خطبة بعنوان: (صلة الأرحام).
الخطبة الأولى :
الحمد لله الذي أمر بصلة الأرحام وجعلها من واجبات الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الموصوف بالرأفة والرحمة لعامة المؤمنين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك وآله وصحبه إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله:
إن صلة الأرحام مما أمر الله بها، ووصى بها عباده المؤمنين، وحث عليها، وبيّن ما يترتب عليها من خيري الدنيا والآخرة.
كما حث عليها نبي الرحمة وبين جزاءها وثمرة الصلة، وما أعده الله للواصلين من الخير العظيم والثواب الجسيم، وما يترتب على ذلك من سعة الرزق وطول العمر والبركة في المال والولد.
اسنمع إلى قول الله تعالى واصفا بالسعادة والفلاح في الدنيا والآخرة من يصلون أرحامهم، ويقومون بحقوقهم [فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ](الروم:38).
وروى البخاري ومسلم عن أبي أيوب رضي الله عنه أن أعرابياً عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في سفر، فأخذ بخطام ناقته ـ أو بزمامها ـ ثم قال: يا رسول الله: أخبرني بما يقربني من الجنة ويباعدني من النار؟ قال: فكف النبي صلى الله عليه وسلم ثم نظر في أصحابه، ثم قال: (لقد وُفِّق أو هدي، قال: كيف قلت؟)، قال: فأعادها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم؛ دع الناقة)، وفي رواية: (وتصل ذا رحمك)، فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن تمسك بما أمرته به دخل الجنة).
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سرَّه أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه).
أيها المؤمنون:
انظروا إلى القضية الإيمانية في الواحد مع أولاده، وفي الواحد مع أسرته، وفي الواحد مع أهله، وفي الواحد في قريته، لماذا هناك حنان ورحمة وعطف في الواحد مع أولاده؟ لأن هناك صلة رحمية، هذه الصلة يجب أن تنسحب على الواحد مع أسرته، وعلى الواحد مع أهل قريته، وعلى الواحد وجميع إخوانه المسلمين.
لو أن كل واحد منا وضع خريطة لموقعه من بلده ثم عد الفقراء والمحتاجين في هذا الموقع، ثم نسب هؤلاء الفقراء إلى أهليهم وذويهم وأقاربهم فسيجد لكل فقير عشرة أقارب أو أكثر أغنياء لكن هؤلاء الأقارب قطعوا ما أمر الله به أن يوصل فاضطر هؤلاء الفقراء أن يسألوا ويتسوّلوا من أناس آخرين غير أهليهم.
إن صلة الرحم مما قصّر فيه الكثيرون في هذه الأزمان نظراً لانشغالهم بالملهيات والمغريات، وحطام الدنيا الفاني، ولذا عظَّم الله شأن صلة الرحم، ثبت في البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله).
لقد حذر الله من قطيعة الرحم وتوعد على ذلك بأشد الوعيد، ورتب على ذلك خسران الدنيا والآخرة، ثبت في البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك، قالت: بل، قال: فذاك لكِ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرءوا إن شئتم [فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ](محمد:22، 23)).
لقد شاهدنا في دنيا الواقع من تكون الدنيا سبب فراقه مع أبويه أو أحدهما نظراً لأنه أعطى أو أُخذ منه شيء من متاع الدنيا الزائل، وشاهدنا من ثارت بينهم العداوات وهم أخوة أشقاء من أجل عرض من الدنيا كيف تقطع الصلات، ويحقد الأخ على أخيه من أجل أمور تافهة، ألا يذكر هؤلاء أن ما بينهم من الصلة والمودة والقربى فوق هذا المتاع الزائل.
هل أصبحت الدنيا هي التي تجمع وتفرق، وتبعد وتقرِّب؟ هل أصبح التكاثر في جمع الأموال أقوى من النسب وصلة الأرحام؟
إن غياب العقل والاستشارة في مثل هذه الأمور يجر إلى كوارث على البيوت والأسر لا يعلم نهايتها إلا الله سبحانه وتعالى، ولذا نوصي كل من حدث عنده شرخ في أسرته أو بيته ألا يتعجل وأن يستشير أهل الرأي والعقل والعلم ليكون تصرفُه مناسباً
أما استشارة الذين يذكون نار العداوات بين الأقارب، ويضخمون الأمور، ويتعاملون بسوء النيات فأولئك ساءت نواياهم فساءت ظنونهم فأفلسوا في تصرفاتهم وآرائهم.
