خطبة بعنوان: (المَوَّتَـةُ الصُغْرَى) بتاريخ: 15-10- 1439هـ

الأربعاء 8 جمادى الآخرة 1440هـ 13-2-2019م

 

الخطبة الأولى :
الحمدُ لله جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له المتفرد بالعظمة والكبرياء، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه بعثه الله رحمة للعالمين، صلى الله عليه وآلهِ وأصحابهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون فهي وصيته سبحانه للأولين والآخرين:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ..}[النساء:131].
عباد الله: اعلموا أن نِعَمُ الله على خلقه كثيرة لا تحصى، يتقلبون فيها ليلاً ونهاراً، والتي لا غِنى لهم عنها أبداً. ومِن تلك النِّعم العظيمة الجليلة نِعمةُ النَّوْم، الذي جعله الله جلَّ وعلا رحمةً بنا؛ لتهدأ أرواحنا، وترتاحَ أجسادُنَا، وتنشط جوارحنا، ولا يُدرِك قدْرَ هذه النعمة إلاَّ مَن حُرِمَها بسببِ مرضٍ أو أَرَقٍ، أو همٍّ أو خوفٍ، أو جوعٍ أو بَرْدٍ، وهي تتكرَّر في حياتنا كل يوم وليلة، لا يشعر بقيمتها إلا الفطنون.
وهو آية من آياته الباهرة، التي تشهد على وحدانيته وعظيم قدرته، ودقة صنعته وإتقانه في خلقه، قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُون}[الروم:23].
عباد الله: إن النوم حالة طبيعية تتعطل معها القوى، وهو وفاة، وهو درجات، فمنه السِّنَةَ ومنهُ النَوَّم. فالسـِّنة: هـو النعاس، والنعاس هو الوسن، ويقال للنعاس إنه السِّنة، وهو ليس بنوم بل مقاربته، قال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ..} [الأنفال:11]، وقال سبحانه: {ثُمَّ أَنْـزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ}[آل عمران: 154] .
أما النوم فهو غَشيةٌ ثقيلةٌ تهجمُ على القلبِ فتقطعهُ عن المعرفة بالأشياء؛ ولذلك قيل: إنه آفة؛ لأن النوم أخو الموت. وقد قال جل وعلا:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الزمر:42] .
قال ابن كثير رحمه الله:(قال تعالى مخبراً عن نفسه الكريمة بأنه المتصرف في الوجود بما يشاء، وأنه يتوفى الأنفس الوفاة الكبرى بما يرسل من الحفظة الذين يقبضونها من الأبدان، والوفاة الصغرى عند المنام).
ومن أسرار هذه الآية العظيمة أنَّ كل نفسٍ على وجه هذه الأرض يتوفَّاها الله عندَ نومها، وجعلها آية يستدل بها على الموتة الكبرى، فإذا شاء أفسحَ لبعضهَا في الأجَلِ، ومن قَدَّر عليها الوفاةَ أمسكها، قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام: 60].
عباد الله: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم قبل نومه أنه يجمع كفيه ثم ينفث فيهما، ويقرأ فيهما قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده. يفعل ذلك ثلاث مرات.
وكان ينام على شقة الأيمن ويضع يده اليمنى تحت خده الأيمن ثم يقول: (اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك)(رواه أبو داود).
وكان يقول إذا أوى إلى فراشه:(الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي)(ذكره مسلم).
وذكر أيضا أنه كان يقول إذا أوى إلى فراشه:(اللهم رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى منزل التوراة والإنجيل والفرقان أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا من الفقر)(رواه مسلم).
وكان إذا انتبه من نومه قال:(الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور)(رواه البخاري)، ثم يتسوك، وربما قرأ العشر الآيات من آخر آل عمران من قوله تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} إلى آخرها (آل عمران 190 – 200).
