خطبة بعنوان: (مشاهداتي في حج عام 1433هـ) بتاريخ 17-12-1433هـ .

الأثنين 6 جمادى الآخرة 1440هـ 11-2-2019م

 

الخطبة الأولى :
الحمد لله رب العالمين، أكرم المؤمنين بطاعته، وأفاض عليهم بجزيل نعمائه وهباته، وأثابهم على قليل عملهم بالكثير من حسناته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تفرد بالعبادة من دون خلقه، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله خير من بلغ رسالته وأبان شرع ربه، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران: 102).
أيها المؤمنون والمؤمنات: نحمد الله جل وعلا على تيسيره لحج هذا العام، ونحمده سبحانه على وصول حجاج بيته بخير وسلام، والله نسأل أن يكتب لهم الأجر والثواب، وأن يكونوا ممن رجعوا وقد غفرت ذنوبهم وحطت خطاياهم كما بشر بذلك خير الخلق صلى الله عليه وسلم بقوله (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)(متفق عليه).

ووصيتي لحجاج بيت الله الذين رجعوا إلى أهليهم سالمين أن يولوا مسألة قبول العمل بالاهتمام، وأن يستصغروا ما قاموا به في جنب فضل الله ونعمه، وأن يعودوا بعد حجهم خيراً مما كانوا قبله، وأن يفتحوا صفحة جديدة مع خالقهم يصدقون فيما يستقبل من حياتهم ليتنافسوا بالأعمال الصالحة التي ترضيه عنهم وتوصلهم إلى جنته ورضوانه.

عباد الله: لقد رأيت من خلال رحلة الحج هذا العام 1433هـ مشاهد إيجابية نطق بها الواقع تسر النفوس وتفرح القلوب، ورأيت كذلك مشاهد تحتاج إلى مراجعة دقيقة ومحاسبة أدق.

ومما رأيت من المشاهد الإيجابية التي أسرت نفسي وأفرحت قلبي ما يلي:
1ـ تلك الجموع الغفيرة التي أتت من كل حدب وصوب، من مشارق الأرض ومغاربها ليؤدوا مناسك الحج مع اختلاف ألوانهم وأشكالهم ولغاتهم، ملبين نداء خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} (الحج:27)، فهم يقولون بلسان واحد (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك)، ويحرصون أشد الحرص على تأدية هذه المناسك على الوجه المطلوب شرعاً.

2ـ ظهور هؤلاء الشباب من الكشافة وغيرهم الذين أتوا من سائر أنحاء المملكة بالمظهر الحسن في تعاملهم مع الحجاج وصبرهم على أذى البعض منهم وتحملهم المشاق في إيصالهم إلى أماكنهم دون تأفف أو ضجر.

3ـ تعاضد وتعاون جميع رجال الأمن في عملية التنظيم وقوة التواجد، وتوجيه الحجاج وإرشادهم لأماكن المناسك، وهم دائماً مصدر أمن واطمئنان إذا رآهم الحجاج رغم ما يحصل لهم من الجهد والمشقة.

4ـ التنظيم في مداخل الجمرات وذلك بوضع أفراد مخصصة في مواجهة الحجاج المتجهين إلى الجمرات لسحب الأغراض الزائدة من فرش وخيام وحقائب وغير ذلك والتي تسبب أضراراً بليغة مع شدة الزحام والتدافع، وهذا التنظيم الرائع كان سبباً ــ بعد فضل الله ــ في منع الكثير من الحوادث والمشكلات وخاصة في كوبري المشاة الذي يسير فيه مئات الآلاف من الحجاج.
5ـ سلاسة الحركة المرورية وانسيابها أثناء الدفع من منى في يوم التروية إلى عرفات، ومن عرفات إلى مزدلفة، ومن مزدلفة إلى منى لرمي جمرة العقبة الكبرى، ومنها إلى مكة لأداء طواف الإفاضة على الرغم من شدة الزحام وكثرة الحجاج.

6ـ انتشار اللوحات الإرشادية في شتى بقاع عرفة وسائر المناسك والتي سهلت وأعانت على وصول الحجاج إلى مشاعرهم وأماكن سكنهم.

7ـ تيسير نظام التفويج لتلك الحشود العظيمة من الحجاج، والتعامل القوي والمنظم في وسائل النقل والسكن والإعاشة والإسكان والنظافة.

8ـ انتشار السيارات الخاصة بتوزيع هدايا خادم الحرمين الشريفين وغيرها من الجمعيات الخيرية الأخرى التي تقوم بتوزيع الوجبات والمشروبات والمياه الباردة على الحجاج سواء في عرفات أو غيرها من المشاعر.

9ـ توزيع الرسائل والمطويات على الحجاج لتوعيتهم وتعليم جاهلهم.

10ـ كثرة انتشار أكشاك الفتوى في سائر بقاع المناسك للرد على المستفتين من الحجاج وتوجيههم إلى الصحيح من أعمال الحج مما أفاد الكثير من الحجاج وأعانهم ذلك على أداء المناسك على الوجه المطلوب.

11ـ ما رأيته من التحاب والتعاون والتراحم بين الحجاج في تيسير أداء المناسك، حيث يساعد القوي الضعيف، والكبير الصغير، ويحرصون على عدم أذية بعضهم سواء في أثناء السير في الطرقات، أو عند رمي الجمار، أو الطواف والسعي، تلبية لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم:(وكونوا عباد الله إخوانا)(رواه البخاري)، وقوله في الحج (السكينة السكينة).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ] (الحج).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على فضله وإحسانه حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيراً، أما بعــد:

فيا عباد الله: ومن الآثار الطيبة التي رأيتها في حج هذا العام:

12ـ ذلك التجمع العظيم من الحجاج والمعتمرين بلباس واحد، وتلبية واحدة لرب واحد، وأدائهم المناسك على قلب رجل واحد. فما أعظم نعمة الله على عباده بهذا الدين العظيم الذي ألف بين قلوب هؤلاء الناس على
الرغم من اختلاف لغاتهم وجنسياتهم وبلدانهم وألوانهم وحاجاتهم.

13ـ تلك المشاهد الكثيرة التي رأيتها لأبناء وبنات يقومون ببر والديهم أثناء أداء مناسك الحج، ومن صور ذلك: من يحمل والده أو والدته على عاتقيه وينقله من مكان إلى آخر، وذاك يقوم بإطعام والديه ويسقيهما، وتلك تخدم أمها وتقوم برعايتها.
14ـ وأكثر ما رأيت أثناء الدفع من عرفة إلى مزدلفة ومن مزدلفة إلى منى، وأثناء رمي الجمار، والطواف والسعي هؤلاء الأبناء وتلك البنات الذين يقومون بدفع والديهم بالعربات مع شدة معاناتهم من الزحام وقوة التدافع وتحملهم تلك المشاق من أجل إرضاء والديهم وبرهم والإحسان إليهم، فيا فرحة هؤلاء الأبناء عند لقاء ربهم بما يجدونه في موازين حسناتهم يوم الحساب ما دام عملهم خالصاً لوجه الله.

عباد الله: ومن المشاهد التي تحتاج إلى مراجعة ومحاسبة ما يأتي:

1ـ كثرة الزحام والذي كان سببه دخول كثير من الحجاج مناسك الحج بغير تصريح، وقد أثر ذلك سلباً على الحجاج الآخرين الحاملين لتصاريح الحج مع إعاقة حركة المرور وسير المشاة وكثرة الافتراش في الشوارع.

2ـ ومن ذلك عدم اهتمام الحجاج بوضع الزبالة في النفايات المخصصة لها مما تسبب في إعاقة بعض الطرق، وظهور الروائح الكريهة من الأطعمة الملقاة بالشوارع.

3ـ ومن ذلك حصول بعض المناوشات والمشاحنات بين بعض الحجاج، وسماع بعض الألفاظ غير اللائقة بالمكان والزمان.

4ـ استغلال سائقي سيارات الأجرة للحجاج في رفع أسعار الأجرة أثناء التنقل بين المناسك وخاصة للذاهبين إلى مكة المكرمة لأداء الطواف والسعي.

5ـ ظهور بعض المعاصي والمنكرات التي جاهر بها البعض في أثناء أداء المناسك، وخاصة في موقف عرفة وغيره من المواقف من شرب للدخان، وتبرج بعض النساء، وتفريط بعض المسلمين في الصلوات و تأخيرها.

عباد الله: ولابد من الصبر والرضا بأقدار الله مهما كانت شديدة على الناس، وما حصل من الانفجار الهائل في سيارة الغاز هذا لون من ألوان تلك الأقدار، وعلى الناس الصبر والرضا بالقضاء والقدر، وما يتفوه به بعض الناس من نسبة ذلك للتفريط والتقصير وطلب المحاسبة كل ذلك لا وجه له.

هذا وفي الجمعة القادمة إن شاء الله سنتناول بعض المسائل التي وقع فيها بعض الحجاج وتحتاج إلى بيان الحكم الشرعي وهي مما كثر السؤال عنه بعد الرجوع من الحج.

أسأل الله تعالى أن يتقبل من جميع الحجاج حجهم وطوافهم وسعيهم وسائر مناسكهم، وأن يتجاوز عن الخلل والتقصير، وأن يرد باقي الحجاج إلى بلادهم سالمين غانمين.

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً] (الأحزاب:56). اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك وخليلك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك أن تحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كيد الكائدين وعبث العابثين، وأن تمن علينا وعلى المسلمين بعز الإسلام ونصر المسلمين. اللهم فرج عن إخواننا المسلمين في كل مكان، وارفع عنهم الظلم عاجلاً غير آجل، وفرج عنهم ما هم فيه من الضيق والهم والغم، اللهم عليك بمن ظلمهم، اللهم أطبق عليهم قبضتك وبطشك، ورجزك وعذابك، اللهم عليك بالظالمين المعتدين على بلاد المسلمين، فإنهم قد بغوا وطغوا، وأكثروا في الأرض الفساد، اللهم صُبَّ عليهم سوط عذابك، اللهم خالف بين رأيهم وكلمتهم، اللهم شتت شملهم، وفرق صفهم، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعجل بوعدك ونصرك المبين، فإننا على ثقة ويقين، اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين.

اللهم وفق ولاة أمرنا لما تحب وترضى، ويسر لهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين، اللهم وفقهم لكل خير، ويسره لهم يا أرحم الراحمين، واجزهم عما قدموا لحجاج وزوار بيت الله الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الجزاء، اللهم أتم علينا نعمة الأمن والأمان، اللهم من أرادنا أو أراد بلادنا بسوء فأشغله بنفسه، ورد كيده في نحره. اللهم ارفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى. اللهم رد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً، اللهم أصلح شبابنَا وبناتِنا، وأزواجَنا وذرياتِنا.

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(البقرة).
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثا مغيثا، سحا طبقاً، عاجلاً غير آجل، تسقي به البلاد وتنفع به العباد، وتجعله زاداً للحاضر والباد.
عباد الله:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(النحل:90). فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

الجمعة 17-12-1433هـ