أثر فقد العلماء
إن مصاب الأمة بفقد العالم أمره عظيم، إذ لا يفقد أهله وذووه فحسب، بل يفقده الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والقريب والبعيد؛ لأن موت العلماء مصيبة، وأي مصيبة! فهم مصابيح الدُّجى، وعلامات الهدى، هم كالشمس في النهار، والعافية للبدن، فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن اللهَ لا يقبضُ العلمَ انتزاعًا ينتزعُه من الناسِ ولكن يقبِضُ العلمَ بقبضِ العلماءِ فإذا لم يُبِقِ عالمًا اتخذ الناسُ رؤوسًا جهّالاً فسُئِلوا فأفتوا بغير علمٍ فضلُّوا وأضلُّوا) رواه ابن ماجة (46) وصححه الألباني.
وقد قال مجاهد -رحمه الله- في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[الرعد: 41]؛ قال: “هو موت العلماء”.
وقال الشاعر:
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها *** متى يمت عالم منها يمت طرف
كالأرض تحيا إذا ما الغيثُ حلَّ بها *** وإن أبى عاد في أكنافها التلف.
وكما أن موت العلماء ثلمة، ومصيبة، فهو غيظٌ لأهل الباطل؛ لما يرون من تبجيل العلماء، وتوقيرهم، في الحياة وبعد الممات.
أيها المؤمنون: لقد اختصّ الله من خلقه من أحبّ فهداهم للإيمان، ثم اختصّ من سائر المؤمنينمن أحبّ فتفضَّل عليهم، فعلّمهم الكتاب والحكمة، وفقههم في دين الله، وعلّمهم التأويل، وفضَّلهم على سائر المؤمنين، ورفعهم بالعلم، وزيّنهم بالحلم، بهم يُعرف الحلال من الحرام، والحق من الباطل، والنافع من الضار، وهم ورثة الأنبياء، وقرةُ عين الأولياء، والحيتان في البحر تستغفر لهم، والملائكة تضع أجنحتها لهم، حياتهم غنيمة، وموتُهم مصيبة، هم سراج البلاد، ومنار العباد، هم غيظ الشيطان، بهم تحيا القلوب، هم كالنجوم في السماء يُهتدي بهم في ظلمات البر والبحر.
وليسالمهم عند فقد العلماء أن تكثر المقالات والقصائد، وأن يظهر أثر فقدهم على المجتمع شكوى وتوجعًا، ولكن المهم هو ترسم الخطى، والسير على المنهج، والسعي في طلب العلم الشرعي والاجتهاد في تحصيله حتى نسدّ ما يُثْلَم من الدين؛ فقد كتب عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله- إلى أبي بكر بن حزم عامله في المدينة: “انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاكْتُبْهُ؛ فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ، وَلَا تَقْبَلْ إِلَّا حَدِيثَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلْتُفْشُوا الْعِلْمَ، وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لَا يَعْلَمُ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا”.
فكم نحن بحاجة إلى سلامة القلوب، ونفع الآخرين، ومحبة الخير لهم، والبعد عن الاحتقار والتقليل من شأن الغير، بل كم نحن بحاجة إلى العدل والإنصاف في التعامل مع الآخرين، وكم نحن بحاجة إلى التواضع للناس، وبسط النفس لهم، وكم نحن بحاجة إلى بركة العلم، وبذله نصحًا وتوجيهًا وتربية وتعليمًا للناس، كل حسب طاقته ووسعه، وحسب ما يتناوله وما يتاح له من وسائل.
لقد ودعنا شيخنا العلامة فضيلة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان، وهذه سُنّةُ الله في خلقه، فالدوام والبقاء لله وحده، وشيخنا أحد العلماء القلائل الذين تفرّغوا للعلم، والقضاء، وقضوا حياتهم كلها في العلم والتعليم والفتيا والتدريس والقضاء.
وقد كان لي مع شيخنا لقاءات معظمها تم في غرفته في المسجد الحرام، عند باب الفتح، حيث كان يستقبل الزوار والمستفتين.
