جريمة التستر والغش التجاري – خطبة الجمعة 9-3-1443هـ
الخطبة الأولى:
إنّ الحمدَ للهِ، نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ منْ شُرورِ أنفسِنَا ومِنْ سَيّئَاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلَا مُضِلّ لَهُ، ومنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ: فاتّقُوا اللهَ أَيُّهَا المؤمنونَ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}[آل عمران:102].
أيُّها المؤمنونَ: اتقوا اللهَ جلَّ وعلا، واحرصوا على طلبِ الرِّزقِ الحَلالِ، واعلَمُوا أنَّ السَّعْيَ في طلبِه من أفضلِ الأعمالِ وأجلِّ الخِصالِ، قال تعالى:{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}[المزمل: 20]، وقال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (ما أَكَلَ أحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيراً منْ أنْ يَأْكُلَ منْ عَمَلِ يَدِهِ، وإنَّ نَبيَّ اللهِ داوُدَ عليهِ السلامُ كانَ يَأْكُلُ منْ عَمَلِ يَدِهِ)(رواه البخاري(2072)، وعن كعبِ بنِ عُجْرَةَ قالَ: مَرَّ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ رَجُلٌ، فرأَى أصحابُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مِنْ جَلَدِهِ ونَشاطهِ ما أعجَبَهُمْ، فقالُوا: يا رسولَ اللهِ لوْ كانَ هذا في سبيلِ اللهِ، فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (إنْ كانَ خَرَجَ يَسْعَى على وَلَدِهِ صِغَاراً فهُوَ في سبيلِ اللهِ، وإنْ خَرَجَ يَسْعَى على أبَوَيْنِ شَيخينِ كبيرينِ فهوَ في سبيلِ اللهِ، وإنْ كانَ يَسْعَى على نفْسِهِ يَعِفُّها فهوَ في سبيلِ اللهِ..) (رواه الطبرانيُّ، وصحَّحه الألبانيُّ في صحيح الجامع (1428).
فعلى الجميعِ أنْ يحْرِصوا على الكسبِ الحلالِ، وأنْ يحذرَوا من الكسبِ الحرامِ الذي يوصلُ إلى غضبِ اللهِ تعالى وسُخْطِه، ومن ذلك الغشُّ والتحايلُ والتستَّرُ المنهيُّ عنه شرعًا قالَ صلَّى الله عليه وسلَّم:(مَن غَشَّ فليسَ مِنِّي)، وفي روايةٍ:(مَن غشَّنا فليس منَّا) رواه مسلم (102)، فكلُّ غشٍ خيانةٌ، وهو دليلٌ على دناءةِ النَّفسِ، وضعفِ الإيمانِ، يقولُ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّم:(ما مِنْ عبدٍ يسترعيْه اللهُ رعيَّةً يَموتُ يومَ يموتُ وهو غاشٌّ لرعيَّتِه، إلاَّ حرَّم اللهُ عليه الجنَّة)، وفي لفظٍ:(ما مِنْ مُسلمٍ يسترْعيْه اللهُ رعيَّةً فلم يُحطْها بنصيحةٍ لم يجدْ رائحةَ الجنَّةِ)(رواه البخاري(7150)، ومسلم(142)، ويشملُ ذلك جميعَ الصُّورِ التي تَتَعلَّقُ بمصالحِ النَّاسِ، من الغشِّ المُحرَّمِ، وعدمِ الوفاءِ بالعقودِ، وخيانةِ الأمانةِ بالتستَّرِ على المخالفينَ الذينَ يعملونَ دونَ علمِ الجهاتِ المسؤولةِ بالدولةِ.
