لقاء فضيلة المشرف العام بدعاة التوعية الإسلامية بالحج1432هـ
مشايخي الأجلاء .. زملائي الأفاضل .. إخوتي الحضور.. سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وبعد:
فإني أشكر الله جل وعلا على أن وفقنا للاجتماع بكم في هذا الوقت المبارك، في تلك البقاع الطاهرة المباركة، حيث كلفتني وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بهذا اللقاء المبارك، وسيكون حديثاً موجزاً بقدر ما ييسر الله جل وعلا الوقت في ذلك.
فأقول وبالله التوفيق والعون والسداد:
فلقد امتن الله علينا بنعم عظيمة، وعطايا جزيلة، وفرص للأجر كثيرة ومتنوعة.. فله الحمد في الأولى والآخرة.. وله الحمد دائماً وأبداً حتى نلقاه جل وعلا.
إننا نشهد في هذه الأوقات المباركات منسكاً من أعظم المناسك، وركناً من أعظم أركان الإسلام، هذا المنسك العظيم الذي يأتي من أجله المسلمون من سائر بلدان العالم، يعبدون رباً واحداً، ويجتمعون على منسك واحد، وعبادة واحدة، وقلب واحد.
لما سمع المسلمون في سائر أصقاع الأرض نداء الحق جل وعلا {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}(الحج: 27)، لبوا فرادى وجماعات وأمماً، واستجابوا لنداء ربهم، محبة له وانقياداً لأمره، ها هي تلك الجموع الوافدة تركوا ديارهم، وأموالهم، وأهليهم وذويهم، وكل شيء من أجل تلبية هذا النداء المبارك.
فتراهم وقد استبدلوا زي أوطانهم بزي الحج الموحد، وقد أصبحوا جميعاً بمظهر واحد، شرقيهم
وغربيهم، عربهم وعجمهم، لا يميز الناظر إليهم بين الغني والفقير، والعربي والعجمي، والهندي والإفريقي، والتركي والفارسي، والصغير والكبير، والأمير والمأمور.
كلهم لبسوا لباساً واحداً، وتوجهوا لرب واحد، بهتاف واحد (لبيك اللهم لبيك..لبيك لا شريك لك لبيك..إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)
وتراهم وقد نسوا هتافاتهم الوطنية، وخلّفوا ورائهم كل الشعارات القومية، وتركوا كل الرايات العصبية، ورفعوا راية واحدة، هي راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
يطوفون حول بيت واحد، مختلطة أجناسهم وألوانهم ولغاتهم، يؤدون منسكاً واحداً، يضمهم صعيد عرفات جميعاً في وقت واحد، يضرعون إلى ربهم الواحد، برغبة واحدة، هي أن يغفر الله لهم جميع ذنوبهم، وأن يدخلهم الجنة، ويعيذهم من النار.
ثم يفيضون جميعاً وفي نفس الوقت إلى المشعر الحرام، ثم إلى منى فيرمون الجمرات، ثم يذبحون، ثم يتحللون، ثم يطوفون….. نسك واحد، في وقت واحد، بلباس واحد، عندها يغمر قلب الحاج شعور كريم فياض، بانتمائه إلى أمة واحدة، هي أمة الإسلام.
تلك الأمة العظيمة التي اختارها الله تعالى من بين الأمم، وفضلها على كثير ممن خلق تفضيلا،{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}(آل عمران:110)
فيسري في كيان كل حاج من حجاج بيت الله الحرام روح جديدة، يبدل ما في قلبه من اليأس أملا ورجاءً، ومن الضعف قوة ومضاء، ومن الذلة عزة وإباء، ويتجلى له قول الله تعالى:{ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}(المؤمنون: 52)، واقعاً حيًّا نابضاً متحركاً.
إن هذا المؤتمر العالمي العظيم بشكله وهيئته، والذي جمع تلك الوفود العظيمة وقد ذابت بينهم جميع الفوارق اللغوية والعرقية، يجتمعون عند بيت الله الحرام في أكبر تجمع إسلامي عرفته البشرية ليتعارفوا في مظهر من أروع مظاهر الوحدة الإسلامية، وليعبدوا رب البيت ويوحدوه، وليعظموا شعائر الله وحرماته، وليشهدوا منافع لهم، ومن أهم تلك المنافع وأعظمها التي يريدها الله جل وعلا من حجاج بيته الحرام توحيد صفوفهم وكلمتهم، وترابط قلوبهم وأجسادهم.
