي).
ومن مؤلفاته:
-حكم نقل الأعضاء في الفقه الإسلامي.
-سلم الأماني في إجابة من يقول بالحجاب بقول الألباني.
-الإشكالية في التحية الصباحية.
-القول المزبور في حكم زيارة النساء للقبور. وغيرها الكثير.
ولعلّ من آخر ما دار بيني وبينه مسألة تغير الفتوى، وضوابطها، حيث طلب – رحمه الله- مظان هذه المسألة ومراجعها، ومن سبق أن بحثها، وأكاد أجزم انه لم يتمّه؛ لأن آخر اتصال حولها قبل أيام قليلة.
وقد سألت شيخنا قديمًا عن مشايخه، فذكر لي منهم الشيخ عبدالعزيز المسند، والشيخ عبدالله الغديان، والشيخ صالح الأطرم، والشيخ عبدالعزيز السلمان، والشيخ عبدالمحسن العباد، والشيخ محمد بن ردن البداح، والشيخ عبدالله الفنتوخ، والشيخ ناصر الطريم، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ ناصر الدين الألباني، والشيخ عطية سالم، والشيخ عبدالقادر شيبة الحمد، وغيرهم كثير في الجامعة الإسلامية، ثم في مرحلة الماجستير والدكتوراه في كلية الشريعة بمكة المكرمة.
وأما عن بداية علاقتي به رحمه الله- فقد بدأت عندما كان مدرسًا في المعهد التابع للجامعة الإسلامية، وكنت وقتها في السنة الأولى في المعهد العلمي حيث كان يحضر لزيارة أخي سعود-حفظه الله- ويحثني على الاطلاع والقراءة، ثم بدأ يهدي لي مجموعة من الكتب، ويشترط علي قراءتها، ومن ذلك بعض مطبوعات الجامعة الإسلامية من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن باز، والشنقيطي، والعباد، وغيرهم.
ومن اللطائف التي وقعت لي أنه أهدى لي كتاب (منع المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز) للشيخ الشنقيطي، وكنت في السنة الثانية بالمعهد العلمي، وطلب مني قراءته، فقرأته كاملًا، ولم أفهم منه شيئًا، وحينما عاد من المدينة وزار أخي في بيتنا سألني: ماذا قرأت من الكتب؟ فقلت له: قرأت كتاب (منع المجاز) قال: ماذا فهمت؟ فقلت: لم أفهم شيئًا، فضحك وقال: تفهمه في المستقبل.
وقد درسنا على شيخنا –رحمه الله- ونحن طلاب في المعهد العلمي في تفسير ابن كثير والروض المربع، وكتاب فتح المجيد وغيرها.
وقد تولى تدريبنا على إلقاء الكلمات في المساجد، وشجعنا على ذلك، بل إنه يطلب من أحدنا أن يلقي كلمة، ونحن في مكان غير المسجد، ولا يوجد إلا خمسة طلاب معه –رحمه الله- ويقول للملقي: تصور أن عندك أعدادًا كبيرة وأنك تلقي، ويكرر ذلك حتى يتدرب الطالب على الإلقاء، ثم ينقله للمسجد؛ ليلقي الكلمة التي تدرّب علي إلقائها، وكل دراستنا عليه، ولقاءاتنا به تتم في العطلة الصيفية إذا رجع من المدينة.
وقد استمرت علاقتي به منذ ذلك الوقت إلى قبيل وفاته بأيام قليلة، وهو بحق من أوفى الأوفياء، وأكثر المشايخ تواضعًا، وكثيرًا ما تتم المشاورة في المسائل العلمية التي يبحثها أو تعرض عليه، بل كان يأخذ الرأي في مؤلفاته قبل طباعتها.
رحم الله شيخنا وغفر له وأسكنه فسيح جناته، وخلف علينا خيرًا، وجعل البركة في عقبه وأحفاده وطلابه، وجزاه عنا وعن الإسلام والمسلمين خير ما يجزي شيخًا عن طلاب، وجمعنا به ووالدينا في جنات النعيم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وكتبه
أ.د. عبدالله بن محمد الطيار.
بتاريخ 1443/2/25هـ