عباد الله:
إن من أفضل صلة الرحم أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتحلم عمن جهل عليك، وتحسن إلى من أساء إليك حفاظاً على صلة الرحم، وطاعةً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال يا رسول الله: إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلم عليهم ويجهلون عليّ، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن كنت كما قلت فكأنما تُسفَّهم الملّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم[وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ * وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ](الرعد:21ـ 25).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أعلى الناس منزلةً وأعظمهم قدراً صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
أيها المؤمنون:
بصلة الأرحام تقوى المودة، وتزيد المحبة، وتتوثق عرى القرابة، وتزول العداوة والشحناء، ويحن ذو الرحم إلى أهله، وصلة الرحم والإحسان إلى الأقربين ذات مجالات شتى، فمن بشاشة عند اللقاء، ولين في المعاملة، إلى طيب في القول، وطلاقة في الوجه، إنها زيارات وصلات وتفقد واستفسارات، مكالمة ومراسلة، إحسان إلى المحتاج، وبذل للمعروف، وتبادل في الهدايا، ينضم إلى ذلك غض عن الهفوات، وعفو عن الزلات، وإقالة للعثرات، عدل وإنصاف، واجتهاد في الدعاء بالتوفيق والصلاح، هذه مجالات الصلة ودروبها، ومع ذلك كله فإن في الناس من تموت عواطفه، ويزيغ عن الرشد فؤاده، فلا يلتفت إلى أهل، ولا يسأل عن قريب.
إن العار والشنار فيمن منحه الله جاهاً، وأحسن له رزقاً ثم يتنكر لأقاربه، أو يتعالى عليهم، بل قد يترفع أن ينتسب إليهم فضلاً عن أن يشملهم بمعروفه، ويمد لهم يد إحسانه.
أخوة الإيمان:
إن هناك من يفاصل أقاربه، ويقاطعهم بسبب كلمة سمعها، أو وشاية نقلت إليه، ويصبح هذا المسكين كالغصن الذي قطع من شجرة باسقة تمتد جذورها.
إن التبسط للناس، وبذل المعروف، وقضاء الحاجات سمةُ العلماء الراسخين الذين يصلون المؤمنين عامة وكأنهم أقارب لهم، وإن في سير الأسلاف عظةً وعبرة.
لقد أوصى زين العابدين عليُّ بن الحسين ابنه رضي الله عنهم أجمعين فقال: (لا تصاحب قاطع رحم فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله في ثلاثة مواضع).
بل إن في سير العلماء العاملين في عصرنا الحاضر خير شاهد ودليل، حدثني أحد تلاميذ العلامة عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله أنه كان يقضي حاجات الناس حتى أنه لما مات وجدوا أنه يعول أكثر من أسرة من غير أن يعلم أحد بذلك.
وهاهو سماحة شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله رحمة واسعة، كان نموذجاً فريداً في التواضع وقضاء حاجات الناس، والاستماع إلى مطالبهم وشكاواهم حتى أنك إذا جلست عنده جلسة واحدة تملّ من كثرة ترديد الكلام عليه من قبل المتحدثين لكنه يستمع بكل أدب وكأنه أصغر سناً من المتكلم، ثم يطيب خاطر من يتحدث بما يفتح الله عليه.
إن هذا النوع من الصلة مع الأقارب ومع المؤمنين يحقق التوجيه النبوي الكريم الثبت في البخاري ومسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً).
نفعنا الله بسيرة هؤلاء العلماء العاملين، وأكثر الله في الأمة من أمثالهم الذين يترسمون خطا نبيهم صلى الله عليه وسلم الذي أُمرنا بالصلاة والسلام عليه، اللهم صلي وسلم وزد وبارك على عبد ورسولك محمد وعلى آله وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين..