خطبة بعنوان: (أمنيات الأموات) بتاريخ 14-7-1434هـ .

الأثنين 6 جمادى الآخرة 1440هـ 11-2-2019م

 

الخطبة الأولى :

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً, أما بعد:

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي خير زاد ليوم المعاد، وهي سبيل النجاة يوم يقوم الناس لرب العباد:{وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}(البقرة: 281).

عباد الله: اعلموا أن الدنيا دار ابتلاء وامتحان وعمل، وهي دار مؤقتة بزمان، فإذا انتهى زمنها ذهبت، وهي دار غرور {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}(آل عمران: 185)، ومتاعها قليل، {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ.}(النساء: 77)، وهي دار قليلة الخير كثيرة الشر، تدفع أهلها إلى التعلق بها ونسيان الدار الآخرة، وهي دار يتنافس عليها الحمقى والغافلون، ويتعلق بها من نسي دار السرور والحبور، وهي دار من لا دار له، ويعمل لها وينسى الآخرة من لا عقل له، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ..} (الأنعام: 32). إنها دار حقيرة، تلعب بأهلها لعب الصبيان بالكرة، فهم يتقلبون فيها تقلباً شديداً، ويتعلقون بها تعلقاً كبيراً.

فكم من واثق فيها فجعته؟ وكم من مطمئن إليها لفظته؟ وكم من مختال فيها صرعته؟ وكم من متكبرٍ فيها وضعته؟ وكم من ذي نخوة أردته ذليلاً؟ فَحُلُوها مرٌّ، وعَذْبُها أُجاجٌ، وعَزِيزُها مَغْلُوبٌ، العمر فيها قصير، والعظيم فيها يسير، وجودها إلى عدم، وسرورها إلى حزن، وكثرتها إلى قلة، وعافيتها إلى سقم، وغناها إلى فقر. دَارُهَا مكَّاره، وأَيامُها غَرَّاره، ولأصحابها بالسوء أمَّاره.

الأحوال فيها إما نعم زائلة، وإما بلايا نازلة، وإما منايا قاضية. عمارتها خراب، واجتماعها فراق، وكل ما فوق التراب تراب، ويوم القيامة يعض المفرط أصابع الندم فلا يقول إلا:{يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}(الزمر: 58).

أهل الغفلة فيها لا يشبعون منها مهما جمعوا، ولا يدركون منها كل ما أمَّلوا. ولا يحسنون الزاد لما عليه قد أقدموا، يجمعون ولا ينتفعون، ويبنون ما لا يسكنون. ويُؤمِّلون ما لا يدركون:{ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ٱلاْمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3]. فهي تعدهم ولا توفيهم، وتمنيهم ولا تصدقهم، وتعلقهم بها ثم تستدبرهم.. فانتبهوا يا عباد الله، واعلموا أن من خاف الوعيد قصر عليه البعيد، ومن طال أمله ضعف عمله، وكل ما هو آت قريب. وأن الله جل وعلا لم يخلقنا عبثاً ولم يتركنا هملاً ولا سدا، فتزودوا من هذه الدنيا بما تنتفع به أنفسكم غدا، فالأمل خادع، والأجل مستور، والموت قادم لا محالة، قال جل وعلا:{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(المؤمنون: 99، 100).

إن الدنيا راحلة مستدبرة، وإن الله جل وعلا مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فلا تنسوا الموت، فقد كان نبيكم صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكره في كل وقت، ويحث أصحابه عليه، فيقول:(أكثروا ذكر هادم اللذات؛ الموت)(رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وصححه الألباني)؛ فمن ذكر الموت حقَّ ذكره حاسب نفسه في سره وعلانيته، وفي قوله وعمله، قال صلى الله عليه وسلم:(ما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه، ولا سعة إلا ضيقها)(رواه ابن حبان، وحسنه الألباني).
أيها المؤمنون والمؤمنات: وقف نبينا صلى الله عليه وسلم على شفير قبر فبكى حتى بلَّ الثَّرى ثم قال:(يا إخواني لمثل هذا فأعدوا)(رواه أحمد وابن ماجة، وحسنه الألباني).

وقد سَأَلَ رجل نبينا صلى الله عليه وسلم فقال له: من أكيس الناس يا رسول الله؟ فقال:(أكثرهم ذكراً للموت وأشدهم استعداداً له، أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة)(رواه ابن ماجة، وحسنه الألباني).
يقول الحسن رحمه الله: “إن الموت قد فضح الدنيا فلم يدع لذي لبٍّ بها فرحاً”.

ويقول مطرِّفٌ رحمه الله: “إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا نعيماً لا موت فيه. لقد أمِنَ أهلُ الجنة الموت فطاب لهم عيشهم وأمنوا الأسقام فهنيئاً لهم طول مقامهم”.

عباد الله: اذكروا الموت وسكراته، وحشرجة الروح وزفراتها، فمن أكثر ذكر الموت أكرمه الله بثلاث: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة. ومن نسي الموت ابتلي بثلاث: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة.

تفكروا في يوم المصرع، فهو يوم ليس لدفعه حيلة، ولا ينفع عند نزوله ندم ولا معتبة، {هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ}(يونس: 30). وأزِيلوا عن قلوبكم غشاوة الغفلة، فإنكم واقفون بين يدي من يحاسب على إصغاء الأسماع، ووساوس الصدور، ولحظات العيون:{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ}(الحاقة:18).

تذكروا الموت فإنه يهون المصائب والشدائد والمحن، ويردع عن المعاصي والذنوب، ويلين القلوب القاسية، ويمنع الركون إلى الدنيا الفانية.
يقول الحسن رحمه الله: “اتق الله يا بن آدم، لا يجتمع عليك خصلتان: سكرة الموت وحسرة الفوت”.

عباد الله: أمنية الكثير منَّا في هذه الحياة لا تزيد على طلب وظيفةٍ وزوجة ومركبٍ هنيءٍ وبيتٍ واسعٍ وأملاكٍ وعقاراتٍ وغير ذلك من اللذات، أما الأموات فانظروا ماذا يريدون من تلك الدار التي اغتروا بها وعرفوا حقيقتها ورحلوا عنها: فأما الصالحون فمن أمنياتهم:
* أن المؤمن إذا مات وحُمل على الأعناق، نادى أن يقدموه ويسرعوا به إلى القبر ليلقى النعيم المقيم، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين يذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان،ولو سمعها الإنسان لصعق)(رواه أحمد،والبخاري، والنسائي)

* وإذا أدخل قبره وبُشِّر بالجنة، ورأى منزلته فيها، فإنه لا يتمنى أن يعود إلى الدنيا، بل يتمنى أن تقوم الساعة، ليدخل في ذلك النعيم المقيم الذي ينتظره، قال صلى الله عليه وسلم :(إن العبد المؤمن إذا أجاب عن أسئلة الملكين وهو في قبره،
(…. نادى منادٍ من السماء: أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، ويُفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجلٌ حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح،فيقول: ربِّ أقم الساعة، ربِّ أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي..)(رواه أحمد، وأبو داود، وصححه الألباني في صحيح الجامع).

* والمؤمن إذا بُشِّر في قبره بالجنة، تمنى أن يعود إلى أهله ليبشرهم بنجاته من النار وفوزه بالجنة، قال صلى الله عليه وسلم :(إذا رأى المؤمن ما فُسح له في قبره، فيقول: دعوني أبشر أهلي)، وفي رواية:(فيقول: دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي، فيقال له: اسكن)(رواه أحمد، وصححه الألباني في صحيح الجامع). *

وها هو صاحب (يـس) الذي كان حريصاً على هداية قومه، إلا أنهم قتلوه وهو يدعوهم إلى الإيمان بالله ورسله، فلما عاين كرامة الله عز وجل له وفوزه بالجنة، تمنى أن يعلم قومه بذلك كي يؤمنوا، قال تعالى في شأنه:{قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ}(يس:26، 27)، * وأما الشهيد، فبالرغم من عظم منزلته الرفيعة التي يراها أُعدت له في أعلى درجات الجنة، فإنه يتمنى أن يعود إلى الدنيا، ليجاهد أعداء الله جل وعلا، ليقاتل ويُقتل ولو عشر مرات، لما يرى من الجزاء العظيم للشهداء وكرامتهم عند الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم :(ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء، إلا الشهيد؛ يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة)(رواه البخاري ومسلم).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {كَلاَّ إِذَا دُكَّتْ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}(الفجر: 21ــ 26).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، واستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله تعالى أيها المؤمنون والمؤمنات: واعلموا أن تقواه هي النجاة لكم من كربات الدنيا والآخرة.
عباد الله: وأما المقصرون في جنب الله تعالى الذين كانوا يُسوِّفون بالتوبة ويأملون مزيداً من العمر ليتمتعوا بزينة الدنيا، وكانت تمر ساعات أيامهم وهم في لهو وغفلة، فهؤلاء ما علموا أن الموت يأتي بغتة، وأنه إذا جاء لا يدع صاحبه يستدرك ما فات، فيبقى في قبره مرتهناً بعمله، متحسراً على تسويفه وتفريطه، متمنياً على الله الأمانيَّ التي لا تغنيه شيئا، ولكن ماذا يتمنون إذا أصبحوا في عداد الموتى:
* يتمنى أحدهم لو تعاد له الحياة ليصلّي ولو ركعتين، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله مر بقبرٍ فقال:(من صاحب هذا القبر؟) فقالوا: فلان، فقال (ركعتان أحبّ إلى هذا من بقية دنياكم)(رواه الطبراني وصححه الألباني).

* ويتمنى أحدهم الرجوع إلى الدنيا ولو لدقائق قليلة ليتصدّق وينفق في سبيل الله، قال الله جل وعلا حاكياً عن موقف العبد عند نزول الموت:{.. رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ}(المنافقون: 10) إنها أمنية مليئة بالحسرة والأسف، بعدما كان الأمل موجوداً في الحياة الدنيا.

* ويتمنى الآخر العودة إلى الدنيا ولو للحظات قليلة ليعمل عملاً صالحًا لينفعه في الدار الآخرة بعدما عاين الموت وسكرته، وعلم أنه منتقل من دار الدنيا إلى دار البرزخ، قال جل وعلا في شأنهم:{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(المؤمنون:99، 100).
* أن الكافر و المنافق وعلى الرغم من شدة العذاب الذي يلاقيه في قبره، فإنه يدعو قائلاً: ربِّ لا تقم الساعة، ربِّ لا تقم الساعة، لأنه يعلم أن ما بعد القبر هو أشد وأفظع.

عباد الله: نحن في دار العمل، والآخرة دار الجزاء، فمن لم يعمل هنا ندم هناك، وكل يوم نعيشه هو غنيمة، فإياكم والتهاون فيه، فإن غاية أمنية الموتى في قبورهم؛ حياة ساعة، يستدركون فيها ما فاتهم من عمل صالح، ولا سبيل لهم إلى ذلك البتة، لانتهاء فرصتهم في الحياة، وأنتم تلاحظون كم من الأحباب والأصحاب والآباء والأمهات الذين ودعناهم خلال الأيام الماضية، فاعتبروا واتعظوا واعملوا لما أمامكم لتسعدوا في الدنيا والآخرة .

أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعيننا على ما يرضيه عنا، وأن يحسن لنا ولكم الخاتمة، وأن يغفر لموتى المسلمين، وأن يملأ قبورهم نوراً وسروراً، وأن يرفع درجاتهم في الجنات.

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب: 56)اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
الجمعة:14-7-1434هـ