خطبة بعنوان: (من حج فلم يرفث ولم يفسق ونجاح حج هذا العام) 14-12-1429هـ.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، الذي أسبغ على عباده كثيراً من فضله ونعمه، وأولاهم من جزيل عطاءه وبره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل في كتابه:[الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ](البقرة). وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الهادي إلى جنته ورضوانه، الذي قال في سنته (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)(رواه البخاري) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً،أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن الأمر بالتقوى وصية الله لعباده، [واتقون يا أولي الألباب](البقرة).
عباد الله: لقد منَّ الله على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بالحضور إلى مكة المكرمة ــ شرفها الله ــ لحضور مناسك الحج، والتعبد لله تعالى بتوحيده وتعظيمه والإكثار من ذكره.
وإن اجتماع تلك الملايين من الناس من كل حدب وصوب مع اختلاف ألسنتهم وألوانهم يعتبر آية عظيمة من آيات الله تدل على عظمة هذا الدين وأحقيته بسيادة العالم كله.
عباد الله: لقد ذاق حجاج بيت الله حلاوة التعبد الله وكثرة تكبيره وتهليله وذكره وشكره، ووجدوا العون منه سبحانه جل وعلا،وتيسرت أمورهم في أداء مناسكهم تيسيراً عظيماً على كثرة أعدادهم واختلاف ألسنتهم، ولقد بذلت المملكة العربية السعودية ــ أعزها الله بالإسلام ــ ممثلة في قيادتها وولاة أمرها وجميع المسؤولين عن أمور الحج والحرمين هؤلاء بذلوا جهداً كبيراً وسعياً حثيثاً في تيسير مناسك الحج لجميع الحجاج في كل مكان تطأ فيه أقدامهم، وظهر الجهد والتنظيم في جميع المناسك من أولها إلى آخرها، ورأى الحجاج سلوكيات مستقبليهم في كل مكان من التواضع والرفق والابتسامة الطيبة، واستوعبت تلك الأراضي الطاهرة الأعداد الغفيرة من الحجاج بداية من دخولهم منافذ الدخول ومرورهم بالمواقيت المحددة شرعاً حتى وصولهم إلى مكة المكرمة، وقيامهم بالتنقل بين المناسك بيسر وسهولة، ولقد رأى المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها تدفق الحجاج من كل فج عميق ليؤدوا مناسكهم تقرباً إلى الله تعالى وتلبية لندائه الكريم [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ](الحج).
ولقد رأينا من خلال موسم الحج لهذا العام مظاهر عديدة تدل على قوة ووحدة المسلمين وشدة ترابطهم. وجدنا الحجيج قد تركوا أوطانهم، وأموالهم، وأهليهم وذويهم، جاءوا راغبين في ما عند الله تعالى من الأجر والثواب. الكل بلباس واحد، ونداء واحد، وتلبية واحدة، ووجهتهم واحدة، وقبلتهم واحدة، وربهم واحد، وغايتهم واحدة، ونسكهم واحد.
وبعد إحرام الحجاج نجد نداء الحق قد علا في جنبات الميقات، نداء التوحيد، نداء الذل والخضوع، والإنابة والخشوع(لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك).
ترى الحجاج متوجهين إلى بيت الله تعالى لأداء الطواف، والسعي بين الصفا والمروة، شعارهم (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك).
وفي عرفات ترى مظاهر الانكسار، فتجد الوجوه قد توجهت إلى بارئها، رافعة الأيدي إلى مولاها وخالقها، والدموع قد انهمرت، والقلوب قد انفطرت، والأجساد قد استسلمت، تسمع منهم الحنين والأنين، والبكاء الحزين، وبكاء الفرحة بسعة رحمة رب العالمين، والانطراح بين يدي الخالق، فهم يعملون أن هذا يوم العطاء وهذا يوم المغفرة وهذا يوم العتق من النار، فكلهم يسعى للحصول على ذلك في منافسة محمودة وعمل خالق صادق.
ثم انتقل الحجاج من عرفات إلى مزدلفة ليبيتوا بها ليلهم ولترتاح أجسادهم استقبالاً لعمل آخر من أعمال الحج، وبعد ذلك انتقلوا إلى منى حاملين معهم الجمرات ليرموا جمرة العقبة قائلين (الله أكبر)، ثم يذبحوا هديهم، ليحلقوا رؤوسهم أو يقصروا، ثم توجهوا إلى بيت الله تعالى ليؤدوا طواف الإفاضة، ثم رجعوا إلى منى ليبيتوا بها أيام التشريق، وليرموا الجمرات أيام الحادي عشر والثاني عشر لمن أراد التعجل، والثالث عشر لمن أراد التأخر، ثم توجهوا بعد ذلك إلى بيت الله الحرام ليؤدوا طواف الوداع، منهين نسكهم. وهكذا ترى مظاهر الاجتماع في جميع الأنساك، وترى الترابط، وترى التعاون على الخير.
ومن خلال الحج رأينا العزيمة الصادقة على طاعة المولى جل وعلا، والندم والبُعد عن معصيته، ورأينا فيه عاطفة الحب لله ولرسوله وللمؤمنين.
