إنكار الذات
المسلم في هذه الحياة له غاية أساسية وعظيمة وهي الدعوة إلى دين الله عز وجل والأخذ بيد الناس إلى طريق الحق يقول الله تعالى في حديثه القدسي: (يا داود حبب خلقي إلى قال: يارب كيف أحبب خلقك إليك وأنت رب العالمين قال: يا داود ذكرهم بطاعتي وعبادتي فذلك تحببهم إلى).
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنه والمثل الأعلى في الانشغال بالإسلام والاهتمام بأمور المسلمين في أنحاء المعمورة كلها فهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيش ثلاث وعشرين سنة من أجل دين الله وتبليغه كلها محفوفة بالمشاق والمعاناة لم نسمع عن الرسول أنه كان يهتم بزخارف الحياة الدنيا وزينتها الفانية أو الكماليات التي أصبحت الشغل الشاغل للناس في الوقت الحاضر, ليل نهار يدعو إلى دين الله عز وجل, إذا كان في البيت كان في خدمة أهله فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة, يرقع ثوبه ويخصف نعله, ويقم البيت, همه الوحيد منذ نزول الوحي عليه إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى أن تبلغ كلمة التوحيد كل إنسان على وجه هذه الأرض ما اهتم بنفسه قط وما عمل لنفسه قط وما ادخر شيئاً قط مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يورث درهماً ولا ديناراً. كل ما يشغله الإسلام ومشاعره والإيمان وشعبه حتى أنه في أنفاسه الأخيرة ليوصى بالصلة الروحية التي بين العبد وربه والفرق الذي بين المسلم والكافر, يوصى بالصلاة فيقول (الصلاة؛ الصلاة وما ملكت أيمانكم )(رواه مسلم). تصفه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فتقول: (ما غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط وما غضب إلا عندما تنتهك حرمات الله فيغضب الله). وهكذا كان الخلفاء الراشدون من بعده رضوان الله عليهم أجمعين فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين ينام تحت الشجرة وهو الذي قهر الفرس والروم بحول الله وقوته فيشهد له أحد أعدائه الذين قهرهم قائلاً: حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر.
لقد فتح الله بيت المقدس على يد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وسلم له بطريك النصارى مفاتيح بيت المقدس بدون حرب وحاول المسلمون أن يجهزوا لاستقبال أمير المؤمنين بالقدر الذي يليق به لكنه يأتي وهو يركب بغلته القصيرة ويلبس ملابس الرثة فيقول البطريك تلكم هي صفات الرجل الذي قرأنا عنه في الإنجيل أننا نسلمه بيت المقدس بدون حرب.
وفي إحدى فتوحات المسلمين في الروم بقياده محمد بن مسلمه تعثر على المسلمين أحد الحصون التي تحصن فيها الروم وإذا بأحد الجنود المسلمين يقوم الليل بين يدي الله تعالى صلاة وتهجد ويسأل الله جل وعلا أن يفتح الحصن على يديه ويستجيب الله له ذلك لكن هذا الجندي الهمام يود إنكار ذاته وعدم معرفته فيخرج متلثماً ويوفقه الله في قتل حارسي الحصن ثم يقتحم الحصن ويفتح الله للمسلمين على يد هذا الجندي المخلص فيطلب الأمير محمد بن مسلمه مقابلة هذا الجندي فيذهب إليه ويقول: أيها الأمير أنا رسول من عند صاحب النقب الذي فتح الله على يديه وهو يقول : إذا كان الأمير يود مقابلة فلتبل جيبه إلى ثلاث شروط:
(1) ألا تسألوه عن اسمه.
(2) ألا يدون اسمه في شيء من دواوين الدولة
(3) ألا يعطي جائزة على ذلك فإنما هو يبتغي الأجر من الله, في حين أن هذا الرسول هو صاحب النقب الذي اقتحمه وقد حضر أيضاً متلثماً حتى لا يعرفه أحد.
