خطبة بعنوان: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) بتاريخ 25-10-1432هـ.

الأثنين 6 جمادى الآخرة 1440هـ 11-2-2019م

 

الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ](آل عمران: الآية102).

أيها المؤمنون والمؤمنات: يقول الله جل وعلا في كتابه العزيز {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا..}(النحل، 18 إبراهيم: 34)، قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: يُخْبِرُ تعالى عَنْ عَجْزِ الْعِبَادِ عَنْ تَعْدَادِ النِّعَمِ فَضْلا عَنِ الْقِيَامِ بِشُكْرِهَا، كَمَا قَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّ حَقَّ اللَّهِ أَثْقَلُ مِنْ أَنْ يَقُومَ بِهِ الْعِبَادُ، وَإِنَّ نِعَمَ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصِيَهَا الْعِبَادُ.
وإن من نعم الله تعالى علينا ما نعيشه ونتقلب فيه بين نعمة الأمن والأمان، والسلامة والإسلام، ورغد العيش، وتيسر سائر أمور حياتنا، هذه النعم التي لا نجدها أو نجد شيئًا منها في كثير من بلدان العالم، وبالأخص نعمة الإسلام بعقيدته السليمة الصحيحة الخالية من الشرك والبدع، ونعمة الأمن التي نشعر بها، ويشعر بها كل من جاء إلى بلادنا الحبيبة والتي حباها الله تعالى من بين بلدان العالم بتلك الخصائص العظيمة.

نعم يا عباد الله؛ إن نعمة الأمن من أجل النعم وأعظمها، لأنها نعمة ارتبطت بقيام هذه البلاد على تحكيم شرع الله تعالى في سائر شؤونها ومجالاتها، ومحبة ولاة الأمر والعلماء، وقيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر العلم الشرعي، والتناصح، والترابط والتكافل بين أبناء هذا الوطن.
وإذا نظرنا إلى ما حولنا من سائر بلدان العالم، رأينا كثرة الفتن والشرور، والمحن والابتلاءات، فهناك بلدان تعاني من ويلات الحروب، وهناك بلدان تعاني من تسلط الظلمة على رقاب العباد، وهناك بلدان تعاني الفقر والجوع والجفاف، وهناك بلدان تعاني من انعدام الأمن والأمان، وهناك بلدان تعاني من الزلازل والفيضانات والكوارث، وهناك بلدان تعاني من التفرق والتشرذم والتقاتل والتشاحن، إلى آخر المآسي
والويلات التي يعيشها كثير من المسلمين، وإذا قارنا ذلك بما نحن فيه من النعم علمنا مدى عظمة تلك النعم الكثيرة التي نتقلب فيها ليل نهار. وتأملوا معي قول الله تعالى:{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (القصص:57)، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية: أولم نجعلهم ممكنين في حرم يكثره المنتابون ويقصده الزائرون، قد احترمه البعيد والقريب، فلا يهاج أهله، ولا ينتقصون بقليل ولا كثير. والحال أن كل ما حولهم من الأماكن، قد حف بها الخوف من كل جانب، وأهلها غير آمنين ولا مطمئنين، فَلْيَحْمَدُوا ربهم على هذا الأمن التام، الذي ليس فيه غيرهم، وعلى الرزق الكثير، الذي يجيء إليهم من كل مكان، من الثمرات والأطعمة والبضائع، ما به يرتزقون ويتوسعون. ولْيَتَّبِعُوا هذا الرسول الكريم، ليتم لهم الأمن والرغد. وإياهم وتكذيبه، والبطر بنعمة الله، فيبدَّلوا من بعد أمنهم خوفا، وبعد عزهم ذلا وبعد غناهم فقرا، ولهذا توعدهم بما فعل بالأمم قبلهم، فقال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا} لتوالي الهلاك والتلف عليهم، وإيحاشها من بعدهم.
لذا وجب علينا يا عباد الله أن نشكر تلك النعم بدوام الحرص على طاعة الله تعالى، والقيام بحقه، والتمسك بشرعه، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
عباد الله: إن بلادنا المملكة العربية السعودية التي نعيش فيها لها حق عظيم على كل من نشأ فيها وترعرع بين أحضانها، وأكل من طعامها، وشرب من مائها، وعاش بين أهلها، وارتبطت فطرته بها، فمن حقها عليه أن يحبها ويواليها، ويذب عنها، ويجتهد في رفع شأنها، لا سيما أن هذا الوطن متمسك بشرع الله تعالى، ويطبق سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويقوم بحدوده، فهو أغلى الأوطان، وأحبها إلى النفوس المؤمنة.
لقد عاش الآباء والأجداد في ربوع تلك البلاد وهم على طاعة وصلاح وتقوى، ففتح الله عليهم من بركات السماء والأرض، فشكروا تلك النعم، وحرصوا على كل ما يكون سبباً في حفظها ودوامها، فنالوا ببركة الطاعة كل خير وعز وتمكين، فاحرصوا على اتباع سبيل الصالحين تدوم لكم النعم وتنالوا كل خير في الدنيا والآخرة.

