كيف نحول الحامض إلى شراب حلو
يقول: صلى الله عليه وسلم: ( إذا أحب الله عبداً ابتلاه فإذا صبر اجتباه فإذا رضي اصطفاه ).
والصبر هو حبس النفس على ما تكره. لكن حبس النفس على ما تكره إذا قصد به استمرار الشعور بمرارة الحياة وواقعها وطول الإحساس بما في هذه الحياة من عنت ومشقة قد ينتهي بالإنسان إلى حالة من الكآبة وعدم الشعور.
وربما ينهزم الصبر أمام المقارنات التي تعقدها النفس بين ما حصلت عليه وبين ما كانت تحب وتتمنى والرياح تجري بما لا تشتهي السفن وها هو الشاعر يعاتب نفسه قائلاً لها:
أقول لنفسي في الخلاء ألومها لك الويل ما هذا التجلد والصبر؟
وهذا هو قمة التخبط في الظلمات دون البحث عن نور يهدي في دياجيه أو عزاء يمسح دموع الألم والجراح من مآسيه، والإسلام يعمل على تحويل الصبر إلى رضا في المجال الذي يصح فيه هذا التحول.
ولن يتم تذوق النفس لبرد الرضا بإصدار الأوامر الجوفاء الشديدة الغليظة بل النفس تحتاج إلى تلطف في ذلك عن طريق استدراج لمشاعرها النافرة فلا فائدة من قول أحدهم أنا راضٍ بينما نفسه تطفح بالضيق والسخط.
فلنتهم أنفسنا ومشاعرنا حيال ما ينزل بنا يقول سعيد بن المسيب رحمه الله: \” إني لأعلم ما هو الذنب الذي به حملت هذا الدين قلت لرجل يا مفلس فادخرها لي ربي أربعين عاماً ثم أفقرني.
الله أكبر قلت ذنوبهم فعرفوا من أين يأتون وكثرت ذنوبنا فلا نعرف من أين نؤتى. إن أكثرنا يتبرم بالظروف التي تحيط به وقد يضاعف ما فيها من نقص وحرمان مع أن المتاعب والآلام هي التي تنبت فيها بذور الرجولة وما تفتقت مواهب العظماء إلا وسط ركام من المشقات والجهود ورب ضارة نافعة ومن يدري رب محنة في طيها منحة صحت الأجسام بالعلل ولربما كانت المتاعب التي نعاني باباً إلى خير مجهول وإن أحسنا التصرف فيها فنحن أحرى أن ننفذ منها إلى مستقبل زاهر عامر بالخير والسعادة.
إن المصابين والمعاقين في هذه الحياة كثيرون ولكنهم لم يجسموا مصائبهم ثم يطوفوا حولها معولين منتحبين ولم يدعوا ألسنتهم تلعق ما في واقعهم المر من غضاضة لقد قبلوا هذا الواقع ثم تركوا العنان لمواهبهم تحول المحنة إلى منحة بفضل الله ورحمته وإرادته وتوفيقه وتحول ما في هذا الواقع من كدر وطين إلى ورود ورياحين وتلك هي دعائم العظمة أو أن هذا هو تحويل الحامض المر إلى شراب حلو سائغ.
فها هو عبدالله بن عباس رضي الله عنهما يفقد عينيه ويعرف أنه سيقضي ما بقي من عمره مكفوف البصر محبوسأ وراء الظلمات عن رؤية الحياة والأحياء لم ينطو على نفسه ليندب حظه العاثر بل قبل قضاء الله بالصبر والتسليم ثم أخذ يضيف إليها ما يهون المصائب ويبعث على الرضا فيقول:
وليس كل امرئ يؤتى القدرة على تحويل قسمته المكروهة إلى حظ مستحب ذي جدوى فإن عشاق السخط ومدمني الشكوى أفشل الناس في إشراب حياتهم معنى السعادة إذا جفت منها أو إذا لم تجيء وفق ما يتمنون ويشتهون.
بينما أصحاب اليقين وأولو العزم يلقون الحياة بما في أنفسهم من رحابة قبل أن تلقاهم بما فيها من عنت.
فكم سمعنا عن معاقين كثيرين حولوا حياتهم إلى سعادة غامرة يرويها الزمان رغم ما هم فيه من بعض النقص من أجسادهم.
وها هو ذاك الطبيب الذي أصيب بحادث وهو في بكالريوس الطب وقطع ساقيه فلم يستسلم لهذه الإعاقة بل اجتهد وزاد نشاطه في المذاكرة والتحصيل حتى نجح بامتياز بتوفيق الله ليعود ويعمل طبيباً في نفس المستشفى التي عولج فيها إثر الحادث الذي نتج عنه بتر ساقيه.
ولا شك أن تلقي المتاعب والنوازل بهذه الروح المتفائلة وهذه الطاقة على استئناف العيش والتغلب عليها وعلى صعابها أفضل وأعظم من مشاعر الانكسار والانسحاب التي تجتاح بعض الناس وتقضي عليهم.
فالبون شاسع والفرق كبير بين كلام ابن عباس رضي الله عنهما وبشار بن برد وغيرهم وبين ما قاله صالح بن عبدالقدوس لما عمي حيث قال:
ومع أننا نحس الرقة لهذا الفؤاد الجريح غير أنه خير لصاحبه أن ينهض ويسير ويضاعف الإنتاج في الحياة من مواهبه الأخرى كما فعل الرجال قبله.
وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين