خطبة بعنوان: (صبراً أهل سوريا) بتاريخ 24 / 5 /1434هـ.

الأثنين 6 جمادى الآخرة 1440هـ 11-2-2019م

 

الخطبة الأولى :
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل في كتابه {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}(غافر:50)، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله القائل في سنته (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)(رواه مسلم)، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً مزيدا إلى يوم الدين، أما بعد:

فاتقوا الله أيها المؤمنون: واعلموا أن تقواه طريق الفوز والرضوان، ومجاورة الكريم المنان:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران: 102).

عباد الله: لا تزال سوريا الشقيقة تئن تحت وطأة المدافع وأصوات الرصاص، ولا تزال تتخضب بلون الدم الطاهر النقي المتدفق من أبنائها الأحرار، الذين رفضوا الانحناء والركوع للظلم والطغيان فتلوثت أيدي الظالمين بهذه الدماء الزكية الطاهرة.
لقد كنا نشكو بالأمس من تلك الدماء الزاكية التي تراق لإخواننا المسلمين، وتلك الأعراض للمسلمات التي تنتهك في بقاع شتى من الأرض على أيدي اليهود والصليبيين في فلسطين وغيرها من بلاد المسلمين، وإذا بنا اليوم نرى الأشلاء الممزقة والدماء المراقة على أيدي حفنة ظالمة ممن يدعون أن أفعالهم يقرها الشرع والإسلام منها براء.. فهؤلاء لم يردعهم صراخ أم مكلومة، ولا أرملة فقدت زوجها، ولا طفل هُدم بيته وفُقِد والداه لم تخيفهم الأشلاء الممزقة ولا الموت الجماعي تحت المدافع والراجمات، بل صار ذلك شهية لهم صباح ومساء كل يوم.

إن ما جرى، ويجري في هذه الأيام في سوريا إبادةٌ جماعية، لا يستثنى منها النساء، ولا يُرحم فيها الشيوخ والأطفال، فعلى مدار الأربع وعشرين ساعة تُلقي الطائرات صواريخها، وتضرب الدبابات بقذائفها، وتحاصر العديد من المدن السورية كحماة، وحمص، وحلب، وأدلب، والزبداني، ودرعا، ودير الزور، وأحياء سكنية في دمشق وريفها، وغيرها. وملايين السوريين محاصرون داخل منازلهم دون ماء وطعام وكهرباء.

إنها عمليات قتل لأنفس بريئة، وتدمير لمساكن مؤهلة، واعتداءٌ على مساجد يذكر فيها اسم الله، آليات حربية، ومدفعيات ثقيلة، وقناصة متسلطون.. تخويف وإرهاب، ودماءٌ تنزف، وجثث تتساقط.. فأي قلوب لهؤلاء الحمقى تفعل بالمسلمين تلك المجازر الوحشية والتي لا نرى منها إلا القليل، أين الرحمة في قلوبهم؟ وأين العدل الذي ينادون به؟ وأين حقوق الإنسان لقد انطفأ نور الحق في صدورهم، ووازع الضمير الحي في قلوبهم.

إن الوضع في سوريا جد خطير، وانتهاكات العصابات المجرمة لا تحصيها الأقلام ولا تَصِفُها الكلمات، ولكننا رغم ذلك على يقين بقرب الفرج وحلول ضوء النهار الذي يقضي على خفافيش تلك الشرذمة الضالة التي تعيث في الأرض فسادًا..

عباد الله: إن مأساة المسلمين اليوم في أرض الشام مسؤولية المسلمين جميعاً نصرةً، وغوثاً، ودعاءً، ولا يجوز بحال أن تقتل الأنفس جهاراً، وتهدم البيوت نهاراً.. ولا تسلم المساجد من الأذى، والمسلمون يتفرجون ولا يتحركون إلا من رحم الله منهم، والله جل وعلا يقول:{وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ..} (الأنفال: 72)، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً فقال رجل يا رسول الله: أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟! قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره) (رواه البخاري). أما وقد اجتمع على إخواننا في سوريا قسوة العدو، وشدة الجو، وقلة الطعام، وانقطاع الماء والكهرباء، والفقر، والمسغبة، والمرض، والتهجير، والإبادة والمكر، وقلة النصير، فلا مفرّ من العون والنصرة، وكلٌ بحسب قدرته لإنقاذ ما تبقى من شعب حَكم عليه نظامٌ مستبدٌ بالموت البطيء.

عباد الله: وإن من أبرز ما أفرزته الأحداث الدامية في سوريا من دروس وعبر، أن أهل الباطل يقفون صفاً واحداً ضد أهل الحق، لقد رأينا مؤازرتهم لهذا الظلم والطغيان، وحين يتحالف المبطلون فأهل الحق أولى بالمساندة والوقوف بجوار إخوانهم.. وعلى الجامعة العربية إيجاد قوة عسكرية لحماية المدنيين العزّل في سوريا، ورفع المعاناة عنهم، وإغاثتهم دولياً وإسلامياً وعربياً.
إن من أوجب الواجبات علينا نحن المسلمين أن نقف بجوار إخواننا المظلومين المضطهدين في سوريا الشقيقة وفي غيرها من البلاد الإسلامية التي تعاني من الظلم والجور، لأن هذا حقَّهم علينا، قال صلى الله عليه وسلم:(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)(متفق عليه)، فلابد أن يشد بعضنا من أزر بعض،ويواسي بعضنا بعضا، وينصر بعضنا بعضا.

ولقد أمر ديننا الحنيف بالمواساة لإخواننا، والوقوف معهم ومساندتهم في أي محنة يتعرضون لها، والمواساة لها شأن عظيم، فقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم أعظم الناس مواساةً لأصحابه. فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني مجهود (صاحب حاجة ومشقة وسوء عيش) فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماءٌ، ثم أرسل إلى أخرى فقالت: مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك (لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماءٌ) فقال: من يضيف هذا الليلة رحمه الله؟ فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحْله فقال لامرأته هل عندك شيء؟ قالت: لا إلا قوت صبياني، قال: فعلليهم بشيء، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه، قال: فقعدوا وأكل الضيف، فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة.

عباد الله: إنني متفائل ـ بإذن الله ـ بانبِلاجِ صُبح النصر المُبين لإخواننا في بلاد الشامِ الأبِيَّة، فصَبرًا صَبرًا أهل سوريا، فإن مع العُسرِ يُسرًا، إنَّ مع العُسر يُسرًا، وإن مع اليُسر فرحاً ونصرًا، وأمِّلوا وأبشروا، وطُوبَى لكم طُوبَى بوعدِ الله، واعلموا أن الفرج آتٍ مع بوارِقُ الفجر، وتباشيرُ النصر، وسيُسطِّرُ التاريخُ بمِداد البُطُولةِ ملحَمَة العِزَّة والفخر؛ فالبغيُ مهما زمجَرَ فإلى تتبيرٍ وزَوالٍ.
ورسالتي إلى أهل سوريا: ألا تيأسوا ولا تحزنوا، وبحبلِ الله فاستمسكوا، وبالقوي العزيز فاستنصِروا، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}(البقرة: 214).

فلا تعلقوا قلوبكم بغير الله، فالنصر والفرج وكشف الضر بيده وحده، وكونوا ممن قال الله تعالى فيهم: { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ * أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}(الحج: 38ـ 40).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون: واعلموا أن تقواه هي خير زاد ليوم المعاد.
عباد الله: إن بلاد الشام هي حاضرة الإسلام، وقدَرُها الوحيد هي أن تحيا بالإسلام، وإن أحوال إخواننا هناك لتوجب علينا جميعا نصرتهم بقدر المستطاع، فربنا جل وعلا يقول:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(الحجرات: 10)، ويقول تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}(التوبة:71)، ويقول صلى الله عليه وسلم:(الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ)(رواه أحمد ومسلم)، وغير خاف علينا ما في تفريج الكروبات من الأجور والحسنات، وما في الخذلان من السيئات والنقمات.
وهؤلاء النازحون في الداخل واللاجئون في الخارج يحتاجون إلى من يدعمهم ويعينهم ويصبِّرهم، ويعالجهم ويداويهم، ويؤويهم، ويطعمهم ويكسوهم، والمؤمنون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.. وقد وجه خادم الحرمين الشريفين بحملة الإغاثة لإخواننا هناك واستمرار حملة التبرعات لنصرة إخواننا في سوريا، والوقوف معهم في محنتهم العصيبة التي يمرون بها، وهو انعكاسٌ لمواقفه الصادقة مع أبناء أمته، فدعوته ــ حفظه الله ــ باستمرار الحملةٍ الوطنية لجمع التبرعات لإغاثة الشعب السوري تأتي من منطلق حرصه على مشاركة أبناء وطنه في مساعدة أشقائهم الذين يحتاجون إلى كل أشكال العون في ظل ما يمرون به من ظروف قاهرة وعصيبة ألجأتهم إلى الهجرة في داخل وطنهم أو خارجه، وهي دعوة مباركة أثلجت صدورنا جميعاً لنصرة إخواننا الذين يحتاجون إلى كل أنواع النصرة المادية والمعنوية، وهي تجسيد لأمة الجسد الواحد الذي إذا تألم جزء منه تداعى سائره بالألم والسهر.
وها هي الجهات الرسمية التي خولتها الدولة في جمع تلك التبرعات تعمل على قدم وساق من أجل إنجاح تلك الحملة، ووصيتي لكل مسلم ومسلمة أن يقدموا ما يستطيعون لإخوانهم في سوريا، سواء بالتبرع النقدي، أو العيني، أو الدعاء كل على حسب استطاعته.

وأوصي من أراد التبرع لإخوانه في سوريا أن يكون تبرعه عن طريق الجهات المخولة من قبل الدولة، ومنها: الهلال الأحمر السعودي، ورابطة العالم الإسلامي، وهيئة الإغاثة الإسلامية.
وأن يحذر من تسليم تلك التبرعات لأيدي غير معلومة وغير موثوقة لئلا يتضرر المتبرع وخشية من وصولها إلى غير مستحقيها.

عباد الله: اعلموا أن وقوفكم مع إخوانكم في سوريا وغيرها فيه خير عظيم لكم، فبتلك المواقف الطيبة وبهذا التكافل والتراحم تُصرف عن بلادنا المحن والفتن والمصائب، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن صدقة السر تطفىء غضب الرب، وإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء)(رواه الطبراني وغيره، وصححه الألباني).

أسأل الله تعالى أن يعجل بنصر إخواننا في سوريا، وأن يحقن دماءهم، وأن يتقبل قتلاهم، وأن يشفي مرضاهم، وأن يتول أمرهم، وأن يرينا في الظالمين من عجائب قدرته ما يثلج صدور قوم مؤمنين.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب: ٥٦).
الجمعة: 24 / 5 /1434هـ