مواساة أخي الحبيب، وصديقي العزيز أبي عبد الرزاق عبد العزيز بن عبد الرزاق القشعمي في وفاة زوجته رحمها الله. بتاريخ 2/ 1 /1445هـ
جعل الله عز وجل في الموت آيةً لكل عبد منيب، وعبرةً وعظةً لكل حصيفٍ لبيبٍ، تقف أمامه الخلائقُ صمتًا وعجزًا، لا يستطيعونَ له ردًّا، ولا يملكون عنهُ صَرْفًا ولا عَدْلًا، إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ.
والموتُ دليلٌ على وحدانية الله عزَّ وجلَّ، وتفردِهِ وحده بالبقاءِ، ومآل كل من سواه إلى الموتِ والفناءِ، قال سبحانه: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) الرحمن: [26-27].
ومن حكمة الله عز وجل أن قدّر لكل المخلوقات أجلًا، لا محيدَ عنه ولا مناص، ولا رادَّ لقضائِهِ ولا خلاص، وندبَ المؤمنينَ إلى الرِّضَا بالقضاءِ، وبشَّرَ الصَّابِرِينَ على البَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ، فقالَ: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) البقرة: [155-157].
ودّعْنَا بالأمْسِ الأربعاء الموافق غرّة شهر الله المحرم لعام 14445هـ أُخْتَنَا الصابرة الشاكرة، فاطمة بنت عبد اللطيف بن عبد العزيز الدويش -رحمها الله، وتقبَّلَهَا في الصَّالحين- زوجة أخي الحبيب، وصديقي الوفي العزيز، أبي عبد الرزاق عبد العزيز بن عبد الرزاق القشعمي.
وأخي عبد العزيز بن عبد الرزاق القشعمي من خِيرة من عَرفْتُ خُلُقًا ودِينًا، وَوَرَعًا ووفَاءً صَحِبَنِي في الحِلِّ والسَّفَرِ، وسخَّرَ وقتَهُ لِخِدْمَةِ الْعِلْمِ، ونَشْرِهِ بينَ النَّاسِ، دؤوبٌ في الخير لا يمل، وسريعٌ إلى البِرِّ لا يكل.
لكنه الموتُ الذي أقضَّ مضَاجِعَ الصَّالِحِينَ، وفَضَحَ الدُّنْيَا أمَامَ أَعْيُن الرَّاغِبِينَ، قالَ مُطَرِّفُ بْنُ الشِّخِّيرِ: (إِنَّ هَذَا الْمَوْتَ قَدْ أَفْسَدَ عَلَى النَّاسِ نَعِيمَهُمْ فَالْتَمِسُوا نَعِيمًا لَا مَوْتَ فِيهِ) الزهد لأحمد بن حنبل (195)
وقالَ الحسنْ البصريُّ: (إِنَّ الْمَوْتَ فَضَحَ الدُّنْيَا فَلَمْ يَتْرُكْ لِذِي لُبٍّ فَرَحًا) الزهد لأحمد بن حنبل (209)
وفقدُ الزَّوْجَة مصيبةٌ لا يقدرها إلا من عاينَها، ولا يئِنُّ منها إلا من اكْتَوَى بها، ففيهِ فقدٌ للسكنِ والألفةِ، والمودَّةِ والرَّحْمَةِ، وغيابُ ركن ركين، وأصل أصيل، وكسرٌ لا يَجْبُرُهُ إلا مَا يفيضُ اللهُ عزَّ وجلَّ به على العبدِ من الرِّضا والتَّسْلِيم، وما يُسْبِغُهُ على القلبِ من الصَّبْرِ واليقينِ، لكنَّها حقيقة الدنيا، صفاؤُهَا مشوبٌ بكدر، وسرورٌ يعقُبُهُ ألم، وأيَّامٌ بينَ النَّاسِ دُوَلٌ، وصدقَ القائِلُ:
لكل شيء إذا ما تمّ نقصانُ فلا يُغَرّ بطيبِ العيشِ إنسانُ
هي الأيام كما شاهدتها دُوُلٌ من سَرّهُ زمنٌ ساءَتْهُ أزمانُ.
وقال الآخر:
فَلَوْلاَ اعْتِقَادي بِالْقَضَاءِ وَحُكْمِهِ لقَطَّعْتُ نفسي لهفةً وَتندما.
وقال الآخر:
وما الحال إلا مثل ما قال من مضى وبالجملة الأمثال للناس تضرب
لكل اجتماع من خليلين فُرْقَة ولو بينهم قد طابَ عيش ومشرب.