إن الحج ولا ريب يؤكد وحدة الأمة، ويهديها إلى السبيل القاصد الواصل الذي يجمع كلمتها، ويلم شملها، ويوحد صفها، ويريها منهجها الذي تلتقي عليه، نستوحي ذلك ونفهمه على ضوء الربط الوثيق بين الأمة الواحدة، وبين عبادة الله وحده وعدم الإشراك به.
وهذه العلاقة بين الأمة وعبادة ربها وتوحيده سنة ثابتة مطردة من السنن الشرعية والاجتماعية لأن الله سبحانه أمر بها، وربط بين مقدماتها ونتائجها في نظام ثابت لا يتخلف، فلا يتحقق الاجتماع والوحدة إلا بعبادة الله وحده،وإلا حصل التفرق والاختلاف والتنازع المشئوم.
ولذلك افترقت الملل السابقة كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم (افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ» ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: «الْجَمَاعَةُ»)(رواه ابن ماجة).
وما اختلف العرب قبل الإسلام وتناثروا وتناحروا إلا بسبب الشرك بالله وجحود توحيد الألوهية والعبادة، ثم لما عبدوا الله وحده، وتمسكوا بشرعته، وعملوا بأوامره ونواهيه، اجتمعت كلمتهم، وتوحدت صفوفهم، وأمتن الله عليهم بنعمة الوحدة، فقال:{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(آل عمران:103).
فلم تجمعهم لغتهم ولا موقعهم الجغرافي، ولا سائر هذه العوامل المادية التي يستفيض في الحديث عنها دعاة العصبيات القومية والوطنية، ولكن جمعتهم عبادة الله وحده.
إن الإسلام يوم شرع الحج للناس أراد أن يكونوا أمة واحدة، متعاونة متناصرة، متآلفة متكاتفة،
كمثل الجسد الواحد، كما قال صلى الله عليه وسلم:(مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)(مسلم).
ولقد كان توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم المتواصل المتتالي يهدف إلى استئصال كل أسباب الفرقة والخلاف من حياتهم، وكل دواعي الشقاق والنزاع من تعاملاتهم، وأن يُبذر بدلاً من ذلك بذور المحبة والأخوة، والتعاون والتكافل، والاحترام والتقدير لكل مسلم ومؤمن، بغض النظر عن فوارق اللون والجنس، واللغة والوطن، والفقر والغنى، والنسب والجاه، والحرفة والصناعة.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ»)(رواه مسلم).
إن الإسلام لم يعط الفوارق القومية ولا الميزات الوطنية أية قيمة في المفاضلة بين الناس، لأنه اعتبر التفاضل بحسب التقوى، التي تعنى الالتزام الكامل بالشريعة الإسلامية ظاهراً وباطناً، قال تعالى { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(الحجرات:13).
والرسول صلى الله عليه وسلم نهى أشد النهي عن الافتخار بالأنساب، وحقّر القومية أشد التحقير، وضرب لتلك الدعوات العصبية أحقر الأمثال، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الخِرَاءَ بِأَنْفِهِ، إِنَّ اللَّهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ، إِنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ»)(رواه الترمذي).
والذين يريدون أن يثيروا الدعوات القومية، والنعرات الوطنية بين المسلمين يزعمون أن بعض المسلمين خير من بعض، لمجرد أن هؤلاء ولدتهم أمهاتهم في أرض كذا، وأولئك ولدوا في أرض أخرى، إن هؤلاء يرفعون رايات جاهلية نكّسها الإسلام وأهان أصحابها، وهم يصطدمون في دعواتهم هذه بالقرآن والسنة اصطداماً مباشراً.
فالقرآن الكريم يقول:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(الحجرات:13)، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ)(رواه أحمد،وأبو داود،والنسائي)، والمسلمون في هذا العصر مدعوون أكثر من أي وقت مضى لتفهم معاني الأخوة الإسلامية ولوازمها، ومدعوون كذلك لتفهم أسرار الحج في تعميق أواصر الأخوة بين المسلمين، وإذابة جميع فوارق الجنس واللغة واللون.
