خطبة بعنوان: (الحج وفضل العشر وبعض أحكام الأضحية) بتاريخ 2-12-1435هـ.

الأثنين 6 جمادى الآخرة 1440هـ 11-2-2019م

 

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون واعلموا أن تقواه خير زاد ليوم المعاد، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(الحشر: الآية 18).
عباد الله: لقد هلَّت علينا أيامٌ مباركةٌ كريمةٌ، لها فضائلها ومميزاتها، خصَّها الله سبحانه وتعالى عن باقي أيام العام بالتشريف والتفضيل، بل إنه جل وعلا أقسم بها، والعظيم لا يقسم إلا بعظيم، قال جل وعلا:{وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ}(الفجر: الآيتان 1، 2).
وشهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها أفضل أيام الدنيا، وحثَّ على العمل الصالح فيها؛ قال صلى الله عليه وسلم:(ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام ـ يعني أيام العشر ـ قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)(رواه البخاري).
وهي أيامٌ شرع الله تعالى فيها ذكره، قال تعالى:{ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام..}(الحج:28). وفيها يوم عرفة، وهو يوم الحج الأكبر، ويوم مغفرة الذنوب، ويوم العتق من النيران. وفيها يوم النحر: الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم:(أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر)(رواه أبو داود، والنسائي، وصححه الألباني). ويجتمع فيها أمهات العبادة من حج وعمرة، وصلاة،وصيام، وأضحية، وصدقة، وذكر لله).
عباد الله: ومن أعظم الأعمال التي ينبغي استغلالها في هذه العشر ما يلي:
1ـ أداء مناسك الحج والعمرة: لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)(متفق عليه).
2ـ الصيام: وهو داخل في جنس الأعمال الصالحة، بل هو من أفضلها، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على صيام يوم عرفة من بين أيام عشر ذي الحجة، فقال:(صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده)(رواه مسلم). ويسن للمسلم أن يصوم التسع الأول من ذي الحجة لأن النبي صلى الله عليه وسلم حثَّ على العمل الصالح فيها، والصيام يدخل في ذلك دخولاً أولياً.
3ـ الصلاة: فيجب على المسلم المحافظة عليها في أوقاتها مع الجماعة، وأن يكثر من النوافل، فإنها من أفضل القربات، قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى:(وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه)(رواه البخاري).
4-التكبير والتحميد والتهليل والذكر: فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)(رواه أحمد). ويستحب للمسلم أن يجهر بالتكبير في هذه الأيام ويرفع به صوته.
5-الصدقة: وهي من جملة الأعمال الصالحة التي يستحب للمسلم الإكثار منها في هذه الأيام، قال صلى الله عليه وسلم(ما نقصت صدقة من مال)(رواه مسلم)
ومن الأعمال الأخرى التي يستحب الإكثار منها في هذه الأيام:(قراءة القرآن، والاستغفار، وبر الوالدين، وصلة الأرحام والأقارب، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، وقيام الليل، والإصلاح بين الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحفظ اللسان والفرج، والإحسان إلى الخلق، وإكرام الضيف، وإماطة الأذى عن الطريق، والنفقة على الزوجة والعيال، وكفالة الأيتام، وزيارة المرضى، وقضاء حوائج المسلمين، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وإدخال السرور على المسلمين إلى غير ذلك من الأعمال الصالحة الكثيرة.
عباد الله: ومن الأعمال الصالحة في هذه العشر التقرب إلى الله تعالى بذبح الأضاحي والتبرع بشيء منها للفقراء والمساكين دفعاً لآلامهم ورغبة في إسعادهم وتشرع في يوم النحر وأيام التشريق. وقد ثبت عن أنس رضي الله عنه قال:(ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما)(متفق عليه).
والأضحية هي ما يُذبح من بهيمة الأنعام في يوم النَّحر وأيام التشريق تقرباً إلى الله تعالى، وهي عبادة مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}(الكوثر 2)، وقال صلى الله عليه وسلم:(من ذبح بعد الصلاة تم نُسُكه، وأصاب سنة المسلمين)(رواه البخاري) وأجمع المسلمون على مشروعية الأضحية، وكونها من شعائر الدين.
وحكم الأضحية: أنها سُنَّة مؤكدة في حق القادرين، لقوله صلى الله عليه وسلم:(إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يُضحّي فلا يَمسّ من شعره وبشره شيئاً)(رواه مسلم).
