الناس بعد رمضان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً: أمــا بــعـــد:
المتفرس في أحوال الناس في مواسم العبادة وبعدها يرى أنهم على ثلاثة أصناف. وهذا يتبين واضحاً بعد رمضان لإن هذه الأصناف توجد أحيانا في البيت الواحد والأسرة الواحدة.
الصنف الأول:
هم من غلب هم الأخرة عليهم فعملوا للدنيا بمنظار الأخرة وأدركوا أن الدنيا جسر يوصل الأخرة وأن كل ما عليها وسائل خلقها الله تعالى لتعين الإنسان على تحقيق الهدف من الخلق وهو العبادة فاستخدموها كوسائل حيث شاءت لذلك لم يهجروا الدنيا وما فيها ولم يعتزلوا الناس لإنهم علموا مهمتهم بوضوح (إصلاحُ النفس, وإصلاح الغير) واستخدام وسائل الدنيا للوصول إلى الأخرة بسلام.
الصنف الثانــي:
هم الذين غلب عليهم حب الدنيا حتى أنساهم تماماً الأخرة ولم يدركوا أن الدنيا جسر موصل للآخرين بل حسبوا أن الدنيا هي الأولى والأخرة ولم يتبين لهم أن ما عليه وسائل تعين الانسان على تحقيق الهدف من الخلق وهو العبادة بل ايقنوا أن هذه الوسائل هي الهدف من الخلق فعبدوها من دون الله فوضعوها في قلوبهم تتصرف بهم كيف تشاء وأفنوا حياتهم من أجلها فكان المالُ هدفاً والمرأةُ هدفاً والولدُ هدفاً والمنصبُ هدفاً والجاهُ هدفاً وغيرها من الشهوات أهدافاً من دون الهدف الأسمى الذي خلقوا من أجله.
الصنف الثالــث:
هم المخلطون الذين لم يحبوا أن يكونوا من الصنف الأول ولا من الصنف الثاني بل أرادوا أن يصيبوا نصيبا من هؤلاء وهؤلاء فساعة يعبدون الشهوات من دون الله ويقاتلون من أجلها وساعة يعبدون الله إذا تحرك هم الأخرة في نفوسهم فهؤلاء كمن يحوم حول الحمى يوشك أن يرتع فيه فهم على خطر غير مأمون إذا لم يثبتوا على الجادة ويتركوا التخليط.
وها هو الإمام الزاهد يحي بن معاذ يصف هذه الأصناف الثلاثة من الناس فيقول (الناس ثلاثة رجل شغله معاده عن معاشه ورجل شغله معاشه عن معاده ورجل مشتغل بهما جميعاً فالأولى درجة الفائزين والثانية درجة الهالكين والثالثة درجة المخاطرين).
فانظر لحالك أخي المسلم من أي الأصناف أنت لقد خرجت من طاعة وأقبلت على ربك فيها فهل تستقيم حالك بعد رمضان كما كانت في رمضان العاقل من جرَّب الربح فلم يخسر وأنى لمتعامل مع الله بالطاعات أن يخسر.
ولذا ندب الحبيب المصطفى r إلى صيام ست من شوال فقال”من صام رمضان فأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر كله”
وذلك اتباعا للطاعة بالطاعة وتأكيداً على استمرارية الخير في المسلم ووقوفاً عند وعود الله وثبات على طاعته.
إخوتي في الله: كم كان رمضان ضيفاً عزيزاً على النفوس استمرأت فيه الطاعة وحب الخير سهل فيه البذل وارتفع التسبيح والتهليل كثر فيه السجود قلت فيه المعاصي نعِم فيه البارون بوالديهم وتدارك فيه المقصرون.
كم كان رمضان فرصة لمحاسبة النفس والوقوف معها في مجالات الخير الكثيرة.
كم كان رمضان دافعاً للجهاد بالنفس والمال وتربية النفوس فهل نبقى بعد رمضان على حالنا هل نصدق مع الله في سائر أيامنا نرجو ذلك إن شاء الله.
إخوتي في الله استغفروا الله يغفر لي ولكم أنه هو الغفور الرحيم
الحمد لله الذي تابع على عباده مواسم الطاعات وأصلي وأسلم على خير البريات محمد صلى الله عليه وسلم، أما بعد:
فيا إخوة العقيدة: لا شك أن أصحاب هم الآخرة من الصنف الأول وهم الفائزون من بين هذه الأصناف الثلاثة فما هي صفاتهم من أجل أن نتحلى بها لعلنا نحشر معهم فإن لم نوفق لذلك فلا أقل من أن نقتدي بهم.
وبعد التأمل في نصوص الشارع والوقوف عندها لاحت لي الصفاتُ التاليه:
1ـ الحزن للآخرة:
فهذا الصنف مع رجائه لرحمة الله سبحانه وعفوه ومغفرته إلا أنهم لا يتكلون على ذلك بل إنه يصيبهم الحزن على كل تفريط وتقصير وكل ذنب يقترفونه حتى وإن كان دقيقاً ويحزنون على ما يصيب المسلمين وما يقع عليهم من ظلم وما يصيبهم من بلاء فهم أصحاب نفوس مليئة بالرحمة والحساسية بسبب هم الآخرة الذي غلب عليهم ويمثل تلميذ الحسن البصري التابعي الجليل مالك بن دينار القلب الذي لا يحزن فيه كأنه البيت الخرب فيقول “إن القلب إذا لم يكن فيه حزن خرب كما أن البيت إذا لم يسكن خرب”
فالحزن يحي القلب وينشطه ويحرك فيه مكامن الإحساس والشعور وانعدامُ الحزن يميت الشعور والإحساس.
والحزن درجات وعلى مقدار ما تحزن للآخرة يخرج هم الدنيا فهي عملية تنظيف دائمة يقول مالك بن دينار “بقدر ما تحزن للدنيا كذلك يخرج هم الأخرة من قلبك وبقدر ما تحزن للآخرة كذلك يخرج هم الدنيا من قلبك”
2ـ المحاسبة الدائمة:
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا وتزينوا للعرض الأكبر “فتراه دائماً محاسباً لنفسه على كل قول أو فعل وهذه النفس اللوامة التي أقسم الله بها ((وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ))
قال القرطبي في تفسيره قال الحسن هي والله نفس المؤمن ما يُرى المؤمن ألا يلوم نفسه ما أردت بكلامي ما أردت بأكلي ما أردت بحديث نفسي والفاجر لا يحاسب نفسه.
3ـ العمل الدائب للآخرة:
فهذا الحزن الذي يصيبهم بسبب هم الآخرة لا يكبلهم ولا يحبسهم في بيوتهم يبكون على أنفسهم ويتركون أهل الضلال في ضلالهم دون إنكار بل إن هذا الحزن هو المحرك لهم لإصلاح أنفسهم والسعي لإصلاح الأخرين بكل الوسائل المتاحة متحلين بالصبر لإن الطريق الذي رضوه لأنفسهم طريق فيه من المخاوف والمخاطر والإبتلاء الشيء الكثير لكنهم ينظرون في أعمالهم وأقوالهم إلى قدوتهم الوحيدة وهو المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم.
4ـ التأثر بمناظر الموت:
فبسبب حياة قلوبهم فإنهم يربطون كل ما يرون في الدنيا بالآخرة وأكثر ما يخوفهم منظر الموت فيظل منظر الموت مؤثراً في أحدهم مدة من الزمن مما يزيد في تحركهم نحو الآخرة خوفاً أن يدركهم الموت قبل أن يقدموا من العمل ما يرتقون به إلى أعلى الدرجات روي عن إبراهيم النخعي قوله” كنا إذا حضرنا جنازة أو سمعنا بميت عُرف فينا أياماً لإنا قد عرفنا أنه نزل به أمر مصيَّره إلى الجنة أو النار”.
هذه أبرز صفات أهل الآخرة فهل تشمر أخي المسلم لتنظم في سلك هؤلاء أم يقعدبك عن اللحاق بهم الخمول والكسل وحب الدنيا والتكالب عليها والحسد والكبر والظغينةُ وتصيدُ عثرات الأخرين وتتبعُ زلاتهم وأكل لحومهم في مجالسك الخاصة والعامة إن صفات المتقين واضحة وصفات المنافقين أوضح وبين الفرقين فئام من الناس يتلبسون صفات هؤلاء أحيانا أخرى فاحذر أخي المسلم أن تكون من هؤلاء لإنهم لا مع أهل الخير سبقوا ولا لعملهم أخلصوا ولا مع ربهم صدقوا أبعدتهم ذنوبهم وقعدت بهم خطاياهم فهم يتخبطون في دياجير الظلمات بحثاً عن المخرج وهو أقرب إليهم من كل قريب.
((إخوتي في الله وتذكروا وأنتم تفرحون بأيام العيد وتستلذون بألذ أنواع الأطعمة وتأنسوا في الرحلات والخلوات وعلى ضفاف السيول وتستنشقون عبير الزهور في هذا الجو الربيعي الممتع تذكروا إخونا لكم يموتون من الجوع يلتحفون السماء ويفترشون الأرض واسوهم بفضول أموالكم و ادعوا لهم واحملوا على أقل الأحوال همهم فهم إخوة لكم عدت عليهم عوادي الكفار وتسلطوا عليهم وأنتم ولله الحمد تنعمون بوافر الأمن والنعم فالحمدالله الحمد لله الذي بلغنا رمضان والحمد لله الذي أعاننا على الصيام والقيام اللهم كما تفضلت علينا ببلوغ شهر الصوم هذا العام فجد علينا بقبول قليل الطاعة.
عباد الله: هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد الله أمركم بذلك فقال ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) اللهم صلي وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
11-10-1413هــ