الخطبة الأولى :
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }(آل عمران: الآية 102).
عباد الله: روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سَتَكُونُ فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ)( رواه البخاري (3601) ومسلم (2886).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله ، في شرح معاني هذا الحديث :” قوله : (من تَشَرَّفَ لها) أي: تطلَّع لها، بأن يتصدى ويتعرض لها ولا يعرض عنها، (تستشرفه) أي: تهلكه ، بأن يشرف منها على الهلاك، … يريد من انتصب لها انتصبت له، ومن أعرض عنها أعرضت عنه. (فمن وجد فيها ملجأ) أي يلتجئ إليه من شرها، (أو مَعاذا) هو بمعنى الملجأ، (فليعذ به) أي: ليعتزل فيه ليسلم من شر الفتنة. ووقع تفسيره عند مسلم في حديث أبي بكرة ، ولفظه:(فإذا نَزَلَت فمن كان له إبل فليلحق بإبله ـ وذكر الغنم والأرض ـ قال رجل: يا رسول الله! أرأيت من لم يكن له؟ قال: يعمد إلى سيفه فَيَدقُّ على حدِّه بحجرٍ ثم لينج إن استطاع)”(انتهى.”فتح الباري ” (13/30) .
قال الإمام النووي رحمه الله : “وأما قوله صلى الله عليه وسلم:(القاعد فيها خير من القائم) إلى آخره، فمعناه بيانُ عظيمِ خطرِها، والحثُّ على تجنبها، والهربِ منها، وأن شرَّها وفتنتَها يكون على حسب التعلق بها” . انتهى.” شرح مسلم ” (18/9-10) .
إن هذا الحديث العظيم الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من قبل ما يزيد عن ألف وأربعمائة سنة يبين لنا ما تعيشه أمة الإسلام من الابتلاءات والمحن والفتن بسبب تفرقها، وبعدها عن المنهج الحق الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام من بعده، وأنه يجب على المسلم أن يحتاط لدينه ولنفسه من التعرض لتلك الفتن لئلا يهلك مع الهالكين، بل يلزمه الفرار منها والبعد عنها بشتى السبل والوسائل المتاحة.
عباد الله: إن ما تعرضت له بلادنا ـ المملكة العربية السعودية ـ حرسها الله فيما مضى وخاصة ما حصل يوم الجمعة الماضي من تفجير إجرامي آثم وقع بمسجد علي بن أبي طالب في بلدة القديح، والذي ترتب عليه إراقة دماء ووقوع مصابين، وحصول الفزع والخوف لدى الناس، عمل مشين لا يقره دين ولا عقل ولا فطرة سوية، لأن حرمة الدماء أمرها عظيم في دين الله جل وعلا.
وهذا الفعل يدل على أن هناك أجهزة خبيثة ودوائر استخباراتية معادية وقنوات فضائية ومواقع تواصل اجتماعي تعمل في الخفاء من أجل زعزعة استقرار أمن هذا البلد المبارك وتمزيق وحدته، وإدخاله في دوامة العنف، وهنا لا بد من الحذر وتفويت الفرصة على الأعداء، والعمل على تضافر الجهود والوقف في وجه كل ما يكون سبباً في خلخلة الأمن والأمان في بلادنا.
لقد جاء الإسلام آمراً بالعدل والإحسان، والتعامل الطيب مع الآخرين حتى ولو كانوا مخالفين لعقيدتنا إلا من كان منهم محارباً لنا في ديننا، قال تعالى:{ لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(الممتحنة: الآية 8).
لقد بحث أعداء الإسلام عن الطريق الأمثل للإيقاع بالمسلمين وحاولوا بشتى الطرق تنفيذ مخططهم ومنه تأجيج الفتنة بين أهل الإسلام، وسلكوا في ذلك طرقاً كثيراً، من أخطرها استغلال خوارج هذا العصر ـ كداعش وغيرها ـ واتخذوهم مطية سهلة لهم لتنفيذ مخططاتهم وأجنداتهم مستغلين حماقتهم وجهلهم وعبثيتهم وفوضويتهم وتهورهم وعداوتهم لغيرهم.
إن هذه الجماعة الحمقاء وأمثالها لهم صفات كثيرة ينبغي على كل مسلم معرفتها للحذر منها، ومن ذلك:
بعدهم عن العلماء الربانيين، وتركُهم لجماعة المسلمين سواء في المساجد أو خارجها، وبعدهم عن أهليهم وذويهم وعدم استشارتهم، وسبّهم للدولة والتحدث عن سلبياتها دون الإيجابيات. وعدم إيمانهم بالبيعة لولي الأمر؛ بل لمن يختارونه منهم دون غيرهم، واحتقارهم للعلماء والدعاة وتقليلهم من مكانتهم وهيبتهم وشأنهم، وذمهم لطلاب تحفيظ القرآن الكريم ورميهم بالتقاعس وقلة الهمة، وتعاملهم مع المقاطع والحسابات والأخبار التي تدعو إلى الخروج على ولي الأمر والثورة على بلادهم.
