خطبة بعنوان: (حول رحيل العلماء وفاة الشيخ عبد الله بن غديان) – خطبة الجمعة بتاريخ 21-6-1431هـ – أ.د عبدالله بن محمد الطيار

الأحد 5 جمادى الآخرة 1440هـ 10-2-2019م

الخطبة الأولي
الحمد لله الذي كتب الفناء على جميع الخلائق إنسها وجنها قال تعالى: [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ](آل عمران الآية 185)، وأشهد ألا إله إلا الله المتفرد بالبقاء والدوام وحده دون سواه القائل: [كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ] (الرحمن الآيتان26، 27)، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الذي ذاق طعم الموت كغيره من البشر القائل وهو يمسح العرق عن جبينه: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ إِنَّ لِلْمَوْتِ لَسَكَرَاتٍ) صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله وراقبوه ولازموا طاعته وامتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه وفي ذلك صلاح العاجل والآجل والمعاش والمعاد.
واعلموا رحمكم الله أن الله اختص من خلقه من أحب فهداهم للإيمان ثم اختص من سائر المؤمنين من أحب فتفضل عليهم فعلمهم الكتاب والحكمة وفقههم في دين الله وعلمهم التأويل وفضلهم على سائر المؤمنين وذلك في كل حين رفعهم بالعلم وزينهم بالحلم بهم يعرف الحلال من الحرام والحق من الباطل والضار من النافع فضلهم عظيم ونفعهم جليل هم ورثة الأنبياء وقرة عيون الأولياء الحيتان في البحر تستغفر لهم والملائكة تضع أجنحتها لهم يشفعون بعد الأنبياء هم أفضل الناس حياتهم غنيمة وموتهم مصيبة هم سراج البلاد ومنار العباد وقوام الأمة وينابيع الحكمة هم غيظ الشيطان هم غصة في حلوق أهل الفجور والنفاق بهم تحيا قلوب العباد هم في الأرض كالنجوم في السماء يُهتدى بهم في ظلمات البر والبحر.

عباد الله موت العلماء مصيبة وأي مصيبة أنها مصاب للأمة جمعاء لأنهم مصابيح الدجى وعلامات الهدى هم كالشمس في النهار ، والعافية للبدن.
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا) (رواه البخاري).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (هَلْ تَدْرُونَ مَا ذَهَابُ الْعِلْمِ ؟ قلنا: لا، قَالَ : ذَهَابُ الْعُلَمَاءِ) (رواه الدارمي).
يقول الإمام أحمد (الناس أحوج للعلم منهم إلى الطعام والشراب لأن الطعام والشراب يحتاج إليه مرتين أو ثلاثاً والعلم يحتاج إليه في كل وقت).

أجل أيها المؤمنون إذ انظرنا في صفحات التاريخ رأينا صفحات مشرقة وسيرة عطرة ومآثر ندية لعلماء الإسلام الأعلام كيف كانت حياتهم وكيف ضحوا بمهجهم وأفنوا أعمارهم في العلم والتعليم ونفع الناس ورغم أن هؤلاء قد رحلوا إلى الدار الآخرة كغيرهم ممن رحلوا عن الدنيا إلا أن ذكرهم باق والذكر للإنسان عمر ثان فمازلت أنهار هؤلاء العلماء جارية وينابيعهم صافية يستقي منها الظمآن ويرتوي منها العطشان وهؤلاء هم علماء الأمة الصادقون العاملون في كل عصر ومصر.
عباد الله لقد ودعنا شيخنا العلامة الشيخ عبد الله الغديان وهذه سنة الله في خلقه فالدوام والبقاء لله وحده وشيخنا أحد العلماء القلائل الذين تفرغوا للعلم وقضوا حياتهم كلها في العلم والتعليم والفتيا والتدريس.

لقد كان شيخنا طوداً شامخاً في العلم والزهد والتقى كان خفياً لا يكاد يعرف في المجلس من زهده وورعه سار على منهج السلف الصالح في إتباع الحق والعمل بالكتاب والسنة قرن العلم بالعمل والفكر بالسلوك تجلى في حياته العطاء المتميز والإسهام الفاعل والمدد الوافر في ميادين العلم والتوجيه والتدريس والفتيا.
سألته رحمه الله قبل خمس وثلاثين عاماً عن أمر معين ثم كررت عليه السؤال العام الماضي فما اختلف كلامه ولا تغير بل كان الجواب هو نفس الجواب وهكذا العلماء الربانيون منهجهم ثابت والناس من حولهم هم الذين يتغيرون وتتغير آراؤهم حسب عواطفهم وتأثيرات من حولهم عليهم.

في آخر لقاء له في هذه المحافظة جلست معه جلسة خاصة كانت مليئة بالتوجيه يوصي بنفع الناس والضبط في الفتوى ومشاورة أهل العلم والسير على منهجهم وعدم الاعتداد بالرأي يلح على استمرار الدروس والعناية بالمتون ومواصلة التدريس في الجامعة والمسجد ويقول إن ذلك هو حياة العالم وطالب العلم.
عباد الله وليس المهم عند فقد العلماء أن تكثر المقالات والقصائد وأن يظهر أثر فقدهم على المجتمع شكوىً وتوجعاً ولكن المهم هو ترسم الخطى والسير على المنهج فكم نحن بحاجة إلى سلامة القلوب ومحبة الخير للآخرين والبعد عن الاحتقار والتقليل من شأن الغير وكم نحن بحاجة إلى العدل والإنصاف في التعامل مع الآخرين.

