خطبة بعنوان : (محاسبة النفس) بتاريخ 27-12-1434هـ.

الأثنين 6 جمادى الآخرة 1440هـ 11-2-2019م

الخطبة الأولى :
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:

فاتقوا الله حق التقوى، وتزودا ليوم لقاء المولى، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية.

عباد الله: ما أجمل أن تكون حياتنا عامرة بطاعة الله، وما أجمل أوقاتنا عندما نكثر فيها من ذكر الله، وما أسعد قلوبنا وهي تحيا وتعيش بين محبة الله وخشيته وطلب مرضاته، فإذا حُرمنا ذلك كانت أيام أعمارنا وبالاً علينا، فلا نرى للسعادة مكاناً في حياتنا، ولا تطمئن قلوبنا، ولا نرى للدنيا طعماً، لأن أرواحنا التي بين جنباتنا ارتضت بملذات الدنيا الفانية، وتعلقت بغير بارئها، وفي زماننا هناك من يتمنى الموت من أجل أن يخرج من الشقاء الذي يتقلب فيه ليلا ونهارا بسبب بعده عن خالقه ومولاه.

أيها المؤمنون: إن هذه الدنيا التي نعيش فيها جعلها الله لنا دار ابتلاء وامتحان، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}(الملك:2)، ينجح فيها من أرضى ربه، وعمل صالحاً لآخرته، ويرسب فيها من أسخط ربه، وعمل سيئا فكان سبباً في مهلكته.

لقد شغلتنا الدنيا بشهواتها وملذاتها عن الدار الآخرة، وفرطنا في كثير من الطاعات، وضيعنا كثيراً من الأوقات، وكل من ترك محاسبةَ نفسِه في دار الدنيا سيتحسر يوم الوقوف بين يدي الله، قال جل وعلا: {أنْ تَقولَ نَفسٌ يا حَسْرتى عَلى ما فَرطتُ في جَنْبِ اللهِ وإنْ كُنْتُ لَمِنَ الساخِرين}(الزمر: 56).

لقد خاطب المولى جل في علاه عباده مذكراً إياهم بأهمية تقواه والتزود بالعمل الصالح ليوم لقاه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(الحشر: 18)، وقال تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}(البقرة: 281)، كي يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا ولينظروا ماذا قدموا لأنفسِهم من الأعمالِ الصالحةِ ليومِ المعاد والعرضِ على الله.

عباد الله: إن من تأملَ أحوالَ الصحابةِ رضي الله عنهُم وجدَهم في غايةِ العملِ معَ غايةِ الخوف ، ونحن جمعنا بين التفريطِ في العمل والأمن من عذاب الله.

فهذا الصديق رضي الله عنه : كان يبكي كثيراً، ويقول: «ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا» وقال: «والله ، لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد».

وعن عمرُ بن الخطابِ رضي الله عنه أنه قال: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ}(الحاقة: 18)”.

وعن الحسن رحمه الله:”إن المؤمنَ واللهِ ما تراهُ إلا يلومُ نفسهُ على كلِّ حالاته، يستقصرها في كل ما يفعل، فيندمُ ويلومُ نفسَهُ، وإنّ الفاجرَ ليمضي قُدُمـاً لا يعاتبُ نفسَه”.

وعنه رحمه الله في قوله تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}(القيامة: 2)، قال: “لا تلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه، ماذا أردت بكلمتـي؟ ماذا أردت بـأكلتـي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والعاجز يمضي قدماً لا يحاسب نفسه”.

وعن ميمون بن مهران قال: “لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه، حتى يعلم من أين مطعمه، ومن أين مشربه، ومن أين ملبسه، أمِن حلال ذلك أم حرام”

عباد الله: إن محاسبة النفس لها فوائدٌ عظيمة وكثيرة، ومن ذلك :

أولاً: معرفةُ حقُ اللهِ تعالى وعظيم فضله وجوده على خلقه، وهذا يؤدي إلى تعظيمه، والخوف منه، وبذل الجهد في إرضائه .

ثانيـاً: الإطلاعُ على عيوبِ النفس، فإن ذلك يمكن العبد من مجاهدتها وإصلاحها.

ثالثـاً: انكسارُ العبد وتذلُلَه بين يدي ربه تبارك وتعالى.

رابعـاً: الاعتراف بالذنب والمبادرة إلى التوبةُ والندمُ وتدارك ما فات في زمنِ الإمكان .

خامساً : الزهد ، ومقتُ النفس ، والتخلصُ من التكبرِ والعُجْب .

سادسـاً: الاجتهادُ في الطاعةِ وتعمير وقته بما ينفعه بين يدي ربه .

سابعـاً: ردُ الحقوقِ إلى أهلِـها، والتحلل من المظالم قبل حلول الأجل .

ثامنـاً: الاستعداد ليوم الرحيل، وتقديم كل ما ينفع العبد قبل لقاء الله جل وعلا.

عباد الله: ومن الأسبابٌ المعينة على محاسبةِ النفس، ما يلي :

1. أن يعلم العبد أنه بقدر اجتهاده في محاسبةِ نفسه اليوم، كان ذلك أدعى لأن يستريح غداً ، وكلما أهملها اليوم اشتدَّ عليه الحسابُ غداً .

2. معرفةُ أنَّ الربحَ المترتب على محاسبة نفسه هو نيل رضا الله ودخول جنته، والتمتع بلذة النظرُ إلى وجهِه الكريم، وأنَّ تركها يؤدي به إلى الشقاء والهلاكِ ودخولِ النار والحجابِ عن الرب تبارك وتعالى .

3. صحبةُ الأخيار الذينَ يُطلِعونَه على عيوبِ نفسِه ، وتركُ صحبة من عداهم .

4. زيارةُ القبورِ والنظرُ في أحوالِ الموتى وتذكر أنهم لا يستطيعونَ محاسبةَ أنفسِهم أو تدارُكِ ما فاتَـهم .

5. حضورُ مجالس العلمِ والذكر فإنها تذكره وتعينه على محاسبة نفسه .

6. البعدُ عن أماكن اللهوِ والغفلة لأنها تُنسيه محاسبة نفسه .

7. النظرُ في سيرة السلف الصالح والاستفادة منها، فإنهم كانوا أشد الناس على محاسبة أنفسهم .

8. وأخيراً.. الإلحاح على الله وكثرة اللجوء إليه ليعينك على مجاهدة نفسك وإصلاحها.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}(آل عمران: 30).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الكريم محمد بن عبد الله الذي علم أمته كل خيرٍ، وحذَّرهم من كل شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فاتقوا الله، واعلموا أنكم ملاقوه، فمن أحسن فله الحسنى وزيادة، ومن أساء فلا يلومن إلا نفسه.

عباد الله: اعلموا أن أعدى أعدائنا هي أنفُسنا التي بين جنباتنا، فقد خُلِقتْ أمارةً بالسوءِ ميالةً إلى الشرورِ، وقد أُمرنا بمجاهدتها وتقويمها وتزكيتها وفطامها، وأن نقودَها قوداً إلى عبادةِ ربِها، فإن نحن أهملناها ضلّتْ وشَرَدتْ، وإن لزمناها بالتوبيخِ والمحاسبة رَجونا أن تصيرَ مُطمئنة ، فلا تغفلنّ عن تذكيرِها.

ذكر الإمام أحمد عن وهب قال : «مكتوب في حكمة آل داود: حق على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات: ساعةٍ يناجي فيها ربه، وساعةٍ يحاسب فيها نفسه، وساعةٍ يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعةٍ يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن في هذه الساعة عوناً على تلك الساعات وإجماماً للقلوب».

إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره، وفي لسانه وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كله..

فاتقوا الله في أنفسكم وحاسبوها وراقبوها وقوموها وأعينوها على أمر الله تعالى فالأيام تمضي، وكذا الشهور والأعوام، وها هو عام من أعمارنا يمضي، فمن أحسن فله الحسنى، ومن أساء فلا يلومن إلا نفسه، واعلموا أن الأعمال بالخواتيم.

ووصية خاصة للشباب ألا يذهبوا إلى سوريا حيث اختلطت الأمور، وأصبح هناك من يصطادون هؤلاء الشباب ويزجون بهم في صراعات وخلافات تعود عليهم وعلى مجتمعهم وبلادهم بالأضرار العظيمة.

ثم إن أهل العلم قرروا حرمة الذهاب للجهاد، وإذا كان بين المسلمين والكفار ـ إلا بعد استئذان الوالدين وولي الأمر، فكيف إذا كان هناك رايات كثيرة وذهب الشاب ووالداه غاضبان عليه، ولم يستأذن ولي الأمر، أليست الأضرار ظاهرة والنتيجة عكسية.

فاحذروا يا شباب وحذروا غيركم، وانتبهوا يا أولياء الأمور لأبنائكم، ومن أراد نصرة المستضعفين فعليه بالدعاء في كل وقت، والتبرع عن طريق الجهات الرسمية، وحذار حذار من أن يتبرع أحد لجهات أو أفراد غير مصرح لهم لأن العواقب وخيمة. أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لكل خير.

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب:56).

الجمعة: 27-12-1434هـ