ومن ذلك أيضاً: قلة مخالطتهم للناس إلا مع من كان يحمل نفس أفكارهم وتوجهاتهم، وتحدثهم فيما بينهم عما يقومون به من تفجيرات ويصفونها بالبطولات وأمواتهم
بالشهداء، وهذا كذب وتضليل على الناس، فأي بطولة وأي شهادة وهم يقتلون المسلمين .
عباد الله: إن شعب المملكة العربية السعودية بكافة أطيافه وطوائفه ومكوناته متوحّد تحت راية التوحيد، في نسيج فريد لا تعهده أي دولة من دول العالم الغربي أو الشرقي، وغير خاف عليكم ما تقوم به بعض الجهات المشبوهة المعادية لنا من بث للفتن، وإيقاد للحروب، وزرع للعملاء لإضعافنا والتمكن من التسلط علينا، وأنَّى لهم ذلك ما دمنا مجتمعين على المنهج الحق، وتحت ولاة أمر نحبهم ويحبوننا، وعلماء ربانيين نأخذ منهم وعنهم، والجميع بحمد الله صفاً واحداً في وجه كل من يريد ببلادنا الشر والمكر.
ونحن كمواطنين نند بالعمل الإجرامي الآثم في القديح، وندرك أن المستهدف في النهاية هذا البلد الآمن، وهنا لابد من محاسبة من كان سبباً في هذا التفجير كائناً من كان.
عباد الله: ولقد صدر بيان من هيئة كبار العلماء حول هذه الجريمة جاء فيه: (إن الجريمة التي وقعت في القديح جريمة بشعة لما فيها من هتك للحرمات المعلومة من الدين بالضرورة، ففيها هتك لحرمة الأنفس المعصومة، وهتك لحرمة الأموال المحترمة، وهتك لحرمات الأمن والاستقرار وحياة الناس الآمنين المطمئنين في مساجدهم ومساكنهم ومعايشهم، وما أبشع وأعظم جريمة من تجرأ على حرمات الله وظلم عباده وأخاف المسلمين ..) إلى آخر البيان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(آل عمران: 102، 103).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن تقوى الله خير زاد ليوم المعاد.
عباد الله: إن ما يحدث في بلادنا ـ حرسها الله ـ من انزلاق بعض أبنائها في براثن فكر الخوارج، وتنفيذهم لمخططات الأعداء يحتاج منا إلى وقفات هامة، ومن ذلك:
أولاً: يجب على أولياء الأمور الاهتمام بأبنائهم، ومتابعتهم، والاقتراب منهم، ومحاورتهم، ومناقشتهم فيما يعرض لهم من أفكار ومشكلات تمس دينهم وحياتهم لئلا نتركهم لمن لا دين له ولا عقل؛ فنكون سبباً في تسليمهم بأيدينا إلى طريق الغواية والضلال والفتنة.
ثانياً: على وزارة التعليم دورٌ كبيرٌ في توعية الطلاب والطالبات بشتى الوسائل المرئية والمسموعة والمكتوبة من خطورة هذا الفكر الضال، و ما وقعت فيه تلك الفئة الباغية من قتل وتدمير ونشر للخوف بين المسلمين، وما ترتب على تلك الأفعال من مفاسد عظيمة عادت على البلاد والعباد بالشر الوبيل.
ثالثاً: على المعلمين والمعلمات والمربين والمربيات مسؤولية كبيرة وعظيمة في بيان ما يعرض لأبنائنا وبناتنا من فتن وشبهات عن طريق القنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي، ووضع الحلول المناسبة لدفع هذه الشرور عنهم.
رابعاً: على طلبة العلم والدعاة في بلادنا دور كبير في توعية الشباب بالإسلام الوسطي الصحيح، وتبصيرهم بالمنهج الحق الذي كان يسير عليه نبينا صلى الله عليه وسلم، وتحذيرهم من الغلو والتطرف والعنف، عن طريق إقامة ملتقيات وندوات وخطب ومحاضرات يوجهون فيها الشباب ويرسمون لهم الطريق الصحيح الذي سار عليه السلف الصالح.
خامساً: على جميع المواطنين والمقيمين مسؤولية عظيمة تجاه أمن هذه البلاد ووحدتها، بأن يكونوا يداً واحدة، وصفاً واحداً خلف قيادتها وعلمائها ورجال أمنها ضد من يهدد أمنهَا ولحمتَهَا وتماسكَهَا ومقدراتهًا، وعلى الجميع الإبلاغ عن أيَّ حالات يشتبه بها لإفشال مخططات الأعداء والقضاء عليها في مهدها.
أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يحفظ علينا ديننا وأمننا، وولاة أمرنا وعلمائنا، ورجال أمننا، ووحدة كلمتنا، وتماسك صفنا، وأن يوفق ولاة أمرنا لما فيه خير البلاد والعباد.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦).

الجمعة:11-8-1436هـ