ولا سيما العلماء وطلاب العلم وكم نحن بحاجة إلى التواضع للناس وبسط النفس لهم دون تضييع للأوقات وكم نحن بحاجة إلى الجد في التحصيل ومواصلة الليل بالنهار من أجل أن نسلك الطريق الذي سلكه هؤلاء الشوامخ من العلماء وكم نحن بحاجة إلى زكاة العلم وبذله نصحاً وتوجيهاً وتربية وتعليماً كل حسب طاقته ووسعه وحسب ما يتاح له من وسائل.
اللهم اغفر لشيخنا وارفع درجته في المهديين وأفسح له في قبره ونور له فيه وأخلفه في عقبه، وصدق الله العظيم: [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ] (آل عمران الآية 185).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله المتوحد بالعظمة والجلال المتصف بصفات الكمال وأشهد ألا إله إلا الله الكبير المتعال وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الذي أنقذ الناس من الضلال والهادي إلى أشرف الخصال صلى الله عليه وآله وسائر الأصحاب والآل وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن المهم عند فقد العلماء هو ترسم منهجهم والسير على طريقهم ولو دققنا في منهج شيخنا وإخوانه العلماء السابقين واللاحقين لو جدنا أن معالم هذا المنهج تتضح فيما يأتي:

1) العلم الصحيح المستمد من الكتاب والسنة فعلماؤنا أبعد الناس عن البدع والتعصب وأحراهم بالدليل وقد ظهرت بركة علمهم على الأمة في شتى مجالات الحياة.
2) الفتوى عندهم ليست مقصورة على وقت دون وقت أو علم دون علم بل يفتون في كل وقت في المسجد والشارع والبيت ومكان العمل عبر الهاتف والصحيفة والإذاعة والمراسلة وفتواهم في شتى مجالات الحياة من العبادات والمعاملات والأخلاق والسلوك وجميع النوازل في عصرهم يجدون لها حلاً حسب النصوص الشرعية دون إفراط أو تفريط.
3) لقد تحققت فيهم الولاية المنشودة لعمق إيمانهم وثبات مبادئهم والله جل وعلا يقول: [أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ](يونس الآيات62، 63، 64).
4) جعل الوقت كله عبادة لله مداومة على الذكر وجلوساً للتعليم وقياماً لليل وتلاوة للقرآن وقضاء لحاجات الناس.

5) إخلاص صادق ونصح ومتابعة قال الله تعالى: [قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ] (الأنعام الآيتان162،163).
وقال تعالى: [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ](فصلت الآية 33).
وهكذا من يريد سلوك منهج هؤلاء العلماء لا بد أن يتميز بالصدق والصراحة والنصح لكل أحد.
6) الزهد في الدنيا والبعد عن فتنها فكم تعرضت لهم الدنيا وحاولت كسب ودهم ولكنهم رفضوها ورغبوا فيما عند الله فأتتهم راغمة ومكنتهم من نفسها يأخذون منها ما يشاؤون ويدعون ما يشاؤون.
أيها المؤمنون الصدق مع الله والنصح لعباد الله والزهد في الدنيا يجعل المرء عظيماً عند الناس فمن أحبه الله نادى جبريل أني أحب فلاناً فأحبه ثم ينادي جبريل في أهل السماء والأرض إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيوضع له القبول في الأرض.
أسأل الله بمنه وكرمه أن يوفقنا للسير على منهج علماءنا وأن يجمعنا بهم ووالدينا في جنات النعيم.

وأن يغفر لشيخنا وأن يجزيه عنا وعن الإسلام والمسلمين خير ما جازى عالماً عن أمته وبلده اللهم نور له قبره اللهم ارحمه تحت الأرض، اللهم ارفع درجاته في المهديين، اللهم بوءه الفردوس الأعلى، اللهم اجمعنا به في الجنة، اللهم اجزه عنا وعن المسلمين خيرا، اللهم اخلفه في عقبه، اللهم اجعل البركة في أبنائه وطلابه ومن حمل علمه يا ذا الجلال والإكرام.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فصلوا عليه وسلموا ولا سيما في هذا اليوم الفاضل اكثروا من الصلاة فيه على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم صلي عليه بعدد ذرات التراب اللهم صلي عليه بعدد ما كان وما يكون وما سيكون.
اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين.
اللهم وفق شبابنا للخير، اللهم خذ بأيديهم لما فيه خير البلاد والعباد.
اللهم وفق ولاة أمر المسلمين عامة للحكم بكتابك والعمل بسنة نبيك، ووفق ولاة أمرنا لكل خير.
اللهم إنا نسألك بمنك وكرمك أن تحفظ علينا ديننا وأمننا ورغد عيشنا واجتماع كلمتنا يا أرحم الراحمين.
[رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]
عباد الله [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ]. (النحل الآية 90، 91 ).
أقم الصلاة.
الجمعة :21-6-1431هـ