خطبة بعنون “من حكم الصوم وأسراره” بتاريخ 29-8-1419هـ.

الخميس 23 جمادى الآخرة 1440هـ 28-2-2019م

الخطبة الأولى :
الحمد لله الذي شرع الصيام طهرة للصائمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين أفضل من صام وأفطر، وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن الله خلق الناس ليعرفوه ويعبدوه قياما بحق ربوبيته وألوهيته كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.
وقد جعل الإسلام التعبد لله تعالى هو أول ما يطالب به المسلم وكانت أركان الإسلام ومبانيه العظام تمتثل في عبادات لله هي بعد الشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت الحرام.
وقد تنوع الإسلام في هذه العبادات فمنها العبادات البدنية كالصيام والصلاة، ومنها العبادات المالية كالزكاة والصدقات، ومنها ما يجمع بينهما كالحج والعمرة، ومنها ما يتعلق بالترك والكف وهو الصيام.
ومفهوم العبادة يتسع فيشمل شعائر الدين وفرائض الشريعة وحتى المعاملات في دنيا المسلمين غايتها العبادة، فنحن نعبد الله حين نجري معاملاتنا في كل شيء وأن يكون هدفنا من التعامل هو عبادة الله حيث تحول هذه العبادة لله بين الغش والتطفيف في الكيل والميزان وبين التراخي والتهاون في الأعمال وعدم إتقانها وبين قول الزور وشهادة الزور وبين الظلم والجبروت وبين القهر لخلق الله وبين الكسل والتكاسل في أداء حق الله في هذه الحياة، ومن أهم ذلك وأوجبه أركان الإسلام التي يقوم عليها الشهادتان وإيام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج والصيام.
وبما أننا نستقبل غدا أو بعد غد بمشيئة الله شهر رمضان المبارك فأقول الصوم الشرعي إمساك عن الطعام والشراب وعشرة النساء وما في حكمها خلال يوم كامل من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية التقرب والامتثال إلى الله.
هذا الصوم هو أفضل أنواع الصيام الذي عرفه البشر، فبعض أصحاب الأديان يصومون عن كل ذي روح فقط ويأكلون ما لذ وطاب من ألوان الطعام والشراب كما لا يصومون عن شهوة الفرج، وبعضهم يصومون صياما يمتد أياما فيجهد البدن ويشق على النفس، أما الصيام الواجب في الإسلام فهو لكل المسلمين المكلفين على حد سواء.
عبادالله! إن أبرز حكم الصوم:
(1) أن فيه تزكية بطاعة الله فيما أمر والانتهاء عما نهى وتدريبها على كمال العبودية لله ولو كان ذلك يحرمان النفس من شهواتها وما اعتادت عليه وألفته خلال السنة كلها وهذا سر بين العبد وربه ولذا جاء في الحديث القدسي : (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي).
(2) وفي الصيام حفظ للصحة وإراحة للمعدة مما اعتادت عليه وتصفية للشوائب العالقة فيها ولذا يعالج كثير من الأطباء بالصيام وقد نفع كثيرا.
(3) في الصيام إعلاء للجانب الروحي على الجانب المادي وكل إنسان فيه عنصران يتجاذبان عنصر الطين وعنصر الروح، عنصر الطين يجذبه للأسفل وعنصر الروح يجذبه للأعلى، فإذا تغلب عنصر الطين هبط إلى الأسفل وأصبح في مستوى الأنعام بل هو أضل سبيلا.
(4) وفي الصيام تربية وجهاد وصبر وتحمل، صبر على الطاعة، وصبر على المعصية، ولا عزو أن يسمي شره رمضان شهر الصبر.
(5) وفي الصوم كسر لحدة الشهوة ولذا وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم علاجا لمن لم يستطع الزواج.
(6) وفي الصوم إشعار للمسلم بقيمة النعم لأن من ألفها قد لا يحس بها إلا إذا فقدها، فمن شبع بعد جوع أو ارتوى بعد عطش أحس بهذه النعمة، ثم إن فيه توليد لشعور الإحسان بالآخرين ممن يجوعون طيلة العام ويعانون من آلام الفقر والحاجة.
(7) وأخيرا فالصوم يعد المسلم لدرجة التقوى {لعلكم تتقون} ذلك أن الصم له أسرار عجيبة في حفظ الجوارح الطاهرة والقوى الباطنة وإلجامها بلجام التقوى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي كتب الصيام على عباده وجعله شهرا قمريا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وصوموا شهر رمضان طاعة لربكم لتنالوا مرضاته فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له منا تقدم من ذنبه).
عباد الله يقول الله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} لقد فرض الله الصيام شهرا قمريا ذلك أن توقيت المسلمين كله بالأشهر القمرية كما في حول الزكاة وعُدِد النساء، ثم إن توقيت المسلمين بالأشهر القمرية توقيت مألوف معروف تدل عليه علامة طبيعية هي ظهول الهلال.
ثم إن الشهر القمري ينتقل بين فصول العام فتارة يكون في الشتاء وتارة يكون في الصيف ومرة في الربيع وأخرى في الخريف.
وها ننحن نرى أحيانا الصيام في شدة البر وأحيانا في شدة الصيف وأحيانا تطول أيامه وأحيانا تقصر، وها نحن في هذا العام لا يتجاوز الصايم اثنى عشر ساعة في حين كنا نصوم قبل عشر سنوات ما يزيد على أربع عشرة ساعة.
فالمسلم يتاح له مع هذا التقلب الصيام في فصول العام المختلفة وهنا يؤدي العبادة في كل زمان وعلى كل حال وهذا دليل الطاعة والانقياد.
والشهر القمري لا يزيد عن ثلاثين يوما ولا ينقص عن تسعة وعشرين يوما، وسواء كان ثلاثين أو تسعة وعشرين فالأجر ثابت لا ينقص، صح عنه صلى الله عليه وسلم قوله (شهران لا ينقصان شهرا عيد رمضان وذو الحجة) أي لا ينقص أجرهما.
عباد الله ! ودخول شهر رمضان يثبت برؤية الهلال أو إكمال عدة شعبان يكمل ثلاثين يوما سواء كان الجو صحوا أو غائما لكن ينبغي أن يعلم أن شعبان يكمل ثلاثين يوما إذا ثبت دخوله، أما إذا لم يثبت فهنا يرجع إلى الشهر الذي قبله من أجل معرفة إكماله ونحمد الله جل وعلا أن هذه البلاد المباركة تعمل بالرؤية الشرعية، ولذا يتم تحري هلال رجب وشعبان ورمضان سنويا ولعلمائنا اليد الطولى في ذلك.
وهذا سر أخذ كثير من البلاد الإسلامية والهيئات والجمعيات بم تعمل به المملكة العربية السعودية، فإذا ثبت دخول هلال رمضان في هذه البلاد صام بصيامها كثير من المسلمين فلله الفضل والمنة.
اللهم بلغنا بفضلك ومنتك شهر رمضان ووفقنا لصيامه وقيامه، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، اللهم ومن تكتب له بلوغ هذا الشهر المبارك اللهم فأنزل عليه في قبره من بركاته واجعل ذلك فسحة في قبره ومغفرة لذنبه يا ذا الجلال والإكرام.
هذا وصلوا وسلموا على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.