ولقد ذاقت بلادنا قبل توحيدها ويلات الفرقة والخلاف، وحل الخوف بدل الأمن، لكن الله تعالى أبدلها بعد توحيدها عزاً وتمكيناً وأمنا وارفاً، ورغد عيش نتفيأ ظلاله ولله الحمد والمنة، كل ذلك بسبب تحكيم شرع الله في هذه البلاد، وتلاحم علمائها وسائر أفراد شعبها مع ولاة أمرهم، فنسأل الله أن يزيدنا من فضله، وأن يتم على هذه البلاد أمنها وأمانها، وأن يحفظ علينا النعمة، وصدق الله العظيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}(الأنفال).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون واعلموا أن سعادتكم مرتبطة بأداء ما يرضيه والبعد عما يسخطه وهنا تجمعون بين خيري الدنيا والآخرة.
عباد الله: إن الشريعة الإسلامية جاءت بالحث على ربط المسلم كفرد بمجتمعه وأمته، والمواطن الصالح هو الذي يوالي من أجل عقيدته، وقيمه ومبادئه؛ ويتمثل ذلك في محبته لمجتمعه، وحرصه عليه، وتفاعله مع جميع أفراده وخاصة عندما يكون هذا الوطن وطناً معتزاً بدينه وعقيدته.
والمسلم يكون ولاؤه أولاً وآخراً لله تعالى ولدينه ولنبيه صلى الله عليه وسلم، ويتمثل ذلك بعبوديته لربه، واتباع شرعه، وإخلاصه له في كل عمل يقوم به.
ثم ينتقل بعد ذلك ولاؤه إلى إخوانه من المسلمين، وذلك بالتعاون معهم في اتباع المنهج الحق، والقيام به، والتناصح من أجله، والعمل على نشره، ورفع قدره بين الناس. وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حينما أخرجه قومه من بلده التي نشأ بها، وترعرع بين جنباتها حزن أشد الحزن فقال وهو يغادرها (مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ)(رواه الترمذي).
عباد الله: إن بعض الناس يتشدقون بحبهم لوطنهم، ويعلنون ذلك بأقوالهم، ولكنك إذا نظرت إلى أفعالهم وجدتها تخالف ذلك أشد المخالفة، بل يعتبر هؤلاء عالة عليه، وآلة هدم في بنائه، وهذا هو الحب الزائف. إن محبة الوطن ليست أقوالاً تقال، أو شعارات ترفع، إنما هي أفعال تبرهن على صدق قائلها.

ومن أحب وطنه صادقاً ظهر ذلك جلياً من خلال ما يقوم به من بذل وعطاء، وجهد وبناء في سبيل إعلاء مكانة وطنه، ونشر العدل بين ربوعه، وبذل قصارى جهده في سبيل إعزازه ونصرته ورفع شأنه وحفظ مقدراته، ونشر إيجابياته، وستر عيوبه، والعمل على حفظ أمنه من كل من يريد به الشر والأذى.
إن المواطنة الصالحة التي يقرها الإسلام هي التي تكون مرتبطة بالدين، متعلقة بالعقيدة، مستقاة من شريعة رب العالمين، والتي تكون عاملاً قوياً يدفع المواطن أن يؤدي الواجبات التي عليه بطيب نفس، ويبذل طاقته وجهده في سبيل رفعة هذا الوطن. فاحرصوا يا عباد الله على حفظ نعم الله عليكم بدوام شكرها، والقيام بحقها، واحفظوا لبلادكم حقها، وكونوا قدوة للعالمين في كل خير ورشاد.

أسأل الله تعالى أن يحفظ بلادنا من كيد الكائدين وعبث العابثين، وأن يديم علينا الأمن والأمان، والسلام والإسلام إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك
فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب:56). اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداءك أعداء الدين.
اللهم وفق ولاة أمر المسلمين عامة للحكم بكتابك والعمل بسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، ووفق ولاة أمرنا خاصة للخير، اللهم خذ بأيديهم لما فيه خير البلاد والعباد يا ذا الجلال والإكرام. اللهم ارحم هذا الجمع من المؤمنين والمؤمنات اللهم استر عوراتهم وآمن روعاتهم وتقبل صالح أعمالهم، واستجب دعاءهم يا كريم. اللهم فرج عن إخواننا المسلمين في كل مكان. اللهم أنج المستضعفين والمظلومين يا جبار السموات والأراضين. اللهم انتقم من الطغاة الجبابرة، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا قوي يا متين. [رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]

عباد الله:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(النحل:90)، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
الجمعة 25-10-1432هـ