خطبة بعنوان: (مكة المكرمة .. فضلها وشرفها) بتاريخ 21-11-1434هـ

الأثنين 6 جمادى الآخرة 1440هـ 11-2-2019م

 

الخطبة الأولى :

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيرا، أما بعد:
فيأيها الناس اتقوا الله حق التقوى: واستمسكوا من الدين بالعروة الوثقى، وتزودوا ليوم العرض على الله:{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}.
عباد الله: جعل الله جل وعلا مكة المكرمة أشرف البقاع وأفضلها، وخير البلاد وأكرمها، فإليها تهفو القلوب، وفيها ترتاح النفوس، وعندها تُحطّ رحال الخائفين يدعون الله، يرجون رحمته ويخافون عذابه. إنها قبلة المسلمين، وموطن العبادة والإنابة، وفيها أول بيت بني لعبادة الله جل وعلا {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً..}(آل عمران:97،96)، وصف الله بيته في هذه الآيات بخمس صفات:(أنه أسبق بيوت العالم وُضع في الأرض ــ وأنه مبارك؛ والبركة كثرة الخير ودوامه ــ وأنه هدى للعالمين ــ وأن فيه من الآيات البيّنات الشيء الكثير ــ وتحقق الأمن لداخله).
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ مسجد وُضِع في الأرض أولاً؟ قال: (المسجد الحرام)، قلت: ثم أي؟ قال:(المسجد الأقصى)،
قلت: كم كان بينهما؟ قال: (أربعون عامًا وحيثما أدرَكتك الصلاة، فصلِّ)(رواه النسائي، وابن ماجه).
وفيها البيت الذي يثوب الناس إليه ويرجعون، ويجدون فيه الأمن والأمان، والراحة والسعادة، ولذة العبادة للمولى جل وعلا، {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى..}(البقرة:125).
وهي البلد الأمين الذي يأتيه الخير والرزق من كل مكان، {.. أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}(القصص: 57)، فالرزق يُساق إليه سوقاً، ويُجلب إليه جلباً استجابة لدعوة إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ ..}(البقرة:126)، وقال تعالى:{ وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ }(التين:3).
على أرضها بدأ نزول القرآن الكريم، ومنها بدأت دعوة الناس إلى طريق الهدى والنور والرشاد، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا..} (الشورى:7). اختارها الله تعالى لمولد نبيه عليه الصلاة والسلام ومبعثه، ودعوته.
وهي بلد الله الحرام، فلا يسفك فيها دم، ولا يصاد صيدها، ولا يعضد شجرها، ولا يقطع نباتها، ولا يلتقط لقطتها، قال جل وعلا:{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ}(النمل:91). وقال صلى الله عليه وسلم:(حرّم الله مكة، فلم تحل لأحد قبلي، ولا لأحد بعدي، أحلت لي ساعة من نهار، لا يختلى ــ أي: لا يقطع ـ خلاها ــ أي: الرطب من النبات ـ، ولا يُعْضَد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها، إلا لمعرِّفٍ..)(متفق عليه)، وقال أيضاً يوم فتح مكة:(إن هذا البلد حرَّمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفَّر صيده ولا يلتقط لقطتــــه إلا من عرَّفها ولا يختلى خلاها)(رواه مسلم)، فحرمة هذا البلد شرعً ودين وطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة.
عباد الله: ومكة هي أحب البلاد إلى الله وإلى رسوله، قال صلى الله عليه وسلم:(والله، إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت) (رواه الترمذي) وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم:(ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك).
سمَّاها الله جل وعلا في القرآن بالبلد الأمين، وأم القرى، ومكة، وبكة، والمسجد الحرام.
أوجب الله تعالى على المستطيع من المسلمين من شتى بقاع الأرض الإتيان إليها ودخولها للحج والعمرة، {.. وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً..} (آل عمران:97).
وجعل قصدها مكفراً للذنوب، ومُحِطاً للخطايا والسيئات، قال صلى الله عليه وسلم:(من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه)(متفق عليه، واللفظ لمسلم).
وفيها تضاعف الأجور والحسنات، فالصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، قال صلى الله عليه وسلم:(صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام)(رواه مسلم).
وفيها الحجر الأسود الذي ليس هناك موضع على وجه الأرض غيره يُشرع تقبيله، وهو حجر من الجنة. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(نزَل الحجر الأسود من الجنة، وهو أشدُّ بياضًا من اللبن، فسوَّدته خطايا بني آدمَ)(رواه الترمذي والنسائي وغيرهما)، وقال صلى الله عليه وسلم:(الحجر الأسود من الجنة)(رواه النسائي).
وفيها بئر زمزم التي هي خير ماء على وجه الأرض؛ قال صلى الله عليه وسلم: (خير بئر على وجه الأرض بئر زمزم، وخير ماءٍ على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام من الطُّعم، وشفاء من السقم)(رواه الطبراني في الكبير)، وقال صلى الله عليه وسلم:(إنها مباركة، إنها طعام طُعْمٍ)(رواه مسلم).
ومكة يحرم استقبالها واستدبارها عند قضاء الحاجة دون سائـــر البقاع لقوله صلى الله عليه وسلم:(لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا)(متفق عليه).
وهي محروسة بإذن الله من الدجال، فلا يستطيع دخولها، فقد قال صلى الله عليه وسلم:(ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال، إلا مكة والمدينة، ليس له من نقابها نقب إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فيخرج الله كل كافر ومنافق)(متفق عليه).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}(القصص: 57).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الكريم محمد بن عبد الله الذي علم أمته كل خيرٍ، وحذَّرهم من كل شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فاتقوا الله، واعلموا أنكم ملاقوه، فمن أحسن فله الحسنى وزيادة، ومن أساء فلا يلومن إلا نفسه.
عباد الله: لقد أودَع الله في هذه البقعة المباركة الطيِّبة من البركات والخيرات والرحمات ما جعلها تَفضُل سائر بقاع الأرض، وتَعلوها كرامة وعزَّةً وشرفًا.
فهي رمز لوَحدة المسلمين؛ عربهم وعجَمهم، أبيضهم وأسودهم، ألا كلُّكم من آدمَ، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى؛{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(الحجرات: 13).
ومن زارها وأقام شعائرها ومناسكهاً تعبداً واستجابة لأمر الله ازداد قلبه إيمانًا ويقينًا وعلمًا بعظمة الله وجلاله، وحكمته وقدرته.
وفيها الكعبة وهي القِبلة التي يتوجه إليها المسلمون بقلوبهم وأجسادهم، ويجتمعون عليها بأرواحهم، ويَرْنون إليها بأبصارهم، وحولها يطوفون تعبداً لربهم.
جعلها الله جل وعلا قيامًا للناس، فببقائها على وجه الأرض ضمانٌ لبقاء هذا الكون؛ بسمواته وأرضه، وشمسه وقمره وكواكبه، وجباله وأنهاره، فإذا هدم كان إيذانًا بدمار هذا الكون وفساده؛ قال ابن عمر رضي الله عنهما: “استمتِعوا من هذا البيت، فإنه هُدِم مرتين، ويُرفع في الثالثة”(رواه الحاكم، وابن حِبَّان)، وروى عبد الرزاق في مصنَّفه من حديث عليٍّ رضي الله عنه: “استكثِروا من هذا الطواف بالبيت قبل أن يُحال بينكم وبينه، فإني به أَصمَع أَصعَل يَعلوها يَهدِمها بمِسحاته”.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(يُخرِّب الكعبة ذو السُّوَيْقَتين من الحبشة)(رواه البخاري).
فاتقوا الله أيها المسلمون واحرصوا على زيارتها، والإكثار من الصلاة والطواف والعمل الصالح فيها قبل أن يحال بينكم وبينها، واحذروا عند الذهاب إلى الحج من التحايل وليكن ذهابكم على وجه صحيح بأخذ التصريح اللازم لتهنئوا بحج سليم وتأمنوا في تنقلاتكم في المشاعر.
أسأل الله تعالى بمنه وكرمه ألا يحرمنا زيارتها، وأن يديم عليها نعمة الأمن والأمان والسلامة والإسلام، وأن يحفظ كل حاج ومعتمر ذهب إليها راجياً رحمة ربه.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب:٥٦).
الجمعة: 21-11-1434هـ