وقد عرضت خلال هذه اللقاءات العديد من الأسئلة، ودارت مناقشات كثيرة حول بعض المسائل، في جمع العصر مع الجمعة، ومسائل في المسح على الخفين، وبعض أنواع الأنكحة المعاصرة، ومسائل القصر والجمع وغيرها.
ولعلّ ما يميز شيخنا –رحمه الله – سعة صدره، وحرصه على المعلومة النافعة، مهما كان مصدرها، بل إنه يبادر في بعض الجلسات بسؤال يطرحه: ما هي المسائل الجديرة المطروحة في الساحة؟ وما هو الرأي فيها؟
يقول: ما هو رأي شيخكم ابن عثيمين فيها؟
وقد حضرت أكثر من مرة شكوى بعض الأشخاص من بعض القضاة، وكان رد الشيخ عجيبًا، وذلك بثنائه على القاضي، وذكر محاسنه، ثم إذا خرج الشخص الذي يشكو القاضي، قال الشيخ: سأبحث هذا الموضوع مع القاضي، ومن له علاقة، وأتثبت من الأمر، وهذا عين الحكمة في الدفاع عن القضاة، وحفظ هيبتهم، فجزاه الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء.
المهم عند فقد العلماء هو ترسم منهجهم، والسير على طريقهم، وهذا المنهج الذي سار عليه شيخنا وإخوانه من أهل العلم الربانيين منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، له سمات ومعالم، ومنها ما يأتي:
1. العلم الصحيح المستمد من الكتاب والسنة.
- الفتوى عندهم ليست مقصورة على وقت دون وقت، بل يفتون في كل وقت، في المسجد، والشارع، والبيت، ومكان العمل، وعبر الهاتف، والصحيفة، والإذاعة، وسائر وسائل التواصل، وتشمل فتاواهم شتى مجالات الحياة من العبادات والمعاملات والأخلاق والسلوك وجميع النوازل في عصرهم.
- لقد تحققت فيهم الولاية المنشودة؛ لعمق إيمانهم، وسلامة مقاصدهم، وثبات مبادئهم، والله جل وعلا يقول: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) يوسن الآيات: (62-64)
- وقتهم كله عبادة، وجلوس للتعليم، وذكر، وقراءة، وقضاء لحوائج الناس.
- إخلاص صادق، ونصح، ومتابعة.
- الزهد في الدنيا، والبعد عن فتنها.
المجتمع كله يتأثر بفقد العلماء، وهذا أمر يلمسه الجميع، وكأن الفرد منهم فقد أقرب الناس إليه، وما ذلك إلا لمحبتهم لأهل العلم، والله إذا أحبّ عبدًا حبب له الخلائق، جاء في الحديث: (إذا أحَبَّ اللهُ عبدًا نادى جِبريلَ: إنَّ اللهَ يُحِبُّ فلانًا فأحِبَّه، فيُحِبُّه جِبريلُ، فيُنادِي جِبريلُ في أهلِ السماءِ: إنَّ اللهَ يُحِبُّ فلانًا فأحِبُّوه، فيُحِبُّه أهلُ السماءِ ثمَّ يُوضَعُ لهُ القَبولُ في الأرضِ) أخرجه البخاري (٦٠٤٠)، ومسلم (٢٦٣٧)
وما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (مرُّوا على رسولِ اللهِ ﷺ بجنازةٍ فأثنَوْا عليها شرًّا فقال ﷺ: (وجَبَت) ومَرُّوا بأخرى فأثنَوْا عليها خيرًا فقال ﷺ: (وجَبَت) فقال عمرُ: يا رسولَ اللهِ ما وجَبَت؟ قال: (مَرُّوا بتلك فأثنَوْا عليها شرًّا فوجَبَتِ النّارُ ومَرُّوا بهذه فأثنَوْا عليها خيرًا فوجَبَت الجنَّةُ، وأنتم شهداءُ اللهِ في الأرضِ) أخرجه ابن حبان في صحيحه (3033)
رحم الله شيخنا، وأسكنه فسيح جناته، وجعل البركة في عقبه، وجزاه خيرًا عن ما قدّم لدينه وأمته، وجمعنا به، ووالدينا، وإخواننا، في جنات النعيم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آلهوأصحابه أجمعين.
وكتب
أ.د عبدالله بن محمد الطيار
3-6-1443هـ