خطبة بعنوان: (لا تغضب) بتاريخ 27-10-1430هـ.

الأحد 5 جمادى الآخرة 1440هـ 10-2-2019م

الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أكرم المؤمنين برضاه عنهم، وعذب الكافرين بغضبه عليهم له الحمد وله الشكر وله الفضل، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله النبي الأمين والرحمة للعالمين صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد فاتقوا الله عباد الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

أيها المؤمنون: أمر الله بالتخلق بالأخلاق الكريمة ونهى عن الأخلاق السيئة، ومن أسوأ الأخلاق وأكثرها ضرراً على الأفراد والمجتمعات الغضب، فهو جماع الشر ومصدر الهلاك.
الغضب نار في الفؤاد، وجمرة في القلب، وشرر في العين، وتوتر في الأعصاب، يدفع إلى سوء التصرف، وسرعة الانتقام، يهيج صاحبه ويربك تصرفه، ويوقعه في العظائم.

كم تفرقت أسر بسبب الغضب، وكم دُمِّرت بيوت بسببه، وكم اشتعلت من أحقاد، وكم ارتكبت من معاصي، كم زُرعت بسببه الفتن، وكم حلت المحن، وهاجت النفوس، وطاشت العقول، بل وأُريقت الدماء.

كم وقعت بسببه خصومات وتعددت شكايات، كم من امرأة طلقت بسبب الغضب ولا ذنب لها إلا أن زوجها بلغ درجة الغليان في الغضب.

أيها المؤمنون: والغضب على درجات ثلاث:
1ـ هي التفريط والإفراط والاعتدال، فالتفريط يكون بفقد قوة الغضب كلها أو بضعفها، والإفراط يكون بغلبة الغضب حتى تخرج عن سياسة العقل والدين والطاعة ولا يبقى للمرء معها بصيرة ونظر واختيار، بل يصير في صورة المضطر، والاعتدال هو المحمود وذلك بأن ينتظر إشارة العقل والدين، فيحدث الغضب حين يحتاج إليه وينطفئ حين يحسن الحلم.
عباد الله: وللغضب أسباب كثيرة منها:

(1) ضعف صلة المرء بالكتاب والسنة، وعدم الإطلاع على هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الباب.
(2) قلة العقل وضيق التفكير، وفرق كبير بين العقلاء والمجانين، وبين الصغار والكبار، فمن يثور لأتفه الأسباب وأحقر الأمور فله شبه بالأطفال والمجانين، والعقلاء يمتازون بالصبر والتحمل وطلب الآخرة وانتظار الثمرة.
(3) ظروف الحياة ومتاعبها ومتطلباتها الكثيرة مما يسبب القلق والتوتر، وعلى قدر لهث الإنسان وراءها وطلبه لها بقدر ما يحصل التكدير ويعظم الغضب.
(4) التكبر والغرور بمال أو جاه أو منصب أو شهادة والمغرور سريع الغضب لا يتحمل أدنى زلة من الآخرين، بل إنه لا يسمع نصحاً ولا يقبل رأياً.
(5) الشعور بالنقص قد يدفع المرء للغضب لأنه يشعر بالقصور والضعف فيعوض ذلك بالغضب لئلا يكتشفه الناس.
(6) ومن أهم الأسباب التي تجلب الغضب إثارة النعرات، والعصبيات، والقوميات، والحزبيات، والولاءات، والانتماءات، فكل ذلك يدفع للانتقام والتعالي ويشتد الغضب ويعظم، وقد يقع هؤلاء بالمهالك.
(7) وتختص النساء بالغيرة الشديدة التي تجعل المرأة سريعة الغضب فتنقلب حياتها إلى جحيم، وقد تشرك زوجها في هذا الأمر فتكون سبباً لهدم بيتها وتفريق أسرتها.
عباد الله: وكل داء له دواء، والغضب له علاج سهل ميسور لمن وفقه الله له، لكن لابد من الصبر والمصابرة، والتعاون على الخير، ومن أهم ما يسكن الغضب ويعالجه ما يأتي:

(1) أن يذكر المرء ربه جل وعلا وقدرته عليه في سائر أحواله.
(2) أن يتذكر المرء ما أعده الله لمن كظم غيظه وعفى عن الناس وصفح عنهم، قال تعالى [فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ..]، وقال تعالى [وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ].
(3) كثرة الاستعاذة من الشيطان الرجيم، وصدق الله العظيم [وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُو السَمِيعٌ عَلِيمٌ].
(4) الوضوء: وهو من أنفع العلاجات السريعة للغضب، وقد وجه به رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول (إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ).
(5) تغيير المكان والهيئة التي يكون عليها الإنسان والسكوت وعدم الكلام قال صلى الله عليه وسلم: (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإذا ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع)، وقال صلى الله عليه وسلم (وإذا غضب أحدكم فليسكت).
(6) تذكر ما يؤول إليه الغضب من الندم فقد يُهلِك نفسَه بسبب غضبه وقد يهدم بيته وقد يظلم أحداً من الخلق.
(7) الترفع عن مجالس الجهال والسفهاء وعدم مجاراتهم بالكلام لأنه يقود إلى الغضب الذي قد يحدث معه من الأقوال والأفعال الخطيرة ما يفسد على المرء دينه وأحواله الخاصة والعامة.
فاجتهدوا رعاكم الله في مدافعة الغضب والابتعاد عن الأسباب الجالبة له واحرصوا على علاجه في بدايته قبل أن يستفحل فيحدث ما لا يحمده الإنسان وصدق الله العظيم: [وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم فاستغفروا الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي مدح الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس وأشهد أن لا إله إلا الله ندب إلى دفع الكلمة السيئة بالتي هي أحسن وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله أحسن الناس كلاماً وأبلغهم بياناً وأصفاهم قلباً وأكرمهم خلقاً لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن للغضب أضراراً وآثاراً خطيرة على الأفراد والمجتمعات ومن هذه الأضرار:

(1) فيه إغضاب للرحمن وإرضاء للشيطان.
(2) يسبب التقاطع وإفساد ذات البين.
(3) يتولد منه الحقد والحسد وهذا نقص في عقل المرء ودينه.
(4) لا يستفيد صاحبه من الموعظة والتوجيه.
(5) يؤثر على بدن الإنسان وقد يصل به إلى أن يعمي بصره ويصم أذانه ويخرس لسانه ومن الناس من يموت بسببه.
(6) ينفر الناس عمن كثر غضبه ويبتعدون عنه لما ينالهم منه من الأذى القولي والفعلي.
أيها المؤمنون واعلموا أن هناك غضباً محموداً ينبغي أن يبادر إليه المسلم ويحرص عليه.
وذلك حين تنتهك محارم الله قال تعالى: [وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي..]

وقال تعالى: [وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ…]
وقال تعالى: [وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ..]
وكان رسولنا صلى الله عليه وسلم لا يغضب إلا إذا انتهكت محارم الله ولم يغضب لنفسه قط تقول عائشة رضي الله عنها رخَّص رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر فتنزه عنه أناس فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتد غضبه وظهر ذلك على وجهه ثم قال: ما بال أقوام يرغبون عما رخص لي فيه).

عباد الله: أرأيتم كيف يكون الغضب دافعاً للشر مانعاً من الخير ولذا حذر منه الإسلام تحذيراً عظيماً واستمعوا رعاكم الله إلى هذه التوجيهات من سلف الأمة حيث أكثروا من التحذير من الغضب وتوجيه الناس للابتعاد عنه.

قال بعضهم (إياك وشدة الغضب فإن شدة الغضب مفسدة لفؤاد الحكيم).
وقال بعضهم (الغضب مفتاح كل شر).

ولله در ابن القيم رحمه الله حيث يقول: (دخل الناس النار من ثلاثة أبواب: باب شبهه أورثت شكاً في دين الله وباب شهوة أورثت تقديم الهوى على طاعته ومرضاته وباب غضب أورث العدوان على خلقه).

وقال بعض السلف: (من أطاع شهوته وغضبه قاداه إلى النار)
اللهم جنبنا الغضب واعصمنا من الزلل، اللهم اجعل غضبنا رحمة على غيرنا وغيرة لحرماتك.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين. اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.

اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، ويسر لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثا مغيثا، سحا طبقاً، عاجلاً غير آجل، تسقي به البلاد وتنفع به العباد، وتجعله زاداً للحاضر والباد.

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
الموافق: 27-10-1430هـ