عثرات اللسان
يقول الله تعالى في وصف عباده المؤمنين: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) [القصص: 55].
اللغو خوض في باطل وتشاغل بما لا يفيد أمر الله بالإعراض عنه ونهى عن الوقوع فيه ففيه مضيعة للعمر في غير ما خلق الإنسان من أجله وهو عبادة الله والعمل الصالح وصدق الله العظيم (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ). [الذاريات: 56].
واللغو الذي نشير إليه له صور شتى من خوض في الباطل وتحدث بالمعاصي وترويج للفواحش وتتبع للعورات وتندر بالناس وسخرية بهم.
إن معظم ما يشتغل فيه كثير من الناس في مجالسهم لغو باطل من كذب ونميمة وشهادة زور وسب وشتم ولعن وقذف وقبل ذلك وبعده الغيبة التي أصبحت سمة كثير من المجالس إلا ما رحم ربك لقد شاهدنا في دنيا الواقع من جرَّد لسانه يلوك الأعراض وينهشها دون مروءة أو حياء ولم يسلم من هؤلاء حتى أفاضل الناس من العلماء والعباد والصالحين ومن لهم حقوق عامة وخاصة كولاة الأمر والمدرسين وغيرهم ونسي هؤلاء الذين يغتابون الناس ويتحدثون بهم في مجالسهم قول الله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 18].
ولم يتفكر هؤلاء في قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [الحجرات: 12].
اللسان مزلة قدم فإما أن يوردك إلى الجنة أو يرديك في النار.
ولهذا ثبت عن أبي بكر رضي الله عنه أنه كان يمسك بلسانه ويقول هذا أوردني الموارد وثبت عنه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من وقاه الله عز وجل شرَّ ما بين لحييه دخل الجنة ).
وروى البخاري وغيره عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ).
وقد ثبت عن بعض السلف قوله: ( حق على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه حافظاً للسانه مقبلاً على شأنه ).
وقول بعضهم: ( ينبغي للرجل أن يكون أحفظ للسانه منه لموضع قدمه ).
وقول بعضهم: ( ما على أحدهم لو سكت فتتنقى وتوقى ).
وثبت عن الحسن قوله: ( ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه ).
قال بشار بن برد:
خير إخوانك المشارك في المر وأين المشارك في المر أينا
الذي إن شهدت سرَّك في الحي وإن غبت كان أذناً وعينا
أنت في معشر إن غبت عنهم بذلوا كل ما يزينك شينا
وصدق القائل:
جراحات السنان لها التئام ولا يلتام ما جرح اللسان
ويزداد الأمر حرجاً وتعظم البلية حين ترى من عليه علامات الصلاح والوقار وملامح التقى يسفر عن بذاءة وثرثرة يخوض في الباطل لا يترك شخصاً إلا تكلم فيه بباطل بل ولا يترك عالماً إلا أورد زلته ولم يسلم من هذا صفوة علمائنا في هذا الزمان علماء بلاد الحرمين الشريفين لكن هؤلاء من الحزبيين الذين لا يعظم في عيونهم ولا يستحق المدح في نظرهم إلا من هو على شاكلتهم فلله كم هم صرعى الهوى والشيطان وحب الظهور.
فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس وطوبى لمن اشتغل بما ينفع ويفيد وطوبى لمن أغلق عليه بابه واشتغل بما يثقل ميزان حسناته يوم العرض على الله يوم تخف موازين أقوام وتثقل موازين آخرين وصدق الله العظيم (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ) [القارعة: 6-10].
إن فضلاء الرجال وعظماءهم وعقلاءهم إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه فلا تبدر منهم لفظة نابية ولا عبارة ناشزة ولا انتصار للنفس وهؤلاء دائماً محل تقدير الناس وثقتهم مهما كانت مكانتهم ومنزلتهم سواء كانوا علماء أو تجاراً أو فلاحين فعقلهم وورعهم يحجزهم عن الخوض في عيوب الآخرين لأنهم يدركون تماماً أنه كم من زلة لسان فرقت بين زوجين وكم من زلة لسان فرقت بين الأب وأبنائه وبين الإخوة وبين الأسر.
ومجالس النساء عادة أكثر المجالس لغواً أو خوضاً فيما لا ينفع خصوصاً إذا صاحب ذلك جهل وعدم خوف من الله فإن الغيبة والنميمة تعشعش في هذه المجالس ويكثر فيها القيل والقال وأذية الناس وخصوصاً الأزواج وكم من امرأة انقصمت علاقتها الزوجية مع زوجها بسبب مجلس من هذه المجالس العفنة.
ومما يعين على البعد عن اللغو والالتزام بالفاضل من القول والعمل ما يأتي:
1- تجنب كثرة المزاح والإفراط فيه فهو يسقط الوقار ويورث الضغائن ويولد الأحقاد.
2- كظم الغيظ والعفو عن الناس واحتساب ذلك عند الله لأن المسلم إذا أراد القصاص في كل شيء لم يجد له رصيداً يوم القيامة.
3- كثرة التسبيح والتهليل والتحميد لأن بها شغلاً عن اللغو وسيء الكلام.
4- هجر المجالس التي تفشو فيها الغيبة ويكثر فيها اللغو.
5- المرء لا تعرف حاله إلا إذا تكلم ولذا قال ابن مسعود والله الذي لا إله إلا هو ليس شيء أحوج إلى طول سجن من لسان.
وقد ثبت أن الجوارح كلها تابعة للسان فإن استقام استقامت والعكس بالعكس.