خطبة بعنوان (التوبة وفضائلها) بتايخ 13-11-1428هـ.
الخطبة الأولى :
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب، الحمد لله الذي فتح لعباده أبواب رحمته ومنَّ عليهم بقبول توبتهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له دعا عباده إلى التوبة ليغفر لهم السيئات ويرفع لهم الدرجات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي كان يكثر من قول: (سبحان الله وبحمده استغفر الله وأتوب إليه)(البخاري ومسلم) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصية الله تعالى لعباده قال تعالى:[ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله](النساء).
فالتقوى سلاح المؤمن في هذه الدنيا، وهي خير زاد له عند لقاء المولى، وهي النجاة من كربات الدنيا والآخرة، فمن اتقى الله وقاه، ومن عمل بطاعته رضي عنه وأرضاه.
عباد الله: لقد خلق الله الخلق ضعفاء كما قال تعالى:[وخلق الإنسان ضعيفاً](النساء) وكثير منهم يقع في معصية الله تعالى إما بسبب وسوسة الشيطان له، أو لتعلق قلبه بالشهوات والملذات، وعندما يقع عن ضعف منه لا يجد مخرجاً سوى الإقبال على التوبة والرجوع إلى الله، لعلمه بسعة رحمة الله تعالى كما قال في كتابه:[قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم * وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون](الزمر)، وقوله تعالى [وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون](الشورى).
وإن رسولنا صلى الله عليه وسلم أشار إلى ذلك بقوله: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)(رواه مسلم).
وقد فتح الله تعالى لعباده باب التوبة والإنابة إليه لعلمه بضعفهم وحاجتهم إليه، وأنهم ولو أكثروا من الذنوب والخطايا فهو أرحم بهم من أنفسهم، فهو الذي يغفر الذنب، ويقبل التوب، وهو الذي يستر العيب، ويجيب دعوة المضطرين، وهو الذي روى عنه عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة)(رواه الترمذي، وصححه الألباني في جامع الترمذي (5/548) رقم(3540).
فأين المذنبون، وأين المخطئون من نداء أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، أيحتاج أحد منهم بعد ذلك أن يتمهل في التوبة والرجوع إلى ربه لكي يغفر له ذنوبه، فما بال أقوام يعلمون يقيناً أن الله تعالى فتح لهم هذا الباب العظيم ليؤبوا ويرجعوا إليه ثم ينصرفون عنه معرضين.
عباد الله: إننا في هذه الدنيا لا يخلو أحد منا من الوقوع في الذنوب والمعاصي، مع أن بعض الناس يقولون إننا لا نذنب ولا نقع في المعاصي والسيئات، فإذا جلست مع أحدهم وذكرته بما فعله في يومه، وما تلفظ به بلسانه، وما نظر إليه بعينه، تبين أنه واقع في هلكة لا يخرج منها إلا برحمة أرحم الراحمين.
والناظر في أحوال الناس يجد أنهم يقعون في ذنوب كثيرة مختلفة حسب أهوائهم وشهواتهم ومن ذلك: انتشار الرياء بالأعمال، والكبر، والعجب، والحسد، والحقد، والعصبية، والضغينة، وقول الزور، وشهادة الزور، والكذب، والغيبة، والنميمة، والغش، والخداع، والمكر، وأكل أموال الناس بالباطل، كأخذ الرشاوى، والمماطلة بحقوق الناس، وأكل الربا، والوقوع في الزنا واللواط والسحاق، والنظر إلى ما حرم الله، والتقصير في حقوق الله من أداء الصلوات، والحج، وأداء الزكاة، والفطر في رمضان، وعقوق الوالدين، وقطع الأرحام، وإيذاء الجار، فكل هذه الذنوب والمعاصي وغيرها كثير يتفاوت الناس في الوقوع فيها فمن مقل ومستكثر.
وهذا كله يثبت حقيقة وهي أننا يجب علينا التوبة والرجوع إلى الله، وأن الذنوب والمعاصي أثرها عظيم وعقابها أليم، قال تعالى:[ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عموا لعلهم يرجعون](الروم).
عباد الله: ألا ننظر إلى السابقين من الأمم الذين أهلكهم الله بسبب ذنوبهم، ألا ننظر إلى ما يدور حولنا في كل مكان من الزلازل والبراكين والفيضانات، والأمراض ، والحرائق المهلكة، أليس لنا اعتبار بما نراه ونسمعه؟
إن الكثير من الناس في غفلة عن الآخرة وعن لقاء الله، وقد تعاظمت الذنوب كثيراً بسبب قلة الخوف من الله، وضعف الإيمان في القلوب، ولكن الكيس من بادر إلى التوبة والاستغفار، والرجوع إلى العزيز الغفار، والإنابة إلى دار القرار، فلا سعادة للعبد إلا بالعودة إلى خالقهم الذي يرزقهم، ويكسوهم، ويكلأهم، ويرعاهم، ويشفي مريضهم، ويعافي مبتلاهم، ويفرج كروبهم، فإلى متى الغفلة؟ وإلى متى الإعراض، وإلى متى الركون إلى الملذات والشهوات التي تصد عن الله.
