خطبة بعنوان: (مسائل وأحكام في سجود السهو -1-) بتاريخ 19-2-1433هـ
الخطبة الأولى :
الحمد لله القائل فى محكم التنزيل{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً}(مريم: 64)، والصلاة والسلام على المبعوث رحمه للعالمين، الثابت عنه في سنته قوله:(إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكِّرُوني)(رواه البخاري ومسلم)، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين: أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فالتقوى سبيل النجاة، وطريق الوصول إلى الجنات، واعلموا ــ بارك الله فيكم ــ أن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثه بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون: غير خاف عليكم أن الصلاة لها أهمية عظيمة من بين أركان الإسلام؛ إذ هي آكدها بعد الشهادتين، وهي الصلة الوثيقة بين العبد وبين ربه، وقد شرع الله فيها الخشوع، وأن يؤتى بها على الوجه الصحيح الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث ثبت عنه أنه قال:(صلُّوا كما رأيتموني أصلِّى)(رواه البخاري)، ومتى أداها المسلم على الوجه الصحيح؛ ثبت له الأجر والثواب، وسقط عنه الواجب.
وإن من محاسن الإسلام أنه شرع سجود السهو لجبر ما يعتري الصلاة من زيادة أو نقص أو شكٍ قد يقع فيه المسلم أثناء أدائها من غير قصد، لأنه مطالب بأن يؤديها على الوجه الصحيح السالم من الأخطاء، ولئلا يفوّت الأجر العظيم المترتب على أدائها، وهذا من تمام فضل الله ومنته على عباده، لئلا يشعروا بالحرج عند الوقوع في النقص أو التقصير، وصدق الله العظيم {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(الحج:78)، فالحمد لله على منته وفضله وتيسيره.
قال ابن القيم رحمه الله:(ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:(.. إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني)(رواه البخاري)، وكان سهوه في الصلاة من تمام نعمة الله على أمته، وإكمال دينهم، ليقتدوا به فيما يشرعه لهم عند السهو… وكان صلى الله عليه وسلم ينسى ، فيترتب على سهوه أحكام شرعية، تجرى على سهو أمته إلى يوم القيامة..)اهـ. وسجود السهو عبارة عن سجدتين يأتي بهما المصلي لجبر ما طرأ على صلاته من الخلل سهوا، بزيادة أو نقصان أو شك.
عباد الله: كثير من المسلمين اليوم يجهلون بعض أحكام الصلاة، ولا سيما أحكام سجود السهو، ولذا سأتناول معكم بإيجاز أحكامها وتيسيرها وعرضها في هذه الخطبة ليسهل علينا فهمها وتطبيقها.
وسجود السهو في الصلاة واجب إذا حصل سببه، وقد استدل أهل العلم على وجوبه بما يأتي:
* ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما، عن عبد الله بن بُحَيْنَه رضي الله عنه، أنه قال: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ مِنْ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ قَامَ، فَلَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا قَضَى صَلاَتَهُ وَنَظَرْنَا تَسْلِيمَهُ كَبَّرَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ، ثُمَّ سَلَّمَ.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا، فَقِيلَ لَهُ: أَزِيدَ فِي الصَّلاَةِ؟ فَقَالَ: (وَمَا ذَاكَ؟) قَالَ: صَلَّيْتَ خَمْسًا، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ مَا سَلَّمَ (رواه البخاري ومسلم).
وعن أبى هريرة رضي الله عنه، قال: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ، إِمَّا الظُّهْرَ، وَإِمَّا الْعَصْرَ، فَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَتَى جِذْعًا فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَاسْتَنَدَ إِلَيْهَا مُغْضَبًا، وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَهَابَا أَنْ يَتَكَلَّمَا، وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ، فَقَالُوا قُصِرَتِ الصَّلَاةُ، فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَقُصِرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ؟ فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَمِينًا وَشِمَالًا، فَقَالَ: (مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟) قَالُوا: صَدَقَ، لَمْ تُصَلِّ إِلَّا رَكْعَتَيْنِ، (فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ كَبَّرَ فَرَفَعَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَرَفَعَ)، قَالَ: وَأُخْبِرْتُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ قَالَ: وَسَلَّمَ (رواه البخاري ومسلم، واللفظ له).
وعن أبى هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي جَاءَ الشَّيْطَانُ، فَلَبَسَ عَلَيْهِ حَتَّى لاَ يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ)(رواه البخاري ومسلم).
وعن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا، فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ لَهُ صَلَاتَهُ، وَإِنْ كَانَ صَلَّى إِتْمَامًا لِأَرْبَعٍ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ)(رواه مسلم). فهذه النصوص وغيرها تدل دلالة صريحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك سجدتى السهو، بل كان يحافظ عليها إذا سها في الصلاة، وهو المشرع القائل في سنته: (صلوا كما رأيتموني أصلى)(رواه البخاري). وهذا يدّل على وجوب سجدتى السهو إذا حصل سببها، وهو الزيادة أو النقص أو الشك.
وعلى ذلك فيجب على الإمام أو المنفرد إذا سهيا في الصلاة ، فزادا فيها أو نقصا أو شكا، أن يأتيا بسجدتي السهو.