إن مدرسة الحج ما زالت عامرة مفتحة الأبواب لكل المسلمين، ليتعلموا فيها بشكل عملي أنه لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى.
ما أحوج المسلمين في هذا العصر إلى مدرسة الحج يتعلمون فيها درس الوحدة الإسلامية، والأخوة الإيمانية بشكل عملي، هذه الوحدة التي أرادها الله سبحانه وتعالى بقوله { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(الحجرات:10)، والتي من مقتضياتها أن يحب المؤمن لأخيه ما يحب لنفسه من الخير، والسعادة، والرفاه؛ بحيث لا يكمل إيمانه حتى يحقق في نفسه وشعوره وواقعه وسلوكه مقتضيات هذه الأخوة. عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)(رواه البخاري ومسلم).
أيها الدعاة الفضلاء: ها هي أمم الكفر في مشارق الأرض ومغاربها ما فتئت تجتمع لاستئصال شأفة أهل الإيمان، وإبادتهم، والباطل منذ القدم لم يزل يُسخِّر قواه للقضاء على الحق، وتركيع جنده { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}(التوبة: 32)، والواقع يؤكد تعاون أمم الكفر والإلحاد على الأمة الإسلامية.
لكن ما إن يرون مشهد المسلمين في الحج كياناً واحداً، ولحمة واحدة؛ قد غابت بينهم الفوارق والحواجز والطبقات، وانصهروا جميعاً وهم يرددون شعاراً واحداً (لبيك اللهم لبيك … لبيك لا شريك لك لبيك). حتى تتبدد أحلامهم، ويغصُّوا بريقهم، وتغتاظ صدورهم، وتتقطع قلوبهم كمداً وحنقاً.
إن خصوم الإسلام يدركون جيداً أهمية الحج في توحيد الأمة، وإن مما يذكر في ذلك ما كتبه رئيس حملة التبشير التي اجتاحت بعض البلاد الإسلامية في أوائل هذا القرن حيث يقول: (سيظل الإسلام في هذا البلد صخرة عاتية تتحطم عليها محاولات التبشير المسيحي؛ ما دام للإسلام هذه الدعائم الثلاث: القرآن، واجتماع الجمعة الأسبوعي، ومؤتمر الحج السنوي)!.
فانظروا يا رعاكم الله كيف أدرك هذا المبشر ما يصنعه “مؤتمر الحج” الكبير بروحانيته وإيحاءاته، وشعائره ومشاعره في أنفس المسلمين، وكيف يربطهم بأصولهم، ويذكِّرهم بهويتهم وتميزهم، ويعطيهم درساً رائعاً في الانتماء إلى الأمة الكبيرة، الأمة الواحدة، أمة “لا إله إلا الله، محمد رسول الله”.
ولو نظر كل واحد منا بعينيه، وتأمل ما حوله، يجد أمواجاً متلاطمة من البشر، ألوف مؤلفة، بل ملايين اختلفت ألوانهم وألسنتهم، وتناءت ديارهم، وتعددت لغاتهم، عرب وعجم، هنود وزنج، سود وبيض، حمر وصفر، رجال ونساء، صغار وكبار، لكن جمعهم شيء واحد هو وحدة الغاية والمقصد، وهي رضا الله، اللغة واحدة: لغة التوحيد، واللهجة واحدة: لهجة الصدق، وحدة حقيقية من عاشها تمنى أن يدوم الحج ولا ينتهي.
ثم انظر إلى هذا المشهد الرائع في بطحاء عرفة، وخذ لمحة ذات اليمين وأخرى صوب الشمال، أرجع البصر كرتين هل ترى إلا ثياباً بيضاً قد علت الأبدان، ووجوهاً متوضئة من شتى الأصقاع تناجي الرحمن، التقت في صحراء عرفة، بثياب رثة لا تصلح لخيلاء، ولا تنفع لكبر، هتافهم العذب: (لبيك اللهم لبيك)، وحلو كلامهم: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(البقرة: 201)، وجميل منطقهم:{ربنا هَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}(آل عمران:8).
وعذب حديثهم: لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
وعالي صوتهم: لبيك حقاً حقاً، تعبداً ورقاً.
وزفير أنفاسهم: رب اغفر وارحم إنك أنت الأعز الأكرم.
وحشرجة صدورهم: اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة.
