للذين أحسنوا الحسنى وزيادة – خطبة الجمعة 22-8-1443هـ

الجمعة 22 شعبان 1443هـ 25-3-2022م

 

الخطبة الأولى:

إنّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ، ونعوذ باللهِ منْ شرورِ أنفسِنا ومنْ سيئاتِ أعمالِنا مَنْ يهدهِ اللهُ فلَا مُضلّ لهُ ومنْ يُضلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ بعثهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وأصحابهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ:

فاتّقوا اللهَ أيُّها المؤمنونَ حقَّ التَّقوى: امتثالاً لقولِ اللهِ جلَّ وعلا:{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30].

عبادَ اللهِ: الإحسانُ صفةٌ نبيلةٌ، وخَصلةٌ جليلةٌ، يُحبُّها اللهُ تعالى، ويُحبُّ أهلَها، وهو كمالُ التعظيمِ وتمامُ المحبةِ للهِ، والإخلاصُ له، فالعبادُ يعلمونَ أنَّ اللهَ جلَّ وعلا يَطَّلعُ على ظاهرِهم وباطِنهم، قال ﷺ:(الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ) رواه البخاري (4777)، ومسلم (9)، وهو مقصدُ المؤمنينَ، وبغيةُ الصدِّيقينَ، وذروةُ سنامِ الدين، ولُبُّ أخلاقِ الصالحينَ. 

وَصَفَ اللهُ به أنبيائَه، فقالَ عن نوحٍ عليه الصلاةُ والسلامُ:{سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[الصافات:79، 80]، وقال عن إبراهيمَ عليه الصلاةُ والسلامُ:{وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[الصافات:140، 105]، وقال عن موسى وهارونَ عليهمَا الصلاةُ والسلامُ: { سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[الصافات: 120، 121]، وقال عن نبيِّنا محمدٍ ﷺ:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}[الزمر:33، 34].

أيُّها المؤمنونَ: المحسنونَ لهم ثوابٌ كبيرٌ وعطاءٌ جزيلٌ، فهم ينعمونَ بمحبةِ ربِّهم، قال تعالى:{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران:34]، وينالونَ إعانتَه وتوفيقَه وتأييدَه، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}[النحل:128]، وقال تعالى:{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف:56].

وكلَّما أحسنَ المسلمُ تعاملَه مع اللهِ ومع الخلقِ، أحسنَ اللهُ إليه في دنياهُ وآخرتِه، جزاءً وفاقًا، وكلُّ محسنٍ يجني ثمرةَ إحسانِه في الدنيا؛ من انشراحِ الصدرِ، وطُّمَأْنينةِ القلبِ، ورضَا النَّفسِ، وسكينةِ الروحِ، والحياةِ الطيبةِ السعيدةِ، وفي الآخرةِ يعطيه اللهُ تعالى ما لا عينٌ رأتْ ولا أُذنٌ سمعتْ ولا خَطَرَ على قلبِ بشرٍ، وله الحسنى وزيادةٌ.

ولمَّا كانَ الجزاءُ مِنْ جِنْسِ العملِ، كانَ جزاءُ الْمُحْسِنِينَ إحسانًا، قَالَ تَعَالَى:{هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ}[الرحمن:60]، وأكثرُ مِنَ الإحْسَانِ، وأعظمُ وأفضلُ النظرُ إلى وجهِ الرحمنِ في الجنَّةِ، قَالَ تَعَالَى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26].

عبادَ اللهِ: ومِنْ صورِ الإحسانِ التي تُوصلُ العبدَ إلى رضَا الرحمنِ ونيلِ الحُسنى ما يأتي:

أولاً: إحسانُه في علاقتِه بربِّه جلَّ وعلا، بمحبتِه، وخشيتِه، ورجاءِه، ومراقبتِه، والصدقِ معه، والحرصِ على مرضاتِه، واجتنابِ مساخطِه، والسعيِ إلى ما يُوصلُه إلى رضاهُ وجنتِه، وكذلكَ إحسانُه لعملِه الصالحِ، بأن يكونَ موافقًا لما شَرَعَه اللهُ له، إخلاصًا ومتابعةً، قال تعالى:{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:112].