عباد الله: لقد أمرنا الله تعالى بالتوبة في كثير من الآيات، ووجهنا إلى لزومها قبل الرجوع إليه، وأخبرنا أن من تاب وعاد نال المغفرة والرحمة ودخول الجنات، قال تعالى:[ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما](النساء)، وقال تعالى:[وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم](التوبة)، وقال تعالى:[إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم](النساء).
وحث النبي صلى الله عليه وسلم الناس على التوبة في كثير من الأحاديث، فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: (إن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله أحدنا يذنب، قال يكتب عليه، قال: ثم يستغفر منه ويتوب. قال: يغفر له ويتاب عليه، قال: فيعود فيذنب. قال: فيكتب عليه، قال: ثم يستغفر منه ويتوب، قال: يغفر له ويتاب عليه، ولا يَمَلُّ اللهُ حتى تملوا)(رواه الطبراني، وقال الهيثمي: إسناده حسن).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكته سوداء فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه وإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه وهو الران الذي ذكر الله تعالى [كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون](رواه الترمذي، وحسنه الألباني في صحيح الجامع رقم 1670).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلاً وبه مهلكةٌ، ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، حتى اشتد عليه الحر والعطش، أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده)(رواه البخاري ومسلم).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:[يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور](لقمان). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين وعد عباده التائبين بالقبول والغفران، وحذر عباده العاصين من التمادي في الذنوب مع الإصرار، والصلاة والسلام على قدوتنا وحبيبنا محمد الذي كان يكثر من التوبة والاستغفار صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع سنته إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله: وإن للتوبة من الذنوب والمعاصي آثاراً طيبة على البلاد والعباد:
فمن ذلك:
أولاً: رضا الله تعالى عن العبد وحبه له:
فمن صدق في التوبة نال العفو والغفران، والرضا من الرحيم الرحمن، قال تعالى:[إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين].
ثانياً: زوال الهم والغم وحصول رقة القلب: فالواقع في الذنب صدره ضيق، مهموم مغموم، فإذا تاب من المعصية، وشعر بعظمة ذنبه أمام عظمة ربه ورجع، ورفع يديه إلى ربه سائلاً عفوه ومغفرته وتذلل بين يديه مستشعراً حقارته وضعفه، فتأوه وانكسر قلبه خوفاً من ربه وحياءً من خالقه، نال رقة وسعادة في قلبه أعظم مما وجد وهو واقع في معصية مولاه، قال عمر رضي الله عنه: (اجلسوا إلى التوابين فإنهم أرق أفئدة).
ثالثاً: رفع مقام العبد التائب عند ربه: فالتائب من الذنب يرفعه الله تعالى بتوبته وإنابته، قال صلى الله عليه وسلم عن ماعز رضي الله عنه بعد أن رجم من الزنا: (لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم)(رواه مسلم).
رابعاً: جلاء القلب من أثر الذنوب: فالقلب يقسو من الذنوب والمعاصي كما قال تعالى:[كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون]، فإذا تاب العبد زال هذا الران من قلبه فانشرح وانبسط، وشعر بحلاوة الإيمان، وُفتح عليه في تحصيل العلوم التي تكون سبباً في لذة القرب من الرحمن، قال صلى الله عليه وسلم: (إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)(مسلم).
خامساً: حصول البركات والخيرات على العباد والبلاد:
قال تعالى:[ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض..] (الأعراف)، فالخير كل الخير في لزوم طاعة الله وتقواه والسير الحثيث لطلب رضاه، فمن علم بعظمة ربه ووقع في معصيته وجب في حقه التوبة لينال الخير العظيم والبركات من الرب الكريم.
سادساً: إبدال سيئات التائب وجعلها حسنات: فمن رحمة الله تعالى أنه يقبل توبة التائبين، ويبدل السيئات حسنات لمن صدق في الإنابة إلى رب العالمين، قال تعالى: [والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون * ومن يفعل ذلك يلق أثاماً * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيما](الفرقان).
سابعاً: التوبة سبيل السائرين إلى الجنة:
قال تعالى:[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ](التحريم).
فاحرصوا بارك الله فيكم على التوبة قبل الحسرة والندم، فاليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)(رواه أحمد والترمذي، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع رقم4305)، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه أكثر من سبعين مرة)(البخاري).
فليبادر كل منا إلى رفع يديه إلى السماء طالباً العفو عما سلف من ذنوبه، راجياً رحمة ربه وخالقه، مبادراً إلى إبراء ذمته مما علق من حقوق إخوانه، سالكاً الطريق الذي يوصله إلى مرضاته وجنته.
أسأل الله تعالى بمنه وكرمه وجوده وإحسانه أن يمن علينا بالتوبة النصوح، وأن يجعلنا ممن يبادرون إلى نيل سعة رحمته، وأن يعيننا على كل عمل يرضيه عنا، وأن يغفر لنا التقصير والزلل.
اللهم اقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، واغفر ذنوبنا، واجعلنا من عبادك المقربين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً] (الأحزاب) 13-11-1428هـ