عبادَ اللهِ: وإنَّ منَ الكسبِ الحَرَامِ الذي مَنَعتْهُ الدولةُ وحَرِصتْ على محاربتِه ما يُعْرَفُ بالتستُّرِ التجاريّ، إلا أنّ بعضَ ضعافِ النُّفوسِ من أبناءِ هذِه البلادِ قد سوَّلتْ لهم أنفسُهم الوقوعَ فيما يُكدِّرُ الأمنَ ويُخِلُّ ببناءِ المجتمعِ، وذلك بتمكينِ بعضِ الوافدينَ من القيامِ بممارســةِ بعضِ الأنشطةِ التجاريةِ لحسابِهِم الشخصيِِّ ممَّنْ لا يَسـمحُ لهُم نظـامُ اسـتثمارِ رأسِ المـالِ الأجنبـيِ أو غـيرِهِ منَ الأنظمــةِ والتعليمــاتِ بممارســتِهِ، وذلكَ عن طريقِ استخدامِ أسماءِ هؤلاءِ المواطنينَ أو تراخيصِهِم أو سجلَّاتِهم التجاريةِ، وهذا يدلُّ على جَشَعِ هؤلاءِ ممن يُسبِّبُونَ الإضرارَ بالمجتمعِ وبالمواطنينَ الشرفاءِ. وقد أفْتتْ اللجنةُ الدائمةُ للإفتاءِ في المملكةِ برئاسةِ الشيخ ابنِ بازِ رحمهُ اللهُ بحرمةِ ذلك، جاءَ في الفتوى ذاتِ الرقم (9524): (لا يجوزُ لكَ ذلكَ لِما فيهِ من الكذبِ والمخادعةِ لوليِّ الأمرِ والاحتيالِ عليهِ في مخالفةِ ما وَضَعهُ محافظةً على إدارةِ العملِ الحكومي، والذي أُسندَ إليكَ خدمة للأُمَّةِ، ومراعاةً للمصلحةِ العامةِ، ومنعًا للأثرةِ) انتهى.
عبادَ اللهِ: والدولةُ حَرَسَهَا اللهُ تحرِصُ أشدَّ الحرصِ على تنظيمِ سوقِ العملِ لتحقيقِ المصالحِ الكبرى لأبنائِها، وتوفيرِ فرصِ العملِ لهم، وقطعِ الطريقِ على المنتفعينَ،
ومتابعةِ المخالفينَ، والحدِّ من جرائمِ التزويرِ والسطوِ والسرقةِ وأنواعِ الجريمةِ. وقدْ صدرتْ فتوى اللجنةِ الدائمةِ للإفتاءِ في بلادِنا ذات الرقمِ (19637) بحرمةِ التستِّرِ على العمالةِ الوافدةِ، وجاء فيها:(لا يجوزُ التسترُُّ على العمالةِ السّائبةِ والمتخلّفةِ والهاربةِ من كفلائِهِمْ ولا البيعُ أو الشراءُ منهم؛ لمَا في ذلكَ من مخالفةِ أنظمةِ الدولةِ، ولمَا في ذلكَ منْ إعانَتِهِمْ على خيانَةِ الدولةِ التي قدمُوا لها، وكثرةِ العمالةِ السّائبةِ، مما يؤدِّي إلى كثرةِ الفسادِ والفوضَى وتشجيعهِم على ذلك، وحرمانِ مَنْ يَستحقُّ العملَ والتضييقِ عليه في كسبِ رزقِهِ) انتهى.
عبادَ اللهِ: وإنَّ منْ أسبابِ وجودِ هذهِ الظاهرةِ مَا يلي:
أولاً: تبريرُ بعضِ المواطنينَ تَسترََّهم لعدمِ قُدْرتهِم على توفيرِ رأسِ المالِ المطلوبِ، لضعفِ دخلِهِ وعدمِ وجودِ مصادرَ دخلٍ بديلةٍ، ولعدمِ وجودِ الخبرةِ المطلوبةِ لهذا العملِ، وكذلكَ الثقةُ المفرطةُ تجاهَ المُتستَّر عليهِ.
ثانيًا: حرْصُ المُتستَّر عليه على الكسبِ بأيِّ طريقٍ ولوْ كانَ محرّمًا، وتهرُّبِهُ من دفعِ الرسومِ الموضوعةِ على دخلِهِ، أو نوعِ العملِ الذي يقومُ بهِ، وكراهتَهُ معرفةَ تحويلاتِهِ النقديةِ.
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرّجِيمِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا}[النساء:59].
