خطبة بعنوان: (ماذا بعد الحج؟) بتاريخ: 24-12-1438هـ

الثلاثاء 7 جمادى الآخرة 1440هـ 12-2-2019م

 

الخطبة الأولى :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشْهدُ أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشْهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسولُه، صلَّى الله عليه، وآله وصحبِه وسلَّم تسليماً كثيراً، أما بعدُ:

فاتقوا الله عبادَ اللهِ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران:102].

‏عباد الله: ليس هناك دينٌ كدينِ الإسلام يدعو إلى السلامِ والمحبةِ والوئامِ والوفاءِ، الإسلامِ وحده يدعو أتباعه للسلام الحقيقي، السلام الشامل الكامل، يدعوهم للدخول في دورةٍ عملية، هي إحدى فرائضِ الإسلام، يدعوهم لأن يدخلوا في هذه الدورة العملية مرة في العمر، في سلام حقيقيٍ ليس سلاماً مصطنعاً، وليس سلاماً يزايد عليه، بل سلامٌ حقيقي.

لقد اختار الله جل وعلا البلد الحرام مكة المكرمة، اختارها لبيته العتيق، فكان هذا البيت، كان موئل المسلمين، يتجهون إليه في صلاتهم، ويفدون إليه في حجهم وعمرتهم، يقتدون بأبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ويتبعون نبيهم محمداً صلى الله عليه وسلم، القائل: (لتأخذوا عني مناسككم)(رواه مسلم).

أمَّن الله جل وعلا الطائفين والقائمين والراكعين والساجدين، أمنهم في هذا البيت الحرام، {.. أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ.} [القصص:57].

نعم إن هذا الحرم الآمن أمنه الله جل وعلا ، فحرم الأذية فيه، حرم اللفظة الطائشة، وحرم القتل وسائر الأذى، بل إن الله جل وعلا أمن الطير فيه، فلا يجوز لأحدٍ أن يعتدي على طيرٍ أو حيوانٍ، إلا ما خصته السنة من الخمس الفواسق التي تقتل في الحل والحرم. أليس من فرائض الإسلام الحج الذي هو مرة في العمر، (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه )(رواه البخاري ومسلم). الله جل وعلا فرض الحج على الناس، {.. فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ..} [البقرة:197].

ولهذا يشرق أعداء الإسلام بما يحققه الحج من مظاهر الوحدة، وأثر الحج على الأفراد والمجتمعات، يشرقون لأنهم يرون أمة واحدة، لباسها واحد، ونداءها واحد، يدعون رباً واحداً، يقفون في صعيد واحد، كلهم يسأل ربه ويتقرب إليه في هذه المشاعر العظيمة.

هذه أيها المؤمنون والمؤمنات، هذه هي دورة الإسلام، دورة السلام الحقيقي، الذي أوجبه الله جل وعلا على المسلمين، أوجبه على كل مستطيع {..وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ..}[آل عمران:97].

أما ذلك السلام المزعوم الذي يكون فيه قتلٌ وترويعٌ وتخويفٌ وانتهاكٌ للأعراضِ وسرقةٌ للأموال ، فليس ذلك سلاماً حقيقياً، ألم يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجةِ الوداع يعلن ميثاقاً عظيماً عجزت عن إدراكه واللحاقِ به كل المواثيق الدولية، (فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، وأبشاركم، عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ قلنا: نعم، قال: اللهم اشهد.. )(رواه البخاري ومسلم وأحمد).

إنه ميثاق عظيم يعلنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في أعظم مجمع في حياته، عليه الصلاة والسلام.

أيها المؤمنون والمؤمنات: لقد نعم الحجاج في هذا العام، عام 1438هـ من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، نعموا بحج آمن، بحج فيه أمن وطمأنينة، فيه سكينة، نعموا بما تحقق من فضل الله ومنته، ثم بجهود القائمين على الحج، وما توليه حكومة خادم الحرمين الشريفين في البلاد المقدسة، ما توليه من جهود جبارة لرعاية الحجاج والعناية بهم، وتأمين سبيلهم، والحرص عليهم، وهنا نقف لنقطف ثمرات هذا الحج بعد أن أدى الحجاج حجهم بأمن ويسر وسهولة.

ألم يقفوا في صعيد واحد يدعون ربهم سبحانه وتعالى، ندائهم “لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك…”.

ألم يقفوا في مزدلفة وهو يسألون الله جل وعلا أن ينعم عليهم ويتفضل بقبول حجهم وعمرتهم.

ألم يرموا الجمرات وكأنهم يرمون عنهم الأوزار والذنوب، وهم يسألون الله جل وعلا اللطف والعفو والعافية والمعافاة في الدنيا والآخرة.

أليسوا يطوفون بالبيت العتيق وهم يتذكرون محمدا صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت ويعلن التوحيد خالصاً لله سبحانه وتعالى.

إن مظاهر الوحدة في الحج ليس لها نظر ولا مثيل، وإن ما يقطفه المسلمون ويستفيدون من سلام حقيقي في الحج في مناسكه كلها لا يعدله سلام في الدنيا كلها.