وفي الحج تعلم الحجاج صفات كريمة من الصبر، وكظم الغيظ، والكرم، والبذل، والعطاء، والإيثار، والبر، والرحمة، ومعاونة المحتاجين.
وفي الحج رأينا حرص الحجاج على ذكر الله تعالى وشكره على نعمه، وتلذذهم بتكبيره، وتحميده، وتهليله، ودعائه.
وفي الحج تذكر الحجاج موقف القيامة، وما فيه من الشداد والكربات، والعرق والزحام، واختلاف الأشكال والألوان، فالكل قد خلع ملابسه، والكل يلبي، والكل يبادر إلى أداء مناسكه في تنظيم بديع، فمنهم الماشي، ومنهم الساعي، ومنهم المهرول، ومنهم الراكب، فحق على العباد أن يتفكروا في هذا اليوم ولا يغفلوا عنه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: [وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرْ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِ الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ] (الحج).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل لأمة الإسلام أزمنة فاضلة يتنافس فيها الأخيار ويبادر لها عباد الله الأطهار، والصلاة والسلام على قدوتنا وحبيبنا محمد بن عبد الله خير من بادر لاستغلال وقته فيما يعود عليه بالخير له ولأمته، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع سنته إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن التقوى خير زاد عند لقاء الله.
عباد الله: طوبى لمن كان حجه مبروراً فلم يرفث ولم يفسق ولم يجادل إلا بالتي هي أحسن واستبق إلى الخيرات، ويا بشرى من نفذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)(رواه البخاري).
عباد الله: لقد مرت أيام الحج بفضل الله ميسرة سهلة، ليس فيها شائبة ولا حزن، وأدى الحجاج مناسكهم آمنين مطمئنين على أنفسهم وأموالهم وأهليهم، والكل فرح مسرور لما رأوه من تيسير وتعاون من أبناء هذا البلد.
ولقد رأينا ورأى غيرنا شبابنا في كل مكان من مناسك الحج، تعلوهم البسمة، وتفوح منهم روح التعاون، فالكل يدٌ واحدةٌ، وأسرة واحدة، والجميع يريدون الخير لزائري بيت الله تعالى.
وقد سمعنا ألسنة الحجاج وهي تدعو لولاة أمورنا وشبابنا على هذا الجهد العظيم والتنظيم الرائع، وما كان ذلك إلا بفضل الله تعالى أولاً وآخراً، ثم بفضل جهود ولاة أمور هذه البلاد المباركة ما قدموا من خدمات للحجاج في كل منسك من مناسكه، وذلك بتوسيع مرمى الجمرات، وبناء أدوار جديدة من أجل التيسير على الحجاج، والقيام بتنظيم حركة الحجاج عند الدخول إلى الجمرات والخروج منها، وأيضاً تنظيم عملية تحرك الحجاج من مكة إلى عرفات ومن عرفات إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى، وهكذا في سائر المناسك في تخطيط وتنظيم رائع بديع يدل على المجهود الكبير الذي بذل من أجل خدمة حجاج بيت الله الحرام، ومن أجل راحتهم، ومن أجل أدائهم مناسك الحج بيسر وسهولة.
ولقد ظهر للقاصي والداني الأمن والأمان اللذان اتصف بهما الحج في هذا العام وهذا يدل على عون الله تعالى ويقظة رجال الأمن وحرصهم حيث لم يألوا جهداً في بذل ما يستطيعون من أجل إنجاح حج هذا العام.
فهنيئاً لهذه البلاد هذا التنظيم الرائع، وهذا التوفيق الكبير، ومزيداً من جهود الخير التي تيسر سبل الطاعة وتخففها على الناس.
وإنني لأرجو الله تعالى أن يكتب لولاة أمورنا وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين إلى أصغر مسؤول في أعمال الحج بما في ذلك جميع أجهزة الأمن على اختلاف قطاعاتهم وتنوع مسؤولياتهم أرجو أن يكتب لهم أجر كل حاج وحاجة حيث كانوا هم السبب في حصول الراحة والطمأنينة ولعل هذا العام في نظري أفضل عام تيسرت فيه أمور الحج ولقد قابلت أعلى مسؤول في الدفاع المدني فقال والله ما سجلت إلى هذه الساعة أدنى واقعة ولله الحمد، ويقول مع أنه في الأيام العادية تسجل أكثر من واقعة لكن هذا من رحمة الله لحجاج بيته الحرام.
أسأل الله تعالى أن يتقبل من حجاج بيته حجهم، وأن يكتب لهم المثوبة والأجر، وأن يرد حجاج بيته إلى ديارهم سالمين، وأسأله سبحانه أن يبارك في الجهود، وأن يحفظ علينا ديننا وأمننا وولاة أمورنا وعلمائنا وسائر إخواننا المسلمين من شر الأشرار وكيد الفجار، وأن يجعل هذا البلد آمناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين، اللهم عليك بمن يكيد للإسلام والمسلمين، اللهم رد كيدهم في نحورهم، واجعل الدائرة عليهم يا قوي يا عزيز.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدراراً.
اللهم أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.
اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق، اللهم أسق به البلاد والعباد واجعله زاداً للحاضر والباد.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً] (الأحزاب) 14-12-1429هـ