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لِي ولكمْ من كلّ ذنبٍ، فاستغفروهُ إنّهُ هُوَ الغفورُ الرّحيم.
الخطبةُ الثّانية:
الحمدُ للهِ وليّ الصالحينَ، ولا عُدْوَانَ إِلّا عَلَى الظّالمينَ، وأشهدُ ألّا إلهَ إلّا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ، أمّا بعدُ:
فاتّقُوا اللهَ أيُّها المؤمنونَ، واعلمُوا أنَّ التستّرَ والغشَّ التجاريَّ له أضرارٌ وآثارٌ سلبيةٌ كثيرةٌ على البلادِ والعباد، ومنْ ذلكَ:
أولاً: تَحكُمُ المُتستَّرِ عليهم في رأسِ المالِ والعملِ، واحتكارُ بعضِ الأنشطةِ التجاريةِ، مما يُسبِّبُ زيادةَ البطالـةِ وحالاتِ الغشّ التجاريِّ، ومزاولةَ التجارةِ غـيرِ المشـروعةِ.
ثانياً: ضَعفُ الرقابةِ على العمالةِ الوافدةِ المتُستَّرِ عليها ومتابعتُها، وعدمُ التعاونِ من بعضِ المواطنينَ للإبلاغِ عنهم، فإنَّ أغلبَ هذهِ العمالةِ يُتَاجرونَ في المخدّراتِ، أو يُصنِّعونَ الخمورَ ويبيعِونهَا، أو يسرقونَ، أو يتعاملونَ في التجارةِ المشبوهةِ.
ثالثاً: أنَّ أغلبَ المشروعاتِ التي يُتَستَّرُ عليها تُعتبرُ وسَطًا ملائِمًا لانتشارِ التجارةِ غيرِ المشروعةِ، وملاذاً آمِنَاً للعمالةِ الهاربةِ من كفلائِها.
عبادَ اللهِ: إنَّ على الجميعِ مواطنينَ ومقيمينَ أن يتعاونوا مع أجهزةِ الدولةِ للحدِّ من هذهِ الظاهرةِ الخطيرةِ ومكافحتِها، وإبلاغِ الجهاتِ المسؤولةِ عن كلِّ ما يُشتَبهُ فيه حولهَا، وعلى كلِّ مواطنِ وَقَعَ في هذهِ الجريمةِ أن يَمتَنعَ عنْ التعاونِ مع هؤلاءِ، وأن يتجنَّبَ كلَّ طريقٍ يوصلُ إليها، وعليه الإبلاغُ عن حالاتِ التستِّرِ التي يعلمُهَا، أو يشكُّ في وجودِها، ليتمَّ إيقاعُ العقوباتِ اللازمةِ على كلِّ من تُسَوُّل لهُ نفسُه الوقوعَ في هذِه الجريمةِ.
ووصيتي لكلِّ مَنْ يعملُ في لجـانِ مكافحـةِ التسـتّرِ أن يَحْتسبُوا أجرَ عملِهم في مكافحةِ هذِه الجريمةِ، وأن يسعوا في ملاحقـةِ هؤلاءِ المتسـترينَ وتقديمِهم لنيلِ الجزاءِ العادِل.
ووصيتي أيضًا لجميعِ الوافدينَ المتخلفينَ والذينَ يعملونَ بغيرِ إذنِ الجهاتِ المسؤولةِ أن يستغلوا فرصةَ الاستفادِة من المهلةِ التي وَضَعتْها الدولةُ لتصحيحِ وضعهِم.
وأخيرًا: على جميعِ المواطنينَ والمقيمينَ على ثرى هذهِ البلادِ أن يتعاونوا معَ ولاةِ الأمرِ في كلِّ ما يعودُ بالخيرِ على البلادِ والعبادِ.
أسألُ اللهَ تعالى أَنْ يحفظَ البلادَ والعبادَ من شرِّ الكائدينَ وعبثِ العابثينَ.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى والقدوةِ المجتبى فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ وعلا:[إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا].
الجمعة: 9 / 3 / 1443هـ