وصفة سجود السهو: أن يكبر قبل كل سجدة من سجدتى السهو، سواء كانتا قبل السلام أو بعده. دليل ذلك، ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (فصلى ركعتين ثم سلم، ثم كبر، فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم وضع رأسه فكبر، فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر).
وما رواه البخاري عن عبد الله بن بُحينه رضى الله عنه، أنه قال (صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين من بعض الصلوات، ثم قام فلم يجلس، فقام الناس معه، فلما قضى صلاتهُ ونظرنا تسليمه، كبر قبل التسليم، فسجد سجدتين وهو جالسٌ، ثم سلَّمَ).
ويفعل المصلى في سجود السهو، ما يفعل في سجود الصلاة، فيسجد على الأعضاء السبعة، ويجافي عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فَخِذَيْهِ، ويفرِّقُ رُكْبَتَيْهِ، ويقول حال سجوده: (سبحان ربى الأعلى).
والسنة: أن يكرر هذا التسبيح ثلاث مرات، وأن يزيد معه ما جاءت به السنة أيضا، مثل (سبوح قدوس ربُّ الملائكة والروحِ)(رواه مسلم)، (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي)(رواه البخاري)، وأن يجلس بين السجدتين مفترشاً يسراه، ناصباً يمناه، ويضع يديه على فخذيه، وأطراف أصابعه عند ركبتيه، أو يضع اليد اليمنى على الركبة اليمنى، واليد اليسرى يلقمها الركبة اليسرى وهما صفتان عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكلتاهما صحيح ، ويقول(اللهم اغفر لي وارحمني وعافني واهدني وارزقني)(رواه أبو داود وصححه الألباني).
ويطمئن في هذا الجلوس، ثم يسجد السجدة الثانية، ويفعل ما فعله في السجدة الأولى. فإذا انتهى من السجدتين سلم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}(الأحزاب: 21 ).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، واستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه وجوده وإكرامه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله تعالى أيها المؤمنون: واعلموا أن الخير في الاقتداء بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم والعمل بسنته.
عباد الله: ولا يشرع تشهد بعد سجدتي السهو، سواء أكانتا قبل السلام أم بعده. ودليل ذلك قبل السلام قول النبي صلى الله عليه وسلم:(.. ثُمُّ يسجد سجدتين قبل أن يسلم..)، وأما بعد السلام فدليله قول عمران بن الحصين رضي الله عنه (.. فصلى ركعة، ثم سلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلم).
عباد الله: ويجب على المسلم أن يسلم بعد سجدتى السهو، سواء أكانتا قبل السلام أم بعده. دليل ذلك، ما رواه البخاري عن عبد الله بن بُحينه رضي الله عنه، أنه قال (صلى لنا رسول الله ركعتين من بعض الصلوات، ثم قام فلم يجلس، فقام الناس معه، فلما قضى صلاتهُ ونظرنا تسليمه، كبر قبل التسليم، فسجد سجدتين وهو جالسٌ، ثم سلَّمَ). وما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إذا شكَّ أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلَّى؟ ثلاثاً أم أربعاً؟ فليطرح الشكَّ ولْيبنِ على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم..).
وما رواه مسلم عن عمران بن حصين، (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، صلّى العصر، فسلم فى ثلاث ركعات..) إلى أن قال:(فصلى ركعه ثم سلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلَّم).
عباد الله: ويشرع سجود السهو لواحد من ثلاثة أمور:
(1) إذا زاد المصلي في الصلاة سهواً.
(2) إذا نقص المصلي من الصلاة سهواً.
(3) إذا حصل عند المصلي شك في زيادة أو نقصان.
فيجب تارة، ويسن أخرى، ولا يعنى ذلك أنه يشرع في كل زيادة، أو نقص، أو شك، بل حسبما ورد به الدليل. ولا يشرع في العمد؛ لأنه إن ترك ركنا أو واجباً عمداً بطلت صلاته، فلا فائدة من سجود السهو حينئذ؛ لأنه غير معذور، وإن ترك سنة عمداً فصلاته صحيحة، ولا تحتاج إلى جبر. وهو إنما شرع للسهو في الفرض والنافلة على حدٍّ سواء، فحكمه في النفل كحكمه في الفرض.
ولا يعني كون النفل غير واجب، عدم وجوب سجود السهو له عند حصول سببه؛ لأن المصلي إذا تلبس بالصلاة ، وجب أداؤها كاملة على الوجه المشروع، دون إخلال، فإن سها فيما يجب له سجود السهو، وجب عليه جبر صلاته، فإن امتنع لكونها نافلة، كان متلاعباً في عبادته، مستهزئاً في صلاته، وهذا لا يجوز.
ولا يشرع سجود السهو لحديث النفس، لعدم ورود السجود له، ولأنه مما لا يمكن التحرز منه، ولا تكاد تخلو منه صلاة، فعفي عنه.
وسنكمل الحديث بحول الله في الخطبة القادمة حول بعض المسائل المتعلقة بسجدتي السهو. أسأل الله تعالى أن يبصرنا بأمور ديننا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعل أعمالنا خالصة له إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب: ٥٦).
اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، ويسر لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين، اللهم وفقهم لكل خير، ويسره لهم يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين يا أكرم الأكرمين.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدراراً.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً، سحاً طبقاً، عاجلاً غير آجل، تسقي به البلاد وتنفع به العباد.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
الجمعة: 19-2-1433هـ