خطبة بعنوان: (حصاد العام) 1-1-1431هـ.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلقه لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله للثقلين هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واغتنموا فرصة العمر فقد خلق الله الليالي والأيام وجعل الحياة مراحل نقطعها إلى الدار الآخرة فهي محطات تتزود منها وخزائن نضع فيها الأعمال أقلها الثواني وأكثرها الأعوام.
عباد الله ونحن في أول يوم من العام الجديد عام 1431هــ وقد ودعنا عاماً كاملاً مضى بآماله وآلامه وحسناته وسيئاته وأفراحه وأتراحه وكل غائب سيعود وكل مفقود يسترد إلا العمر المنصرم والزمن المنقضي فمهما بذل الإنسان لن يعود له ثانية واحدة وكيف يعود وما من يوم ينشق فجره إلا وينادي ويقول يا ابن آدم أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد فاغتنمني بعمل صالح فإني لا أعود إلى يوم القيامة.
قال بعض السلف: (يا ابن آدم إنما أنت أيام كلما ذهب يومك ذهب بعضك).
وكان بعض السلف إذا غربت الشمس من كل يوم جلس عند باب داره يبكي وإذا سئل عن سبب بكائه أجاب (قطعت يوماً من حياتي إلى دار الآخرة ولا أدري أهي خطوات إلى الجنة أم أنها خطوات إلى النار).
إن كل شيء عملناه في عامنا المنصرم مسجل علينا ومكتوب فإذا كنا نسينا فالملائكة يدونون والحفظة يكتبون قال تعالى: [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]( سورة ق الآية 18)، وقال تعالى: [ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً* اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً] (الإسراء الآية 13، 14).
فالشهود من العباد أنفسهم لأن الجوارح ستشهد بما فعلت في موقف يختم الله فيه على الأفواه [الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] (يس الآية65).
وتنطق الأعضاء من الإنسان كل عضو يخبر عما فعل وهنا لا مجال للإنكار أو التحايل أو الكذب لأنه اعتراف صريح أمام الحكم العدل وصدق الله العظيم: [حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ] (فصلت الآية 20، 21).
كم مضى من الأعمار من أيام وأسابيع وشهور وفي كل لحظة منها أو دعنا عملاً سيكون لنا أو علينا وصدق الله العظيم: [يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً] (آل عمران الآية 30).
عباد الله ألا ترون كيف يبدو القمر صغيراً ثم ينمو ويكبر حتى يكتمل بدراً ثم يبدأ في النقص حتى ينتهي وهكذا عمر الإنسان.
وهكذا الليل والنهار يقبلان ويدبران ويتعاقبان وتلك إشارة إلى أن لكل شيء بداية ونهاية وأن كل شيء في هذه الدنيا سيزول ولا يبقى إلا الخالق العظيم وصدق الله: [كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ] (الرحمن الآية 26، 27).
عباد الله ليس من العقل والإنصاف والحكمة أن يفرح شخص يومُه يهدِم شهرةَ وشهرُه يهدم عامَه وعامُه يهدم عمرهَ وكيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله وتقوده حياته لموته وكيف يفرح العقلاء والدنيا قد ارتحلت مدبرة والآخرة قد ارتحلت مقبلة ولكل واحدة من الدنيا والآخرة بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل.
إننا أيها المؤمنون قد ودعنا عاماً كاملاً وها نحن في هذه الجمعة نستقبل عاماً جديداً فلنستفد من الدروس والعظات فالسعيد من يستفيد من دروس الحياة وعبر الأيام ومما يتأكد علينا في مطلع عامنا الجديد ـــ جعله الله عام خير وبركة على البلاد والعباد ــــ ما يأتي:
1) الثناء على الله وحمدهُ وشكرهُ أن مد في أعمارنا ووفقنا لبلوغ هذا العام الجديد قال صلى الله عليه وسلم (خير الناس من طال عمره وحسن عمله وشر الناس من طال عمره وساء عمله).
2) التوبة الصادقة النصوح وصدق الإقبال على الله والطمع فيما عنده وقد فتح الله بابه للتائبين وصدق الله العظيم: [قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ] (الزمر الآية 53)، وقال تعالى: [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى] (طه الآية 82).