ونبضات قلوبهم: اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
وتقلب أبصارهم: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(آل عمران: 191).
نعم، إنها الوحدة التي أكد النبي صلى الله عليه وسلم على أمته أن تلزم غرزها، وتتمسك بمعصمها، وحذرها من مغبة فرقتها واختلافها، وقد بدا ذلك واضحاً في حجة الوداع، وكانت أقواله صلى الله عليه وسلم محرضة على ذلك:(إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)(رواه مسلم)، وعند أحمد في المسند: (يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد).
فعلى المسلمين أن يتعلموا من الحج كيف نتحد، ونوثق أواصرنا، ونترك خلافاتنا, ونجعل ديدننا أن نجتمع على كلمة سواء، فلن يجمع شملنا، ويرفع كلمتنا، ويعيد مجدنا شيء مثل اجتماعنا على كلمة التوحيد الصافية النقية، وعقيدة السلف المبرأة السوية، وليكن نبراسنا الذي نستضيء به قوله سبحانه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}(آل عمران: 103).
ووالله إن مشهد الحجيج ليبعث في النفوس الأمل أن تعود الأمة صفاً واحداً، تنطق من مشكاة واحدة، وتستند إلى مرجعية واحدة، {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}(إبراهيم:20). ذلك الحلم الذي نرجوه ويرجوه كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر.
وأختم كلماتي هذه بكلمة لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته: (ومن مقاصد الحج توحيد كلمة المسلمين، وتحقيق المساواة والمواساة، والأخوة بينهم وذلك من أظهر مقاصد الحج وأعظمها، فالحج مؤتمر إسلامي كبير، وأكبر تجمع على وجه الأرض تتجلى فيه الوحدة والأخوة الإسلامية، فالجميع بلباس واحد أبيض هو لباس الإحرام، لا تستطيع أن تفرق بين الغني والفقير، ولا بين الشريف والوضيع، ولا بين الرئيس والمرؤوس، الجميع يهتفون بتلبية واحدة، ويؤدون مناسك عبادة واحدة في صعيد واحد، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح، فالجميع سواسية كالجسد الواحد تحت راية واحدة هي راية التوحيد، والأخوة الإسلامية، والقلوب مشرئبة، والفرصة مهيأة للمسلمين أكثر من ذي قبل للتعارف والتقارب فيما بينهم، والتعاون على البر والتقوى، والتراحم، ومواساة الفقير، ومد يد العون للمحتاج، كما أنه فرصة سانحة لقادة الأمة الإسلامية ووفودها لاستثمار هذا الجمع المبارك والموسم العظيم، والاستفادة منه بدراسة أحوال المسلمين في شتى أنحاء العالم، والتعاون بينهم وتبادل المصالح، وحل مشاكلهم وقضاياهم، وتوحيد كلمة المسلمين، وإشاعة روح التسامح، والتكافل الاجتماعي، والتضامن الإسلامي بينهم، وعقد المؤتمرات، والندوات التي تدعم ذلك، وبذلك يعود للأمة الإسلامية عزتها، ومنعتها وهيبتها لا سيما بعد أن تكالبت عليها الأعداء من كل جهة وسعوا لتمزيق الأمة الإسلامية وتفريقها، وبعد أن مزقتهم الفرق الضالة، والأحزاب المتناحرة، قال الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا}(الأنفال:46).
أسأل الله تعالى بمنه وكرمه وجوده ورحمته أن يحفظ على هذه البلاد أمنها وأمانها، وأئمتها وعلمائها، واجتماع كلمتها، وأن يجزل لخادم الحرمين الشريفين وولي عهده حفظهما الله على ما قدما ويقدمان في سبيل خدمة الحجاج وراحتهم عظيم الأجر والمثوبة، ولجميع العاملين في موسم حج هذا العام، كما أسأله سبحانه أن يغفر لصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز وأن يبوئه الفردوس الأعلى من الجنة وأن يجزيه عن جهوده المباركة لخدمة الإسلام والمسلمين وخدمة حجاج بيت الله الحرام خير الجزاء وأن يجعل ذلك حجاباً له عن النار ورفعة لدرجاته وأن يجمعنا وإياه ووالدينا والحاضرين وجميع المسلمين في جنات النعيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
في: 5-12-1432هـ