وفي إحدى الفتوحات أيضاً في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كان خالد بن الوليد قائد الجيش الإسلامي في غزوة من الغزوات وجاء قرار مرسوم صدر من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن يتولى أبو عبيدة الجراح قيادة الجيش وينزل خالد بن الوليد إلى رتبة جندي كأي جندي في الجيش فلم يحزن خالد لذلك ولم يفرح أبو عبيدة بهذه الترقية ولكن الأخلاق الرفيعة لكليهما تعالت عن كل أطماع الدنيا وارتقت بحثاً عن المصلحة فخالد قائد محنك وله خبرة عسكرية وحربية لا يستهان بها حتى أن خطته العسكرية التي رسمها وخططها ونفذها في غزوة مؤتة سنة 9هـ ما زالت حتى الآن تدرس في أعرق وأعظم الكليات الحربية في أرجاء العالم كله, ولم لا ؟ وهو القائد العربي المسلم الذي لم يهزم في غزوة قادها طوال حياته, مع الأخذ في الاعتبار أن أبا عبيدة رضي الله عنه لم تخدعه نفسه وتمسك بالمنصب الجديد بل اتفق مع خالد أن يظل الأمر سرياً للغاية حتى تنتهي الحرب وبالتالي لا تحدث فرقة بين الجنود وبعدما أتم الله النصر للمسلمين في هذه الغزوة أعلن رسمياً على الجنود جميعاً بأن أبا عبيدة الجراح أصبح القائد العام للجيش الإسلامي.
يتضح لنا مما سبق أن المسلم في هذه الحياة يجب ألا يغضب لنفسه ولا يعيش لنفسه بل يعيش للإسلام والمسلمين ففي العطاء والتضحية والبذل والفداء سعادة لا تقل عن السعادة المترتبة عن الأخذ بل إن الإنسان تغمره سادة بالغة عندما يكون سبباً في سعادة الآخرين.
والمسلم إذا أراد أن يربي نفسه على الإسلام فليتذكر هذا المعنى العظيم حين جلوسه في أي مجلس فلا يتكلم إلا إذا طلب منه ولا يحاول أن يظهر مواهبه أمام الآخرين فيشعرون أنهم أقل منه وأنه أفضل منهم ولا يحاول أن يرتقي عليهم بما وهبه الله من مال أو علم أو جاه أو سلطان خاصة إذا كان يود أن يدعو هؤلاء الناس إلى دين الله أو يعلمهم شيئاً من كتاب الله أو يبصرهم بأي فرع من فروع العلم فهم بذلك لن ينقلوا عنه شيئاً ولن يتقبلوا منه ولن يتعلموا على يديه لأنه يشعرهم دائماً أنه أفضل منهم بل يجب الترفق بهم وعدم التعالي عليهم وعدم ذكر شيء من محاسنه إلا بالقدر المطلوب وحين يطلب منه ذلك.
أما إذا كان يود أن يتعلم ممن يجلس معهم ومع ذلك يظهر كل ما عنده من محاسن ومواهب فإنه سيزدرى بينهم بل يجب أن يظهر في صورة المتواضع الحريص على العلم المتعطش للتعلم لأنه لو أظهر عكس ذلك فسيقول له معلموه وشيوخه ما دمت كذلك فلماذا تحضر إلينا؟ أنت ترى في نفسك أنك مؤهل لنشر العلم فانطلق إذاً ولا تجالسنا يقول الله تعالى:[فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى](النجم:32)، ويقول تعالى:[وما وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً](الإسراء:85).
وسئل أحدهم متى تشتهي الصمت؟ قال: عندما أشتهي الكلام هكذا يجب أن يكون المسلم يتحدث بحدود ولا يذكر شيئاً إلا بالقدر المناسب وليتذكر تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وعظيم أخلاقه وهو يعلم عدّاس العبد الذي كان يعمل عند عتبة وشيبة ابني ربيعة ورُقي فهم الرسول لفقه دعوته حين دعا عداَّساً للإسلام وليتعلم أيضاً من الرسول كيف علم الأعرابي الذي بال في المسجد برفق ولين وليتواضع.
وليدرك المسلم الغاية من هذه الحياة ويعيش للإسلام ويدرك قيمة الدنيا من الآخرة وليدرك أيضاً حتمية الموت والاتعاظ به ثم يرجع الفضل في كل شيء أنعم الله عليه به إلى الله فإنه إذا فعل ذلك يكون قد تربى على هذا المعنى العظيم وهو إنكار الذات وليحذر كل الحذر من إرجاع الفضل إلى نفسه في أي شيء يقول الله تعالى:[قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي] (القصص:78) فكانت عاقبة قارون ما ذكره الله تعالى في قوله:[فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ](القصص:81).
نسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا وصلَِ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.