يوم عرفة يوم مشهود – خطبة الجمعة 9-12-1443هـ

الجمعة 9 ذو الحجة 1443هـ 8-7-2022م

 

الخطبة الأولى:

إنّ الحمدَ للهِ، نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ منْ شُرورِ أنفسِنَا ومِنْ سَيّئَاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلَا مُضِلّ لَهُ، ومنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ:

فاتّقُوا اللهَ أَيُّهَا المؤمنونَ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}[آل عمران:102].

عبادَ اللهِ: جَمَعَ اللهُ لكم في هذا اليومِ بين يومينِ عظيمينِ من أيَّامِه تعالى، يومِ الجمعةِ ويومِ عرفةَ، فيومُ الجمعةِ يومٌ مباركٌ، قال عنه :(خيرُ يومٍ طَلعَتْ فيه الشَّمسُ يومُ الجُمُعة؛ فيه خَلَقَ اللهُ آدَمَ، وفيه أُدْخِلَ الجَنَّةَ، وفيه أُخرِجَ منها، ولا تقومُ السَّاعةُ إلَّا في يومِ الجُمُعة) رواه مسلم (854). ويومُ عرفةَ وهو أعظمُ أيامِ السنةِ، فهو يومُ الرحمةِ والعطاءِ ويومُ مغفرةِ الذنوبِ والعتقِ من النَّارِ، أقْسمَ اللهُ تعالى به في كتابِه العظيمِ، لمزيدِ شرفهِ وفضلهِ، وخصَّه بعظيمِ الأجرِ والثوابِ.

أيُّها المؤمنونَ: يومُ عرفةَ اختصَّه اللهُ تعالى بفضائلَ كثيرةٍ، منْها :

أولاً: أنَّه يومُ إكمالِ الدِّينِ وإتْمامِ النِّعمةِ على المسلمين: فعن عمرَ بنِ الخطَّابِ رضي اللهُ عنَّه أنَّ رجلاً من اليهودِ قالَ لهُ: يا أميرَ المؤمنينَ، آيةٌ في كتابِكم تقرءونَها، لو علينا معشرَ اليهودِ نزلتْ لاتَّخذنَا ذلكَ اليومَ عيدًا. قال أيُّ آيةٍ؟ قال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا..}[المائدة:3] ، قال عمرُ: قد عَرفَنَا ذلكَ اليومَ والمكانَ الذي نزلتْ فيه على النَّبي : وهو قائمٌ بعرفةَ يومَ الجمعةِ. (متفق عليه).

ثانيًا: شَرفُ هذا اليومِ وفضلُه: فهو يومٌ مشهودٌ، لإقسامِ اللهِ تعالى به، قال تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُود}[البروج:3]، وعن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه أنَّ النَّبي قالَ:(اليومُ الموعودُ يومُ القيامةِ، واليومُ المشهودُ يومُ عرفةَ، والشاهدُ يومُ الجمعةِ) (رواه الترمذي (3339)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3339).

ثالثًا: أنَّ صيامُه يُكفِّرُ سنتين: فعن أبي قتادةَ رضي اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ سُئلَ عن صومِ يومِ عرفةَ فقالَ:(صِيامُ يومِ عَرَفَةَ، إِنِّي أحْتَسِبُ على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السنَةَ التي قَبلَهُ، والسنَةَ التي بَعدَهُ) رواه مسلم (1162). وهذا لغيرِ الحاجِّ، أما الحاجُّ فلا يُسنُّ له صيامُه.

رابعًا: أنَّه يومُ المغفرةِ والعتقِ من النارِ والمباهاةِ بأهلِ الموقفِ: فعن عائشةَ رضي اللهُ عنها عن النبي قال: (ما مِن يَومٍ أَكْثَرَ مِن أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فيه عَبْدًا مِنَ النّارِ مِن يَومِ عَرَفَةَ وإنَّه لَيَدْنُو ثُمَّ يُباهِي بهِمِ المَلائِكَةَ، فيَقولُ: ما أَرادَ هَؤُلاءِ؟) رواه مسلم  (1348).

ومن أفضلِ الأعمالِ في هذا اليومِ بعدَ الصيامِ الدعاءُ، سواءٌ كانَ لأهلِ الموقفِ من الحُجَّاجِ، أو غيرِهم ممن لم يَحجُّوا، فقد قال :(خيرُ الدُّعاءِ دعاءُ يومِ عرفةَ، وخيرُ ما قلتُ أَنا والنَّبيُّونَ من قبلي: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، لَهُ الملكُ ولَهُ الحمدُ وَهوَ على كلِّ شَيءٍ قديرٌ) رواه الترمذي (3585) وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3585).