والله جل وعلا يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل بل أن ربنا جل وعلا يفرح بتوبة التائبين ورجوع المذنبين وإنابة الخائفين الراجين أشدَّ من فرح من تعود له راحلته التي عليها طعامه وشرابه بعد أن فقدها.
3) الاتعاظ بسرعة انتهاء العام فكأنه بدأ بالأمس مرت أيامه كلمح البصر والناس منشغلون في أعمالهم وكل إنسان يختار مستقبله حسب عمله والغبن في ذلك عظيم وصدق رسولنا صلى الله وعليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ) رواه البخاري.
وصدق الله العظيم: [تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً *وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً](الشعراء الآية 61، 62).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل الدنيا دار ممر والآخرة دار مقر وأشهد أن لا إله إلا الله جعل هذه الحياة مراحل نطويها في طريقنا إلى الآخرة وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خير من عبد الله حق عبوديته فكان عبداً شكوراً صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون واعلموا أن من الدروس التي نستفيدها في مطلع عامنا الجديد.
4) الاتعاظ والاعتبار بما يمر علينا من الآيات اليومية والشهرية والسنوية من الليل والنهار والشمس والقمر والصيف والشتاء وكل هذه الآيات تؤذن بانتهاء الدنيا وزوالها وأنها مراحل نقطعها إلى الدار الآخرة.
5) الاتعاظ والاعتبار بالوقائع التي وقعت في هذا العام من المواليد والوفيات والفتوه والهرم والصحة والسقم والغنى والفقر والعز والذل والهزيمة والانتصار والهداية والضلال فكم من إنسان صحيح طوقته الأسقام، وكم من إنسان عليل عافاه الله ما بين طرفة عين وانتباهتها، وكم من إنسان صحيح وافاه أجله من غير استعداد وكم من إنسان غني في الليل أصبح وقد كبله الفقر، فيا لها من عبر عظيمة لمن يستفيد ويتعظ قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: (اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ : شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ ، وَحَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ) رواه النسائي في السن الكبرى.
6) محاسبة النفس والنظر في ميزانية الأيام والأعمال فما الذي أودعناه في عامنا الماضي وما الذي سيكون لنا منها أليس أهل التجارات يحسبون أرباحهم وخسائرهم في نهاية كل يوم وكل شهر وكل عام أليست ميزانية الأعمال أحق بالحساب الدقيق من ميزانية الأموال.
انظر أخي المبارك في ميزانية أعمالك من صلاة وصيام وصدقة واستغفار وعمل صالح وانظر في أرباحك خلال العام الماضي واجتهد في مضاعفة الربح للعام القادم.
أيها المؤمنون إن العاقل الحصيف من الناس من يستفيد من حياته ويوظف أيامه في طاعة الله ولقد كان سلفنا الصالح قمة في هذا الباب ولذا تنوعت وصاياهم وعظم خوفهم على أنفسهم وغيرهم، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه (أخوف ما أخاف عليكم خصلتين طول الأمل وإتباع الهوى).
وقال الحسن رضي الله عنه: (ابن آدم إنما أنت بين مطيتين يوضعانك بوضعك النهار إلى الليل والليل إلى النهار حتى يسلمانك إلى الآخرة فمن أعظم منك يا ابن آدم خطراً).
وكتب بعض السلف إلى أخ له (ما مضى من عمرك فليس بكارٍّ عليك حتى يكرُّ عليك يوم التغابن).
فاعملوا رحمكم الله في هذه الدار ما دمتم في سعة قبل الرحلة الحتمية وبادروا بالعمل الصالح قبل فجأة الموت وحسرات الفوت وضيق المضجع وهول المطلع والموقف للحساب والمرور على الصراط.
هذا وصلوا وسلموا على من كان سبباً في هدايتكم لهذا الدين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين.
اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا اللهم أدم علينا نعمة الصحة والعافية.
اللهم من أرادنا أو أراد بلادنا أو ولاة أمرنا بسوء اللهم فأشغله بنفسه ورد كيده إلى نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدراراً.
اللهم أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.
اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق، اللهم أسق به البلاد والعباد واجعله زاداً للحاضر والباد.
[رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]
عباد الله [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ](النحل: الآية 90). ـ وأقم الصلاة ـــ.
الجمعة: 1-1-1431هـ