خطبة بعنوان: (الحج وفضائله العظيمة) بتاريخ 23/ 11/ 1432هـ.

الأثنين 6 جمادى الآخرة 1440هـ 11-2-2019م

 

الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه العظيم{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}(الحج:27)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتفرد بالربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله أكرم من عظم الله بإقامة شعائره العظام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا أيها المؤمنون والمؤمنات: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران:102).
عباد الله: الناظر إلى حال المسلمين في هذه الأيام يرى الذين يأتون من مختلف البلاد والجهات،تلك الجموع الوافدة عن طريق البر والبحر والجو، آمّين البيت الحرام، يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً، ملبين أمر ربهم، راغبين في أداء نسكهم، مشتاقين، راغبين، راهبين، محبين، يأملون الرضا من الرحمن الرحيم، لقد خرجتْ تلك الجموعُ ملبيةً لدعوة إبراهيمَ الخليل عليه الصلاة والسلام متضرعين مكبِّرين مهللين، فيا بشرى لهؤلاء قول الرسول صلى الله عليه وسلم:(الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ، وَفْدُ اللَّهِ، دَعَاهُمْ، فَأَجَابُوهُ، وَسَأَلُوهُ، فَأَعْطَاهُمْ)(رواه ابن ماجة). لقد تكفل الله بحفظ وسلامة تلك الحشود الوافدة إلى بيتِه الحرام التي أتت لتأدية مناسك الحج، لأنهم خرجوا لطاعته، وتلبية لندائه، قال صلى الله عليه وسلم:(ثلاثة في ضمانِ الله: رجلٌ خرج إلى مسجد من مساجد الله، ورجل خرج غازياً في سبيل الله، ورجل خرج حاجًّا)(أخرجه الحميدي، وصححه الألباني في الصحيحة (598).

وعندما تلبي تلك الوفود بنداءِ التوحيد:(لبيك اللهم لبيك) فإنَّ المدر والأحجار والأشجار تلبي معهم، قال صلى الله عليه وسلم:(ما من مسلمٍ يلبِّي إلاّ لبَّى من عن يمنيه أو عن شماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرضُ من ها هنا وها هنا)(أخرجه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1134)، فيا لها من نعمة عظيمة أن تعلم أن كل الجمادات من حولك تلبي معك وأنت في طريقك إلى بيت الله الحرام.

عباد الله: الحج ركن من أركان الإسلام وأحد مبانيه العظام، وهو شعيرة من شعائر الدين العظيمة الظاهرة، افترضه الله على عباده مرة واحدة في العمر لمن استطاع إليه سبيلا، قال تعالى{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}(البقرة:197)، ومن تركه تهاوناً فهو على خطر، لقول عمر رضي الله عنه:( لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ رَجَالًا إِلَى هَذِهِ الْأَمْصَارِ، فَلْيَنْظُرُوا إِلَى كُلِّ رَجُلٍ ذِي جَدَةٍ لَمْ يَحُجَّ، فَيَضْرِبُوا عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ، مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ، مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ)(السنة لأبي بكر الخلال)، فعلى كل مسلم أن يحرص على أداء فريضة الحج وخاصة من لم يؤده أبداً إن استطاع إلى ذلك سبيلاً.
عباد الله: لقد أخبرنا حبيبنا صلى الله عليه وسلم أن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، فيا لها من سلعة غالية لا ينالها الكسالى والمفرطون.
فيا من اشتاقت نفسُه لهذا الأجر العظيم والثواب الجزيل، بادر لتلبية نداء ربك، واترك هذه الدنيا وراء ظهرك فإنك عما قريب راحل وتارك لها.

عباد الله: الحجُّ المبرورُ يتطلَّب منا إخلاص العمل لله، فمن خرج من بيته متطلِّعاً إلى المدح والثناء والسمعةِ اختل عمله وضاع ثوابه، قال الله جل وعلا في الحديث القدسي:( أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ)(رواه مسلم).
وإن من البرِّ في الحج أن يجتهد العبد في موافقة هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ويبتعد عن مخالفته، لقوله صلى الله عليه وسلم:(لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ)(رواه مسلم)، وبعض الحجاج يتساهلون في أداء بعض الواجبات، وهذا الأمر فيه خطورة عظيمة، فربما يؤدي ذلك إلى فساد تلك الفريضة العظيمة، وأما من قصر في بعض السنن فهو معذور، وإن كان الأكمل له أن يأتي بما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته.
عباد الله: ومن البر في الحجّ الانقياد لأوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، مع حسن الاتباع فيما لم يُكشف عن معانيه ولو لم تُعلم الحكمة فيه، فقد ورد أن عمر رضي الله عنه قبّل الحجرَ الأسود وكان يقول:(أما والله، إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنّي رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم استلمك ما استلمتك)فاستلمه(أخرجه البخاري).
عباد الله: ينبغي على الحاج في أيام حجه أن يكثر من التسبيح والتهليل والتكبير، وتلاوةِ القرآن، مع كثرة الاستغفار، وبذل المعروف، والدعوة إلى الله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقدر الاستطاعة. وعليه أن يلتزم السكينة والخضوع والانكسار، وأن يحرص على ألا يؤذي أحداً من إخوانه المسلمين، وأن يتعاون معهم على الخير. وعليه بالصحبةُ الطيبة التي تقويه إذا ضعف، وتذكّره إذا نسي، وتدلّه على الخير وتحذّره من الشر.
وعلى الحاج أن يحفظ جوارحه عما حرم الله، وأن يسخرها في طاعة الله تعالى ومرضاته، وعليه أن يوقر الكبير، ويرحم الصغير، وأن يُواسي الضعيف، والمسكين، وأن يبادر إلى مساعدة إخوانه المسلمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ}(آل عمران: 96، 97).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فاتقوا الله أيها المؤمنون والمؤمنات: واعلموا أن الدنيا دار ممر، والآخرة هي دار المستقر، فإما نعيم مقيم وإما عذاب أليم.
عباد الله: ينبغي على من أراد الحج أن يكون ماله طيباً لا شبهة فيه، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، والنفقة الحلال ترفع صاحبها إلى أعلى الدرجات، وتكون سبباً في قبول عمله.
وعلى المسلم أن يتعلم أحكام حجه قبل خروجه من بيته إما عن طريق الكتب والمطويات والنشرات الميسرة للعلماء، أو حضور الدروس والمحاضرات التي تنتشر على مستوى مساجد المحافظة، وخاصة في تلك الأيام التي يكثر فيها الحديث عن الحج وأركانه وواجباته وسننه.
وعليه أيضاً أن يتحلل من المظالم، وأن يبرأ ذمته من حقوق الخلق، وأن يكتب وصيته بما له وما عليه، فهذا مما يجعل للحج مذاقاً عذباً في نفس الحاج.

عباد الله: بعض الحجاج عند حصول زحام أو احتكاك يحدث منه ما لا تحمد
عقباه من السب والشتم، والغضب والانفعال، والواجب عليه أن يلتزم في حجه الحلم والأناة وكظم الغيظ، وضبط الأعصاب، وتحمل هفوات الآخرين، فهذا أسلم لحجه وأحفظ لثوابه وأجره.
فبادروا يا عباد الله إلى أداء هذا الركن العظيم، فإن وسائل المواصلات متوفرة والطرق آمنة، والخدمات ميسرة ولله الحمد والمنة، فتعجلوها تنالوا خيري الدنيا والآخرة.
أسأل الله بمنه وكرمه أن ييسر لنا ولكم أمر الحج، وأن يتقبل منا ومنكم، وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم، وإننا في هذا المقام نحمد الله ونشكره على سلامة العملية الجراحية لخادم الحرمين الشريفين، ونسأل الله بمنه وكرمه أن يلبسه ثوب الصحة والعافية، وأن يمد في عمره على طاعته، وان يعينه لتحقيق الخير لبلاده وشعبه وسائر المسلمين.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً] (الأحزاب:56).
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك وخليلك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداءك أعداء الدين.

اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعبث العابثين، واصرف عنا وعن
المسلمين جميع الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم وفق ولاة أمر المسلمين عامة للحكم بكتابك والعمل بسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، ووفق ولاة أمرنا خاصة للخير، اللهم خذ بأيديهم لما فيه خير
البلاد والعباد يا ذا الجلال والإكرام. اللهم ارحم هذا الجمع من المؤمنين والمؤمنات. اللهم استر عوراتهم وآمن روعاتهم وتقبل صالح أعمالهم، واستجب دعاءهم يا كريم. اللهم فرج عن إخواننا المسلمين في كل مكان.
اللهم أنج المستضعفين والمظلومين يا جبار السموات والأراضين.
اللهم يسر على الحجيج حجهم، وتقبل اللهم منا ومنهم.
[رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثا مغيثا، سحا طبقاً، عاجلاً غير آجل، تسقي به البلاد وتنفع به العباد، وتجعله زاداً للحاضر والباد.
عباد الله:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(النحل:90). فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
الجمعة: 23/ 11/ 1432هـ