فينبغي للمسلمِ أن يحرصَ على استغلالِ وقتِه في الإكثارِ من ذكْرِ اللهِ تعالى ودعائِه، وخاصةً أنَّه يوافقُ يومَ الجمعةِ الذي فيه ساعةٌ لا يَردُّ اللهُ فيها سائلاً سألَه بصدقٍ وإقبالٍ وإخلاصٍ وتضرعٍ، فعن أبي هريرة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَقَالَ: فِيه سَاعَةٌ لا يُوَافِقها عَبْدٌ مُسلِمٌ، وَهُو قَائِمٌ يُصَلِّي يسأَلُ اللَّه شَيْئًا، إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاه وَأَشَارَ بِيدِهِ يُقَلِّلُهَا) متفقٌ عليه.

وعن أَبي بُردةَ بنِ أَبي مُوسى الأَشعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ عَبْدُاللَّهِ بنُ عُمرَ رضَيَ اللَّه عنْهُمَا: أَسَمِعْت أَبَاكَ يُحَدِّثُ عَن رَسُول اللَّهِ ﷺ في شَأْنِ ساعَةِ الجُمُعَةِ؟ قَالَ: قلتُ: نعمْ، سَمِعتُهُ يقُولُ: سمِعْتُ رسُولَ اللَّه يَقُولُ: (هِيَ مَا بيْنَ أَنْ يَجلِسَ الإِمامُ إِلى أَنْ تُقضَى الصَّلاةُ) رواه مسلم(853)، وفي روايةٍ هي ما بينَ صلاةِ العصرِ والمغربِ، قال : (يومُ الجمعةِ ثِنتا عشرةَ ـ يريدُ ـ ساعةً لا يوجَدُ مسلِمٌ يسألُ اللَّهَ عزَّ وجلَّ شيئًا إلّا آتاهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ فالتمِسوها آخرَ ساعةٍ بعدَ العصرِ) رواه أبو داود (1048) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1048).

أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ  {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[البقرة: 198، 199].

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكْرِ الحكيمِ، فاستغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ على فضْلهِ وإحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إلَه إلا اللهُ وحْدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحْبِه ومَنْ سارَ على نَهْجِه إلى يومِ الدِّينِ، أما بعدُ:  

فاتَّقوا اللهَ تعالى واجتهدوا في هذا اليومِ بالدعاءِ والذِّكرِ والعملِ الصالحِ.

عبادَ اللهِ: هنيئًا لحُجَّاجِ بيتِ اللهِ الحرامِ إدراكُهم فضلَ الزمانِ والمكانِ في كلِّ مناسِكهم من إحرامٍ وطوافٍ وسعيٍ ووقوفٍ بعرفةَ ورميٍ وغيرِها.

وسلامٌ عليهم وهم وقوفٌ في صعيدِ عرفاتٍ، حَسَروا الرؤوسَ، ولَبِسُوا ثيابَ الإحرامِ يتعرَّضونَ لنفحاتِ اللهِ، يرجونَ ثوابَه ويخافونَ عقابَه.

سلامٌ عليهم وهم يلهجونَ بالتلبيةِ (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك..).

سلامٌ عليهم عشيةَ عرفةَ حين يتعرَّضونَ لمغفرةِ اللهِ، فينصرفونَ من عرفاتٍ وقد غُفِرتْ ذُنوبُهم، واستُجيبتْ دعواتُهم، فضلاً من اللهِ وكرمًا عليهم.

سلامٌ عليهم وهم يقفونَ في المشعرِ الحرامِ مُنشغلينَ بالدعاءِ، مقتدينَ برسولِ اللهِ .

سلامٌ عليهم وهم يرمونَ الجمراتِ، ويُكملونَ مناسكَهم بأمنٍ وأمانٍ وطمأنينةٍ.

أسألُ اللهَ تعالى أن يتقبَّل منَّا ومنكم صالحَ الأعمالِ، وأن يجعلنَا وإيَّاكم في هذا اليومِ المباركِ من الذين قَبِلَ اللهُ دعاءَهم وصالحَ أعمالِهم، وأن يعينَنَا وإيَّاكُم على ما يُرضيْه عنَّا، ويُقرِّبنا إلى جنَّتهِ ورضوانِه إنَّه سميعٌ قريبٌ مجيبٌ.

هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفى فقد أَمَرَكم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ من قائلٍ عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[الأحزاب:56].         الجمعة: 9/12/1443هـ