وكان ينام أول الليل ويقوم آخره، وربما سهر أول الليل في مصالح المسلمين، وكان تنام عيناه ولا ينام قلبه، وكان إذا نام لم يوقظوه حتى يكون هو الذي يستيقظ. وكان إذا عرَّس بليل (أي إذا توقف للاستراحة في السفر) اضطجع على شقه الأيمن، وإذا عرس قُبيل الصبح نصب ذراعه ووضع رأسه على كفه. هكذا قال الترمذي. وكان نومه أعدل النوم وهو أنفع ما يكون من النوم والأطباء يقولون هو ثلث الليل والنهار ثمان ساعات.
وغير ذلك كثير مما ورد عنه صلى الله عليه وسلم عند نومه واستيقاظه وقيامه من الليل. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الزمر: 42].
بارك اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآياتِ والعظاتِ والذكرِ الحكيمِ أقول ما سمعتم فاستغفروا اللهَ يغفر لي ولكم إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلين، نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وآلهِ وصحبهِ أجمعين، أما بعد: فاتقوا الله عباد الله: فهي خير زاد ليوم المعاد. عباد الله: ولَمَّا كان النوم هو المحطَّ الأخير في يوم المسلِم، وقد يكون اليوم الأخير من عمره الدنيويِّ، فيحَسُن بالمسلم أن يختم يومَه ببعض آداب النوم ومن ذلك:
1ـ النوم على طهارة، وذِكْر الله جلَّ وعلا، قال صلَّى الله عليه وسلَّم:(إذا أتيتَ مضجعك فتوضأْ وضوءَك للصلاة)(رواه الشيخان).
2- نفض الفراش: كان صلَّى الله عليه وسلَّم يأمر المسلِم بذلك قبل أن يضطجع عليه بقوله:(إذا أوى أحدُكم إلى فراشه فلْينفضْه بداخلةِ ثوبِه)، وفي رواية:(فليأخذْ إزارَه فلينفضْ بها فراشَه، وليسم الله فإنَّه لا يعلم ما خَلَفَه بعدَه على فراشه)(رواه البخاري ومسلم).
3- النهي عن نومة البطن: فكان صلى الله عليه وسلم يرى الرجل نائمًا على بطنِه فينهاه عن تلك الضجعة، ويقول له:(ما لك وهذا النوم؟ هذه نومةٌ يكرهها الله، أو قال: يُبغِضها الله)، وسبب الكراهة في هذه الرقدة كما ورد عنه أنَّها ضجعة أهْل النار.
4- ويُكره أن ينامَ المرء وبيده بقايا من أثَر الطعام حتى يغسلها؛ قال صلى الله عليه وسلم: (مَن نام وفي يدِه غمر ولم يغسلها، فأصابَه شيءٌ، فلا يلومنَّ إلاَّ نفسه)(رواه أحمد، وصحَّحه الألباني)، و(الغمر): هو الدسم والزهومة من اللَّحم وغيره.
5- ذكر ما ورد من السور والآيات والأذكار عند النوم وعند الاستيقاظ منه، كما ذكرنا سابقاً.
عباد الله: لقد أصاب الكثير من المسلمين الهموم والغموم والأحزان، وأحاطت بهم الظنون والكروب والمشكلات، فابتلوا بالعناء والأرق، فلم يجدوا إلى النوم سبيلا، ومن رحمة الله جل وعلا بعبده المسلم أنه إذا أصابه ذلك فإن إيمانه بربه وبقضائه وقدره يسكنه ويخففه، بل ويذهب عنه ما يجد. يقول ابن القيم رحمه الله: “من وَطَّنَ قلبَه عند ربه سكن واستراح ومن أرسله في الناس اضطرب واشتد به القلق..”.
وقد روى البخاري عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ ، فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، أَوْ دَعَا، اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلاَتُهُ).
فحريٌّ بنا أن نعمل بما ما ورد عن نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم عندَ النوم، وأن نكون قدوةً صالِحة أمام أبنائنا بالمحافظة عليها، وأن نعلمهم إياها لتكونَ لهم حصنًا حصيناً من الشيطان، ويحوزوا بها رِضَا ربهم جل وعلا.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦).
الجمعة: 15-10-1439هـ