عباد الله: ولقد رأينا مظاهر سرتنا كثيرا في حج هذا العام، مظاهر من الأمن والأمان، والطمأنينة والسلام، مظاهر توسعة المشاعر، وما تحقق منها من سهولة فريضة الحج في هذا العام المبارك.

وما رأيناه من توسعة للمسجد الحرام وأثر ذلك على الطائفين والمصلين، وما رأيناه أيضا من تعاملٍ صادقٍ ومثمر من القائمين على أمن الحجيج في تعاملٍ رائع وسلوكٍ عظيم، وأخلاقٍ نبيلة، فلله درّهم وهم يؤمنون الحجاج، وهم يعينونهم ويساعدونهم، ويتكلمون معهم بكلمات تدلُ على الشفقةِ والرحمةِ والمحبةِ والإخاءِ.

أيها المؤمنون: كم في الحجاج من مخبتٍ مشفقٍ، خائفٍ لله جل وعلا، كم في الحجاج من صادقٍ صابرٍ تقيٍ يتقربُ إلى الله جل وعلا.

كم في الحجاج من منفقٍ باذلٍ يكرمُ الحجاجَ ويعينهم ويبذل من فضول أمواله وهو ينظر إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) (متفق عليه)، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا.)(رواه البخاري).

وصدق الله العظيم بسم الله الرحمن الرحيم:{لإِيلاَفِ قُرَيْش * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْف * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْت * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْف}[قريش].

بارك اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ يغفرْ لي ولكم إنه هو الغفورُ الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابِه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يومِ الدينِ وعنا معهم بمنك وكرمك وجودك ولطفك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

عباد الله: اعلموا بارك الله فيكم أن آثار الحج على الأفراد والمجتمعات آثار ٌعظيمة وكبيرة، فيا من أنعم الله جل وعلا عليه بالحج في هذا العام، عليك بالخلق الكريم، احرص أن تنقل ما عايشته في حج هذا العام إلى عملٍ صادق، فإياك إياك وأذية الآخرين، إياك إياك أن تتعرض لأحد بسوء، احفظ لسانك، احفظ سمعك وبصرك، احفظ بطنك وفرجك، احفظ لسانك ويدك، احفظ ذلك كله. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)(متفق عليه).

وإن مما يثلج الصدر أيها المؤمنون والمؤمنات ما لمسناه وعايشناه من بعض الحجاج السودانيين الذين جلستُ مع بعضهم فرأيتُ خلقاً عالياً كريماً، ورأيت تعاملاً صادقاً نبيلاً، ورأيتُ حرصاً على أداء الحج حسب السنة المطهرة، ورأيت طاعةً عظيمةً، ورأيتُ فيهم حرصاً على الأدبِ والخلقِ، ورأيت فيهم حرصاً على الانتظام وعدم المزاحمة في بعض مناسك الحج.

لقد جلستُ مع إحدى الحملات، وتحدثتُ معهم، وتحدث إلى بعض المسؤولين عنهم، فكانوا نعم السفراء لهذا البلد المبارك.

وإن مما يذكر ويشكر لهذه البلاد، ذلك التعاونُ المثمر بين هذه البلاد المباركة وبلاد الحرمين الشريفين في الدفاع عن الدين والمقدسات والبلاد وأمن الحرمين.

فقد أثبت الجنود السودانيون، أثبتوا بطولتهم وأثبتوا تضحيتهم في عطاءٍ مستمرٍ وطاعةٍ صادقةٍ وبلاءٍ حسن، فلله درهم، لله درهم، وشكر الله سعيهم، وبارك فيهم، وأعادهم إلى بلادهم سالمين غانمين.

وإن مما يذكر فيشكر تلك الخدمات التي تُقدمها حكومة خادم الحرمين الشريفين للحجاج والمعتمرين، وزوار مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، من خدمات كبيرة وعظيمة، نَعِمَ الحجاجُ بأثرها ولمسوا أثرها عليهم في تنقلاتهم وأدائهم لمناسكهم.

فجزى الله كل عاملٍ للإسلام، كل عاملٍ صادقٍ مثمرٍ مخلصٍ للإسلام، وجزى الله كل من بذلَ وأعطى، وجزى الله كل من أمنَ سبيلِ الحجاجِ والعمارِ وزوار مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، جزى الله كل مسؤولٍ بذلَ وأعطى، جزى الله خيرا كل رجلِ أمنٍ وقفَ وأمن السبيلَ وساعد، جزى الله خيرا كل شابٍ من الكشافة ساعد وبذل.

والله يا أحبابي لقد رأيتُ مناظر سرتني كثيرا، رأيت رجل أمن يحمل مسناً على ظهره ليوصله إلى مخيمه، ورأيتُ شاباً صغيراً لا يتجاوزُ عمره السادسةَ عشرة يأخذ بيد امرأة مسنة ليوصلها إلى مخيمها، ورأينا من مظاهر البذلِ والإنفاقِ ما أثلجَ الصدر في مظهر تعاون مثمر يجسدون الجسد الواحد، ويحققون التعاون الصادق، {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ..}[المائدة:2].

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جلَّ من قائل عليماً:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦).

الجمعة: 24 /12 /1438هـ