ثانيًا: إحسانُه إلى نفسِه، وذلك بمجاهدتِها، ومخالفةِ هواهَا، وأَطْرِها على الخيرِ، وإبْعادِها عن الشرِّ، وزجْرِها عن المعاصي والمنكراتِ، والسعيِ بهَا إلى طريقِ الجنةِ، وحِفْظِها من الآفاتِ والصوارفِ، قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ* وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ* كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ* إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ} [المرسلات:41ـ 44].

ثالثًا: إحسانُه إلى والديْهِ وقراباتِه، وجيرانِه وأصدقائِه، وسائرِ الخلقِ، بالكلمةِ الطيبةِ، وطلاقةِ الوجهِ، وحُسْنِ الخُلقِ، والتواضعِ، والرحمةِ، والشفقةِ، والسعي في قضاءِ حوائجِهم، وإغاثةِ ملهوفهِم وإطعامِ جائعهِم، وإعانةِ محتاجهِم، والتيسيرِ على معسرِهم والإصلاحِ بينهم، قال تعالى:{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة 195]، وقال تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}[النساء:36].

رابعًا: إحسانُه إلى سائرِ الحيواناتِ والبهائمِ والطيورِ، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:(بَيْنَا رَجُلٌ بِطَرِيقٍ ، اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ الرَّجُلُ لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِى كَانَ بَلَغَ مِنِّى، فَنَزَلَ الْبِئْرَ، فَمَلأَ خُفَّهُ مَاءً، فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ) رواه البخاري (2466).

عبادَ اللهِ: وقد أعدَّ اللهُ لعبادِه المحسنينَ جناتٍ وَصَفَها في كتابِه بأحسنِ الأوصافِ، تشويقًا وترغيبًا ليجتهدوا في إحسانِ العملِ الذي يُوصلُ إليها، فقالَ تعالى عنها:{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[يونس: 26].

والحُسنى هي الجنَّةُ، وسُمِّيتْ بالحُسنى لأنَّ فيها من النعيمِ والحُسْنِ والجمالِ ما لم تره عيونُ الخلقِ، ولم تسْمعهُ الآذانُ، ولم يخطرْ على قلبِ بشرٍ، قال رسولُ اللهِ ﷺ:(قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} رواه البخاري(3244) ومسلم(2824).

أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[العنكبوت:69]. باركَ اللهُ لي ولكُم في القرآنِ العظيم ونفعنِي وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ إنَّهُ هو الغفورُ الرّحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ الذي علَّم أمتَه كلَّ خيرٍ، وحذَّرهم من كلِّ شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعدُ:

فاتقوا الله أيُّها المؤمنونَ، واعْلموا أنَّ اللهَ تعالى أعدَّ للمحسنينَ الحُسنى وزيادةُ، والزيادةُ المرادُ بها النظرُ إلى وجهِ اللهِ الكريمِ، وهو أعظمُ نعيمِ أهلِ الجنَّةِ، كما جاءَ ذلك مفسرًا في حديثِ صهيبٍ الرًُّومي رضي اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قالَ:(إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ (قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنْ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ) ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} رواه مسلم (181).

وقال تعالى عن نعيمِ أهلِ الجنةِ: {لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}[ق:35].  والمزيدُ: هو النظرُ إلى وجهِ اللهِ تعالى كما في الآيةِ السابقةِ في تفسيرِ الزيادةِ. قال ابنُ رجبٍ رحمهُ اللهُ: “وهذا مناسبٌ لِجَعْلِه جزاءً لأهلِ الإحسانِ، لأنَّ الإحسانَ هو أنْ يعبدَ المؤمنُ ربَّه في الدنيا على وجهِ المراقبةِ للهِ، وحضورِ القلبِ كأنَّه يراه، وينظرُ إليه، فكانَ جزاءُ ذلك النظرَ إلى وجْهِ اللهِ عيانًا في الآخرةِ… “.

أسألُ اللهَ تعالى أَنْ يجعلَنا وإيَّاكم من عبادِه المحسنينَ الذينَ لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنونَ، وأَنْ يمنَّ علينا وعليكم بلذةِ النظرِ إلى وجهِه الكريمِ.

هَذا وصلُّوا وسلّموا على الحبيبِ المصطفى والنبيّ المجتبى محمد بن عبد الله فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً] (الأحزاب:٥٦).

22/8/1443هـ