خطبة بعنوان:(مقارنة بين أصحاب الهمم).

السبت 4 جمادى الآخرة 1440هـ 9-2-2019م

الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، مالك يوم الدين، خلق الخلق لعبادته، فأطاعه من كتب الله له السعادة وعصاه من حرم سعادة الدنيا والآخرة. وأشهد أن لا إله إلا الله فاوت بين همم الناس وأعمالهم ولذاتهم وعقولهم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أكمل الناس همةً، وأرفعهم قدراً، وأشرفهم نفساً صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن لذة كل أحد على حسب قدره وهمته وشرف نفسه، فأشرف الناس نفسًا وأعلاهم همة وأرفعهم قدرًا من لذته في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه والتودد إليه بما يحبه ويرضاه، فلذاته في إقباله عليه وعكوف همته عليه.

ودون ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله حتى تنتهي إلى من لذته في أخس الأشياء من القاذورات والفواحش في كل شيء من الكلام والأفعال والأشغال.

والفرق كبير بين الصنفين، والبون شاسع ولو عرض على من همته عليَّة أن يتلذذ بهذه السفاسف لنفر منها وتركها والعكس صحيح، فلو عرض على الثاني التلذذ بالطاعة والتعلق بالله لنفر من ذلك والعياذ بالله.

وأكمل الناس لذة من جمع له بين لذة القلب والروح، ولذة البدن، فهو يتناول لذاته المباحة على وجه لا ينقص حظه من الدار الآخرة ولا يقطع عليه لذة المعرفة والمحب والأنس بربه والقرب منه بإخلاص العبودية له سبحانه، فهذا الصنف ممن قال الله فيهم: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( الأعراف) وأبخس الناس حظًا من اللذة من تناولها على وجه يحول بينه وبين لذات الآخرة فيكون ممن يقال لهم يوم استيفاء اللذات [أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ](الأحقاف)

فالجميع تمتعوا بالطيبات لكن الصنف المحمود تمتعوا بها على الوجه الذي أذن الله فيه، فجمع لهم بين لذة الدنيا والآخرة.

والصنف الثاني المذموم تمتعوا بها على الوجه الذي لم يأذن الله به بل دعاهم إليها الهوى والشهوة، فانقطعت عنهم لذة الدنيا وفاتتهم لذة الآخرة، فلا لذة الدنيا دامت لهم ولا لذة الآخرة حصلت لهم.

إخوتي في الله:
فمن أحب اللذة ودوامها والعيش الطيب فليجعل لذة الدنيا موصلة إلى لذة الآخرة بأن يستعين على فراغ قلبه لله فيخلص في عبادته، ويتناول ما يعرض له من ملذات الدنيا على أساس الاستعانة والقوة على الطاعة والعبادة لا لمجردة الشهوة والهوى، حتى وإن كان ممن لم يدرك لذات الدنيا وطيباتها فليجعل ما نقص منها زيادة في لذة الآخرة ويجاهد في منع نفسه منها بالترك ليستوفيها كاملة في الآخرة.

فطيبات الدنيا ولذاتها نعم العون لمن صح طلبه لله والدار الآخرة وكانت همته لما هناك وبئس القاطع لمن كانت هي مقصودة وهمته وحولها يدندن.

وفواتها في الدنيا نعم العون لطالب الله والدار الآخرة وبئس القاطع النازع من الله والدار الآخرة، فمن أخذ منافع الدنيا على وجه لا ينقص حظه من الآخرة ظفر بهما جميعًا وإلا خسرهما جميعًا.

عباد الله:
لا شيء أفسد للقلب من التعلق بالدنيا والركون إليها فإن متاعها قليل ولا تطمعوا بالإقامة فيها، فإن البقاء فيها مستحيل كيف لا والمنادي ينادي كل يوم: يا عباد الله الرحيل الرحيل، فالموت ما منه فوت ولا تعجيل، ولا يقبل الفداء ولا التبديل، فلنستعد له فإنه أقرب إلينا من حبل الوريد.

