خطبة بعنوان: (أول منازل الآخرة “القبر” ) بتاريخ 3-2-1435هـ.
الخطبة الأولى :
الحمد لله رب العالمين الذي خلق عباده {مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً}، ثم يرجعون إليه فيجزي كل نفس بما كسبت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من عمل الصالحات وتزود للقاء رب الأرض والسماوات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن تقواه هي سبيل النجاة، وخير زاد ليوم الوقوف بين يديه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(الحشر: 18):
عباد الله: الإنسان في هذه الدنيا يمر بمراحل متعددة، وأول هذه المراحل هي مرحلة الحياة الدنيا، وهي من أقصر المراحل في حياته، فبدايتها تكون في بطن أمه، ثم مرحلة الطفولة، ثم مرحلة المراهقة، ثم مرحلة الكهولة، ثم مرحلة الشيخوخة، ثم مرحلة أرذل العمر، وهي آخر المراحل، وقليل من يتجاوزها، وبعدها الموت والرحيل عن الدنيا.
فهي حياة قصيرة مهما طالت، وأيامها قليلة مهما كثرت، والكيس فيها من تزود منها بما ينفعه يوم لقاء ربه، والخاسر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، فهي مزرعة للآخرة، قال صلى الله عليه وسلم:(اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ)(رواه الحاكم، وقال حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وصححه الألباني في صحيح الجامع).
من عاش فيها على طاعة الله حتى يختم له بذلك عاش على خير ومات على خير، يقول صلى الله عليه وسلم:(خيركم من طال عمره وحسن عمله)(رواه أحمد، والترمذي).
وأما المنزل الثاني فهو المنزل الأخروي، وهذا المنزل إما سعادة أبدية أو شقاوة أبدية، وأوله المنزل في القبر ثم يتلوه الجزاء، والحساب، وتقرير العباد. يقول صلى الله عليه وسلم:(إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيُدْنِي مِنْهُ الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، وَيَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَيَقُولُ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ ، فَيَقُولُ: نَعَمْ، يَا رَبِّ …) (رواه البخاري ومسلم).
عباد الله: كثير منا يرى القبور ولكنه لا يرى ما بداخلها من الظلمة، والوحشة، والشدة، والضيق، والعذاب للكفار والعصاة، والنعيم للمؤمنين.
فأين آباءنا وأمهاتنا؟ وأين أحبابنا، وأصحابنا، وأقاربنا؟ نُقلوا من الدور إلى القبور، ومن الضياء إلى الظلمة، ومن المؤانسة بالأهل والولدان إلى وحشة الوحدة والهوام والديدان، ومن المضجع الوثير إلى التمرغ في الثرى والتراب، أخذهم الموت على غِرَّة، وتساووا جميعاً بعد موتهم في تلك الحفرة لكنهم اختلفوا، فمنهم المتنعم، ومنهم المتقلب في العذاب، فاللهم إنَّا نسألك أن تجعل قبورنا وقبور والدينا روضة من رياض الجنة.
كان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على قبر يبكى حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي من هذا! ، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(القبر أول منازل الآخرة، فإن ينج منه فما بعده أيسرُ منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشدُّ منه) قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله ما رأيت منظراً قط إلا والقبر أفظع منه)(رواه أحمد والترمذي، وحسنه الشيخ الألباني).
ويقول صلى الله عليه وسلم (إن القبور مملوءة ظلمة لعدم المنافذ التي يدخل منها الضوء إليها فلا ينيرها إلا الأعمال الصالحة أو الشفاعات المقبولة الراجحة)(رواه مسلم).
وعن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(العبد إذا وضع في قبره وتولى وذهب أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فأقعداه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا من الجنة قال النبي صلى الله عليه وسلم فيراهما جميعا وأما الكافر أو المنافق فيقول لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيقال لا دريت ولا تليت ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين..)(رواه البخاري).
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه: وفيه: (ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه)(رواه أحمد وغيره).
عباد الله: لقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم ومن بعدهم يعملون للقبور ألف حساب، ويستعدون لها أشد استعداد، وأما نحن فنسأل الله اللطف والعون على القيام بالأعمال الصالحة التي ترضيه، وعلى البعد عن المعاصي الموجبة لسخطه، فعلينا أن نستعد لهذا المنزل الحتمي الذي لا مفر منه، يقول صلى الله عليه وسلم (القبر أول منازل الآخرة، فإن ينج منه فما بعده أيسرُ منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشدُّ منه)، ويقول صلى الله عليه وسلم (والله ما رأيت منظراً قط إلا والقبر أفظع منه).
فعلى كل مسلم أن يتذكر ساعتين، ساعة بين أهله في بيته ومتاعه الدنيوي، وساعة في قبره، لا أنيس، ولا جليس إلا عمله.. عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار, فانتهينا إلى القبر ولما يلحد, فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة, وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت في الأرض، فجعل ينظر إلى السماء وينظر إلى الأرض وجعل يرفع بصره ويخفضه ثلاثاً،
فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر» مرتين أو ثلاثاً، ثم قال: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ثلاثاً)(رواه أحمد).
عباد الله: لو تصورنا القبر، تلك الحفرة التي ينزل فيها المرء وهي طوله وعرضه دون زيادة التراب يحبط به من كل الجهات حتى السقف، ليس فيه طعام ولا شراب، ولا كساء، ولا لباس، ولا قصور تسكن، ولا نساء تنكح، ليس فيه أبواب ولا نوافذ، يحال فيه بين المرء وأهله، وأصحابه، وأحبابه، وصدق الله العظيم {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ}(آل عمران: 145). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الكريم محمد بن عبد الله الذي علم أمته كل خيرٍ، وحذَّرهم من كل شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين.
عباد الله: قال بعض السلف: “العقلاء ثلاثة: من أرضى ربه قبل أن يلقاه، ومن استعد لقبره قبل أن ينزله، ومن ترك الدنيا قبل أن تتركه”.
إن للقبر ضمة لا ينجو منها أحد، ولو نجا أحد لنجى سعد بن معاذ، وهذه الضمة للمؤمن كفارة لذنوبه، وهي كضمة الأم الحنون لولدها، وأما غيره فيضمه القبر حتى تختلف أضلاعه.
فعلينا أيها المؤمنون أن نزور القبور للاعتبار والادّكار، فقد حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال:(زوروا القبور فإنها تذكر الموت)(مسلم). وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم:(نهيتكم عن زيارة القبور فزروها)(رواه مسلم).
وكان صلى الله عليه وسلم إذا أتى المقابر قال:(السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، أنتم السابقون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أنتم لنا فرط، ونحن لكم ، أسأل الله لنا ولكم العافية)(مسلم).
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أبصر جماعة فقال: (علام اجتمع هؤلاء). قيل: على قبر. قال: ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبدى بين يدي أصحابه مسرعاً حتى انتهى إلى القبر فحثى عليه، قال: فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع، فبكى حتى بل الثرى من دموعه، ثم أقبل علينا فقال: (أي إخواني لمثل هذا فأعدوا)(رواه أحمد وابن ماجة).
عباد الله: ومن فوائد زيارة القبور أنها تذكر بالموت والدار الآخرة، وتقصر الأمل، وتزهد في الدنيا، وترقق القلوب، وتدمع العيون، وتدفع الغفلة، وتورث الخشية، وتعين على الاجتهاد في العبادة .
نسأل الله أن يوفقنا للاستعداد لهذا المنزل، وألا يجعلنا من النادمين، وأن يجعل قبورنا بعد فراق الدنيا خير منازلنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب:٥٦).
الجمعة: 3-2-1435هـ