وذهب بعض أهل العلم إلى وجوبها مستدلين بحديث:(على أهل كل بيت أُضحية)، وحديث:(من وجد سعة ولم يضحِّ فلا يقربنّ مصلانا)(رواهما الإمام أحمد). والاحتياط للمسلم أن لا يترك الأضحية مع القدرة عليها، لما فيها من تعظيم الله وذكره، ولما في ذلك من براءة الذمة.
شروط الأضحية: وللأضحية شروط لا بد من توفرها حتى تكون مجزئة مقبولة:
(أن تكون من بهيمة الأنعام وهي الإبل، والبقر، والغنم، ضأنها ومعزها، وأن تبلغ السن المعتبرة شرعاً، وهي ستة أشهر في الضأن، وفي المعز سنة، وفي البقر سنتان، وفي الإبل خمس سنين، وأن تكون سليمة من العيوب، لقوله صلى الله عليه وسلم:(أربع لا يجزين في الأضاحي ، العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها، والعجفاء التي لا تنقي)(صحيح، صحيح الجامع رقم 886 ). وهناك عيوب أخف من هذه العيوب لا تمنع الأجزاء ولكن الأولى أن تكون سليمة كثيرة اللحم، فلا تكون ساقطة الأسنان ولا مقطوعة القرن والأذن.
(.. ويحرم بيع الأضحية وهبتها إذا تم تعيينها إلا أن يبدلها بخير منها، وإن ولدت ضُحى بولدها معها، ويجب ذبحها في وقتها المحدد، من بعد صلاة العيد والخطبة،لقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان ذبح قبل الصلاة فليُعد)(رواه البخاري ومسلم) ، ولقول علي رضي الله عنه:(أيام النحر يوم الأضحى وثلاثة أيام بعده). ويمتدُّ وقت الذبح على الصحيح حتى غروب شمس آخر يوم من أيام التشريق، وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، فتكون مدة الذبح أربعة أيام، لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل أيام التشريق ذبح)(رواه أحمد، وحسنه الألباني).
والأولى للمضحي أن يذبح أضحيته بنفسه إن كان يُحسن الذبح، وله أن ينيب غيره إن كان لا يحسن الذبح، وينبغي أن يراعي آداب الذبح كالإحسان إلى الذبيحة وإراحتها، وأن يستقبل القبلة، ويقول: بسم الله الله أكبر، ويسأل الله القبول. وتجزئ الأضحية الواحدة عن الرجل وأهل بيته وإن كَثِروا، لحديث أبي أيوب رضي الله عنه قال: (كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يُضحّي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون)(رواه الترمذي). ويستحب للمُضحّي أن يأكل من أضحيته، ويهدي، ويتصدّق، والأمر في ذلك واسع من حيث المقدار، لكن المختار عند أهل العلم أن يأكل ثلثاً، ويهدي ثلثاً، ويتصدق بثلث. ويُحرم بيع شيءٍ من الأضحية من لحم أو جلد أو صوف أو غيره لأنها مال أخرجه المسلم تقرباً لله تعالى، فلا يجوز الرجوع فيه كالصدقة. وعلى من أراد أن يُضحّي أن لا يأخذ من شعره ولا من بشرته، ولا من أظفاره شيئاً، إذا دخلت عشر ذي الحجة لقوله صلى الله عليه وسلم:(إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يُضحّي فليمسك عن شعره وأظفاره)(رواه البخاري ومسلم).
قال الله تعالى:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ}(الكوثر). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الكريم محمد بن عبد الله الذي علم أمته كل خيرٍ، وحذَّرهم من كل شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واحمدوه واشكروه على نعمه العظيمة ففي هذه الأيام المباركة يجتمع الحجاج من كل حدب وصوب ليؤدوا مناسك الحج والعمرة يتقربون إلى الله استجابة لأمره، يأتون من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم، فسلام عليهم وهم يلبسون ثياب الإحرام ملبين (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك)، وسلام عليهم وهم يطوفون بالبيت العتيق، وسلام عليهم وهم يقفون بين الحطيم وزمزم، وسلام عليهم وهم يسعون بين الصفا والمروة، وسلام عليهم وهم يقفون في صعيد عرفات ملبين منيبين خاضعين خاشعين، وسلام عليهم وهم يبيتون في مشعر مزدلفة، وسلام عليهم وهم يرمون الجمرة، وينحرون هديهم، ويحلقون رؤوسهم، ويبيتون في منى.
سلام على تلك الوجوه مع اختلاف ألسنتهم وألوانهم وهي تلهج بالتلبية وتوحيد الله جل وعلا، لباسهم واحد، ونداؤهم واحد، يدعون رباً واحداً لا تختلف عليه تلك اللغات ولا هاتيك اللهجات، ولا تنوع المسئولات، ولا تعدد الرغبات، يجيب الداعين، ولا يخيب الراجين، ويعطي السائلين.. فسبحان من جمع هؤلاء الخلق الذين أتوا من شتى بقاع الأرض في مكان واحد على اختلاف ألوانهم وألسنتهم راغبين في المغفرة وقبول العمل..
فما أعظم فضل الله جل وعلا على عباده.. أسأله سبحانه وتعالى أن ييسر للحجيج حجهم، وأن يعينهم على أداء مناسكهم، وأن يحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وأن يتقبل منهم صالح أعمالهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦).

الجمعة: 12/2 /1435هـ