والتعلق بالدنيا وإيثارها والركون إليها يقعد المسلم عن التعلق إلى الآخرة والعمل لها وإتعاب الجسد في سبيل الله والدعوة إليه، وهيهات لقلب فاسد مريض أن يقوى على الطاعة والعبادة، والقيام بحقوق الله وحقوق الناس، والدنيا فيها قابلية الإغراء لمن تعلق بها وأحبها، ولهذا وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء)، وقد حذر الباري سبحانه من الوقوع فيها فقال تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا](فاطر)

ووجه الاغترار بالدنيا أن فيها مباهج ومناظر وملذات للأنفس والأعين والأسماع تهواها نفسه بطبيعتها وتؤثرها على ما سواها، قال الله تعالى:[بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى](الأعلى)

وقال تعالى [بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ](القيامة)
فإذا تركت النفس وشأنها زاد تعلقها بالدنيا وزاد التصاقها بها حتى تصبح هي كل غايتها ومنتهى أملها ومبلغ عملها، قال تعالى [فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ](النجم)

وعلاج ذلك كله تخليص القلب من أسرارها، وطرد تعلقه بها بأن يجعل زوالها نصب عينيه، ويجزم بلقاء الآخرة وما أعد الله فيها من النعيم المقيم لأوليائه، ويتدبر الآيات المنزلة مثل قوله تعالى:[مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً](الإسراء: ١٨ ١٩)، وقوله تعالى: [قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى](النساء)، وقوله تعالى[مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ](الشورى)

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم [إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ](يونس)

بارك الله لي ولكن في القرآن العظيم نفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي فضل الآخرة على الأولى، وأعد فيها من النعيم ما لا يحصيه إلا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن أصحاب العقول الراجحة يقارنون بين ملذات الدنيا وملذات الآخرة، وهنا يرجحون دون أدنى شك الآخرة على الدنيا، ويستصحبون معهم قطع الأمل في هذه الدنيا، ويحسون أنهم في غربة، وأنهم مسافرون عنها وعما قليل سيرحلون، وهذا الرحيل إجباري وليس اختيارياً.

وإذا وسوس لهم الشيطان وألقى في روعهم أنهم شباب وأنهم في صحة وعافية وبإمكانهم الرجوع إلى الطاعة والإقبال على الآخرة في سن متأخرة، فإنهم يطردون هذا الوسواس باستحضار الذين رحلوا شبابًا وكهولاً وهم الآن تحت الثري، ومتى وقف المسلم وقفة محاسبة وهو في المقبرة، وتذكر من عايش وفاتهم من الصغار والكبار الأغنياء والفقراء الرجال والنساء وجزم أنه بعد وقت سيثوي معهم، وهنا لا ينفعه إلا عمله الصالح، فهذا يعطيه دافعًا للعمل وزيادة الطاعة والعبادة، وهنا يتجهز للآخرة بعمل الطاعات إذ لا يدري متى ينادى عليه بالرحيل، وكلما زاد تعلق العبد المؤمن بالآخرة خفت روحه وسمت، وتلذذت بأنواع العبادة، وزهدت في الدنيا ومتاعها الزائل.

وقد أوصى الخليفة الراشد علي بن أبي طالب ابنه الحسن بقوله: (أحيِّ قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوه باليقين، ونوره بالحكمة، وذلِّله بذكر الموت، وقرره بالفناء، وبصره بفجائع الدنيا، وحذره صولة الدهر، وفحش تقلب الليالي والأيام، واعرض عليه أخبار الماضين، وذكِّر بما أصاب من كان قبلك من الأولين، وسر في ديارهم وآثارهم، وانظر فيما فعلوا وعما انتقلوا وأين حلوا ونزلوا فإنك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبة وحلوا في دار غربة، وكأنك عن قليل وقد صرت كأحدهم فأصلح مثواك، ولا تبع أخرتك بدنياك …. إلخ) الوصية الطويلة.

وهذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب)