خطبة بعنوان: (خطورة المظاهرات على البلاد والعباد) بتاريخ 28-1-1433هـ.

الأثنين 6 جمادى الآخرة 1440هـ 11-2-2019م

 

الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه العظيم{فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(النور:63)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله النبي الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران:102).

عباد الله: المتأمل في أحوال البلاد من حولنا، وما يعتريها من فتن وأزمات، وما تبعها من تغيرات داخلية وخارجية، ومن ضعف في جوانب الأمن، والاقتصاد، والسياسية، يعلم علم اليقين أن هناك أقواماً تطاولت أيديهم فهي تعمل في الخفاء، وهذه الأيدي ــ القذرة ــ سواء كانت من داخل البلاد نفسها أو من خارجها، لا تريد لبلادها الاستقرار والتآلف والاجتماع، بل تريد لها الفرقة والتشرذم والتنازع والضعف، وما ذاك إلا بسبب بغضهم لشرع الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
عباد الله: لقد أتخذ أعداء الإسلام صوراً شتى من أجل محاربة دين الله تعالى، وإضعاف أوطان المسلمين من أجل التحكم فيها، وفرض سيطرتهم عليها، واستغلال خيراتها، وهم في سبيل ذلك يتخذون صوراً شتى للوصول إلى ما يريدون، ولهذا يجب علينا معاشر المسلمين أن نفهم الواقع الذي نعيش فيه، وأن نتعرف على كل ما حولنا لكي نحذر من الوقوع فيما يريده بنا أعداؤنا.

إن نعمة الأمن مطلب كثير من الناس، بل هو أغلى المطالب للعالم أجمع، فإن الناس لا يستطيعون العيش في هذه الدنيا بِلا أمْنٍ، ولا يحصلون على السعادة إلا بأمن، ولا يجدون الراحة والاطمئنان إلا بأمن، وقد كان من دعاء إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام {.. رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ}(إبراهيم:35).
فإذا فُقد الأمن حلّ محلّه الخوف والذعر والهلع، وأُشغل الناسُ عن عبادة الله تعالى، وعن القيام بحق النفس والأهل، وتركِ التجارة والأعمال، بل ربما تجاوز ذلك إلى الوقوع فيما حرم الله تعالى من الظلم بشتى صوره.
وبفقد الأمن أيضاً تتبدل الأحوال، وتُعاق سبلُ الخيرِ، وتختل المعايش، وتدَّمرُ الديار، وتتفرقُ الأسرُ، ويتعسر طلب الرزق، وتتبدل الطباع، وتُقتل النفوس البريئة، وترمَّل النساء، ويُيتَّم الأطفال، ويفشو الجهل، ويشيع الظلمُ، وتُسلب الممتلكاتُ.

عباد الله: إن ما يشاهده الناس عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة في بعض بلاد المسلمين من مظاهرات دامية راح ضحيتَها أنفسٌ كثيرة من الأبرياء؛ وما تبع ذلك من تدمير، وحرق، وسلب لممتلكات الدولة، وحصول مصادمات عنيفة بين أبناء الوطن الواحد، ووقوعِ الاختلاف والتشاحن والتباغض، ونشرِ الفوضى، وفقدانٍ للأمن ليدل دلالةً واضحةً على خطورة هذا الفعل الذي أدَّي بدوره إلى مفاسد رهيبة تشيب لها الرؤوس، وتتحير منها العقول السليمة.
فكم من مظاهرةٍ بدأت سلمية، ثم انتهت دموية، والمشاهد في وسائل الإعلام يرى ذلك بعينه، وربما تمنَّى بعض الناس أن ترجع بلده إلى ما كانت عليه قبل تلك المظاهرات ليأمن على نفسه وأهله، ويجد قوت يومه.
لقد رأى الناس تلك الأنفس التي اعتُدي عليها، فقتل منها من قتل، وأصيب منها من أصيب، وها هي دموع الأمهات والآباء تنزل حزناً على أبنائهم الذين سقطوا في تلك المظاهرات، سواء كانوا قتلى أو مصابين.

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أخبر بوقوع الفتن والاختلاف في الأمة، فقال (سَتَكُونُ فِتَنٌ القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ)(رواه البخاري ومسلم).

إن من تأمل في تلك المظاهرات يرى فيها محظورات شرعية كثيرة، يترتب عليها مفاسد عظيمة، ومن ذلك:
(1) أن تلك المظاهرات تحتوي على إهدار عقيدة الولاء والبراء بين المسلمين وغيرهم، فالذين يخرجون تختلف مللهم ونحلهم وأفكارهم، وهذا مما يضعف جانب الولاء والبراء في قلب المسلم ويجعله يتنازل عن كثير من الأصول والثوابت.
(2) وأيضاً ما فيها من الاختلاط الممنوع، فالرجال والنساء يخرجون في تلك المظاهرات، وتلتحم أجسادهم قبل أفكارهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)(مسلم).
(3) ومن ذلك أيضاً وقوع الصدام بين المسلمين بعضهم مع بعض، فيحصل الهرج والتخريب، والتعدي على الحرمات، وإتلاف للأموال، وقطع للسبيل، فيسقط في ذلك قتلى ومصابون، وقد قال صلى الله عليه وسلم (إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قال: قلت: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه قد أراد قتل صاحبه)(البخاري ومسلم).
(4) وقوع الفوضى والتخريب في الأموال العامة والخاصة، وهلاك الأنفس، وتعطيل المصالح العامة والخاصة.
(5) أن ذلك ذريعة لاندساس المفسدين بين المصلحين، حيث أن تلك المظاهرات يخرج فيها أناس صالحون، يطالبون بمطالب شرعية لا تخالف كتاباً ولا سنة، ويقصدون الخير، لكن هؤلاء المفسدين يستغلون تلك المظاهرات لمآرب أخرى من سرقة للأموال، وتدمير الممتلكات، وتحرش بالنساء، وإيقاع العداوة بين المتظاهرين وحكامهم. فينبغي الحذر من هؤلاء الذين يريدون إضعاف الأمن، وتفريق الأمة، وحصول الشقاق بين ولاة الأمور ورعاياهم، وزعزعة الاستقرار في بلادهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ*وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}(20، 21 ).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، واستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه وجوده وإكرامه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:

فاتقوا الله تعالى أيها المؤمنون: واعلموا أن الدنيا مزرعة الآخرة، فتزودوا منها ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

عباد الله: بلادنا الحبيبة الغالية على قلوبنا وقلوب المسلمين لا يسمح نظامها بالمظاهرات لما فيها من إشعال الفتنة، وإيقاع العداوة بين الناس، ولما يترتب عليها من رفع للسلاح، وقتل للأبرياء، ورجال الأمن، ووقوع إصابات، وتدمير الممتلكات، فليحذر أولئك الذين يروجون لأفكار وافدة من الغرب أو الشرق تسعى لتفريق الجماعة، فبلادنا هي قبلة المسلمين، وهم يؤمونها من كل حدب وصوب حجّاجاً، وعماراً، وزواراً، وهي تختلف كل الاختلاف عن غيرها من سائر البلاد لأنها تطبق شرع الله، ويرفرف عليا الأمن، وهذا من فضل الله جل وعلا.

عباد الله: لقد حض الشارع الحكيم على الاعتصام بحبل الله تعالى ولزوم الجماعة، والاجتماع على الحق، ونبذ الخلاف، والرجوع إلى أهل العلم الربانيين في سائر أمور الدين، قال تعالى{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}(آل عمران :103)، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:(من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)(رواه مسلم).
وإن هذه المظاهرات ليست من عمل المسلمين ولا عرفت في تاريخ الإسلام، وهي فوضى لا يرضى بها الإسلام, فالإسلام دين انضباط, ونظام, وهدوء.
وإن تلك المظاهرات سبب عظيم من أسباب رد الحق خلافاً لما يظنه البعض، ثم أنها ليست الطريقة الشرعية الصحيحة في طلب الحق والدعوة إليه ولا يكون طلب الحق والدعوة إليه بمثل هذا العنف والغوغائية، وإنما يكون بالحكمة والموعظة الحسنة، فقد وجّه الله جل وعلا موسى وهارون عليهما السلام بالتلطف مع فرعون ودعوته بالرفق واللين، فقال تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}(طه:44)، وهو من أشد الناس كفراً، وأعظمهم ظلمًا، فكيف تكون النصيحة لحاكم أو مسئول مسلم؟!.

عباد الله: لقد أكدت هيئة كبار العلماء في بلادنا في كثير من بياناتها، وقرر ذلك كل علماء هذه البلاد من خارج الهيئة أن من أراد الإصلاح والنصيحة فلا يكون ذلك عن طريق المظاهرات وتلك الأساليب التي تثير الفتن وتفرق الجماعة، وأوضحوا حرمة المظاهرات في هذه البلاد وأنه ينبغي على المسلمين اعتزال تلك الفتن وسد أبوابها وزجر طلابها ومروجيها مع ضرورة لزوم منهج الكتاب والسنة.

أسأل الله تعالى أن يحفظ علينا علماءنا وولاة أمرنا، وأن يحفظ علينا أمننا واستقرارنا وتمسكنا بشرعه المطهر، اللهم عليك بمن يكيد لبلاد المسلمين، اللهم اجعل الدائرة عليهم، اللهم اكفناهم بما شئت يا قوي يا متين.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب:٥٦).
اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، ويسر لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين، اللهم وفقهم لكل خير، ويسره لهم يا أرحم الراحمين.

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين يا أكرم الأكرمين.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً، سحاً طبقاً، عاجلاً غير آجل، تسقي به البلاد وتنفع به العباد.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
الجمعة: 28-1-1433هـ