وأختنا فاطمة، زوجة أبي عبد الرزاق -رحمها الله- نعمتْ الزوجةُ كانتْ لزَوْجِهَا عرفنَاهَا ذات منطق سليم، وعقل راجح، وفطنة نافذة، ابتليتْ فصبرتْ، ومرضتْ فاسترجعتْ واحتسبتْ، وإني أرجو من اللهِ عزَّ وجلَّ لها بُشْرَى نبيِّنَا ﷺ في الحديثِ الذي رواه عطاء بن يسار رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: (إذا مرض العبدُ بعث اللهُ تعالى إليه ملَكينِ فقال: انظروا ماذا يقول لعُوّاده؟ فإن هو إذا جاؤوه حمدَ اللهَ وأثنى عليه، رَفعا ذلك إلى اللهِ عزّ وجلّ -وهو أعلمُ- فيقول: لعبدي عليَّ إن توفَّيتُه أن أُدخلِه الجنةَ، وإن أنا شفيتُه أن أُبدِّلَ له لحمًا خيرًا من لحمِه، ودمًا خيرًا من دمهِ، وأن أُكفِّرَ عن سيئاتِه) أخرجه مالك في الموطأ (2/940) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/551).
وأختنا فاطمة -رحمها الله- تربَّتْ في بيتٍ تَقِيٍّ، لأبوينِ فَاضِلَيْنِ، وهي ابنةُ جارنا العزيز، أبي إبراهيم عبد اللطيف بن عبد العزيز الدويش-حفظه الله- نِعْمَ الجار هو وأسرتُهُ أدبًا، وهو من خِيرَةِ أهل الحيِّ خُلُقًا وكرمًا وتعاملًا، عرفْتُهُ مُحِبًّا للمسجدِ، مُلازِمًا له، حَرِيصًا على الصَّلاةِ والتَّبْكِيرِ لهَا.
ومما أثلج الصدر وخفف المصاب، ما قامت به الغالية الوفيّة حصّه بنت أبي عبد الرزاق حيث لازمت والدتها في صحتها ومرضها، ورافقتها في المستشفى، وخففت من معاناة أمها، وهذا ليس بغريب، فهي سليلة أبي عبد الرزاق، وبنت فاطمة، سليلة الأسرة المباركة، أسرة أبي إبراهيم عبد اللطيف الدويش، فهم من السابقين في البر والصلة.
وإنِّي أُشَاطِرُ أخِي أبي عبد الرزاق فيما أصابَهُ، وأوصيهِ بالصَّبْرِ والاحتسابِ، وأنْ يعلمَ أنَّ هذه المصيبة دواءٌ نافعٌ ساقَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ إليهِ، وهو العليمُ الخبيرُ، فليصْبِرْ على تجرُّعِهِ وليعلم أن المصيبةَ ما جاءَت لتُهْلِكَهُ وتقتله، وإنما جاءتْ لتمتحنَ صبره، وأن الله عز وجل يُرَبِّي عبدَهُ على السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ، والنِّعْمَةِ والبَلاءِ، فَيَسْتَخْرِج منه عُبودِيَّته في جميعِ الأحْوالِ، فإنَّ العبدَ على الحقيقةِ منْ قامَ بعبوديةِ اللهِ على اختلافِ الأحوالِ. وهنيئًا له بِرّه بزوجتِهِ، وعنايته بها، وإحسانه إليها.
وأشاطر جاري الحبيب، أبي إبراهيم في وفاة ابنته، وأسأل الله عز وجل أن يربط على قلبه، ويلهمه الصبر والاحتساب، ويجعلها ذخرًا له عند الله عز وجل.
أسأل الله عز وجل بجوده وكرمه أن يرحم أختنا فاطمة رحمة واسعة، وأن يجعل قبرها روضة من رياض الجنة، وأن يمدّ لها في قبرها مَدَّ بصرِهَا، وأن يجعلَ مرضها كفارة لذنوبها، وممحاة لسيئاتها، وأن يعاملها بعفوه وفضله، إنه أهل التقوى وأهل المغفرة.
اللهم جازها بالإحسان إحسانًا، وبالإساءة عفوًا وغفرانًا إنك أنت العفو الغفور.
اللهم اربط على قلوب ذويها، وأسبع عليهم من رحمتك، واشملهم بعفوك.
الله اخلفها في أهلها وذويها خيرًا، واجعل البركة في بُنيّتِهَا وزوجها ووالديها وذويها جميعًا، واجمعنا بها ووالدينا وإخواننا وأزواجنا وذرياتنا في جنات النعيم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.