خطبة بعنوان “حالنا بعد رمضان” بتاريخ : 3-10-1429هـ
الخطبة الأولى :
فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن في انصرام الأيام والشهور عبرة لأولي الألباب، فقد كنا بالأمس القريب نعيش أياماً عذبة المذاق، طيبة العيش، عشنا فيها متقلبين بين نعم الله الكثيرة من صيام، وقيام، وصدقة، وبر، وتلاوة للقرآن وغير ذلك من الصالحات.
عشنا فيها لحظات سعيدة، وأوقات حميدة.. عشنا فيها ونحن نتمنى ألا تمر من بين أيدينا، ولكن هيهات هيهات، فهكذا الدنيا.. قال تعالى[..كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }(المؤمنون).. نعم هكذا الدنيا فيها عبر ومواعظ تشعر العباد بأنها ليست لحي وطناً، إنما هي معبر للدار الآخرة، والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والسعيد من اتعظ بغيره وتزود للقاء ربه.
عباد الله: يا من ودعتم قبل أيام شهراً كريماً، وموسماً عظيماً، صمتم نهاره وقمتم ما تيسر من ليله، وأقبلتم فيه على تلاوة القرآن، وأكثرتم من الذكر والدعاء، وتصدقتم بجود وسخاء، وتقربتم إلى ربكم بأنواع القربات، رجاء ثوابه، وخوف عقابه، فكم من جهود بذلت، وأجساد تعبت، وقلوب وجلت، وأكف رفعت، ودموع ذرفت، وعبرات سكبت، وحق لها ذلك في موسم المتاجرة مع الله، في موسم الرحمة والمغفرة والعتق من النار.
ها هو شهر رمضان قد ودعنا مرتحلاً عنا بما أودعناه فيه، شاهداً علينا بما قدمناه بين يديه، فهنيئاً لمن كان شاهداً له عند الله بالخير، شافعاً له بدخول الجنة والعتق من النار، ويا خسارة من كان شاهداً عليه بسوء عمله، شاكياً إلى ربه من تفريطه وتضييعه، قال صلى الله عليه وسلم:(.. رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ..) (رواه الترمذي وأحمد).
عباد الله: إن المسلم حقاً من تكون تقوى الله شعارهَ طيلةَ عمرِه، ولباسَه مدى حياته، والمؤمن الصادق من يكون عمله بالطاعات، واجتنابه للمعاصي والخطيات، ديدنا له ومنهاجاً إلى أن يتوفاه الله، فلا تزيده مواسم الخير إلا اجتهاداً في العبادة، وحرصاً على الطاعة، وترويضاً للنفس على الخير، فإذا انقضت هذه المواسم فإن آثارها تبقى متمثلة في حياته، صوراً حية وواقعاً ملموساً، وعملاً شاهداً ومحسوساً.
عباد الله: لقد مر بنا هذا الشهر المبارك كطيف خيال، مر بخيراته وبركاته، مضى من أعمارنا وهو شاهد لنا أو علينا بما أودعناه فيه، فليفتح كل واحد منا صفحة محاسبة مع نفسه، ماذا عمل فيه، وما مدى تأثيره على العمل والسلوك.
هل أخذنا بأسباب القبول بعده، واستمرينا على العمل الصالح، أم أن واقع كثير من الناس خلاف ذلك.
هل تأسينا بالسلف الصالح الذين توجل قلوبهم، وتحزن نفوسهم، وتدمع عيونهم عندما ينتهي رمضان لأنهم يخافون ألا يتقبل منهم عملهم، فقد كانوا يكثرون الدعاء بعد رمضان أن يتقبل الله منهم، قال تعالى {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}(المؤمنون)، وقد سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، أهم الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر، فقال لا يا ابنة الصديق، هم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون ويخافون ألا يتقبل منهم)(رواه أحمد والترمذي). وقد قال الله تعالى {إنما يتقبل الله من المتقين}(المائدة).
فحري بكل عاقل أن ينظر في حاله ويفكر في أمره، ويتعرف على علامات الربح والخسارة بعد العمل، وأهمها: الاستمرار على العمل الصالح والسنة الحسنة، فمن كانت حاله بعد رمضان أحسن منها قبله بأن كان مقبلاً على الخير، حريصاً على الطاعة، مواظباً على حضور الجمع والجماعات، تائباً منيباً ملتزماً مستقيماً صالحاً بعيداً عن المعاصي والذنوب، فهذه أمارة على قبول عمله إن شاء الله.
أما من كان حاله بعد رمضان كحاله قبله فهو وإن أقبل على الطاعة في هذا الشهر إلا أنه سرعان ما ينكص على عقبيه، ويعود إلى المعاصي والذنوب، ويهجر الطاعات، ويقترف ما حرم الله، ويضيع الصلوات، ويتبع الشهوات، ولا يصون سمعه وبصره وجوارحه، وأقواله وأفعاله وأمواله عن المحرمات، فهذا لا يزداد من الله إلا بعداً والعياذ بالله.
عباد الله: وفي تلك الأيام المباركة من أيام العيد الذي جعله الله لنا فرحة وسروراً بعد صيام الشهر المبارك يتأكد علينا شكر المنعم المتفضل على نعمه وفضله.. فنسأله تعالى أن يجعله عيداً مباركاً علينا وعلى جميع المسلمين، وأن يعيد لأمة الإسلام عزها ومجدها، وأن يرد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً.
عباد الله: في تلك الأيام يبادر الناس إلى الترفيه عن النفس بالمباحات، والفرحة والسرور بالتوسعة على الأهل والعيال والأقارب والجيران، ويا لها من فرحة عامرة تغمر قلوب المؤمنين بفضل الله، كيف لا وقد جاء العيد بعد مجاهدة للنفس ثلاثين يوماً، يتقلب فيها المسلمون بين طاعات كثيرة متنوعة، من خلال البذل والعطاء، ومجاهدة النفس بالصيام والقيام والركوع والسجود، وهذا كله تربية للنفس لكي تواصل مسيرتها إلى الله وجنته.
عباد الله: عليكم ببر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران، والإكثار من البذل والإحسان، والمبادرة إلى كل خير يقرب إلى الله، والحذر من استغلال هذا العيد للوقوع فيما حرم الله، وعليكم بتصفية نفوسكم من درن سيء الأخلاق فالمؤمن هو الذي يحرص على كل عمل يرضي الله، وهو الذي يحب أن يكون قلبه سليماً ليقابل الله وهو عنه راض.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ }(الرعد).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير رسله وأنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله قد شرع لنا بعد صيام رمضان صيام الست من شوال، ورتَّب على صيامها أجراً عظيماً، فقد روى مسلم عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(مَن صَام رمضان، ثم أَتْبَعَهُ سِتّاً من شوال، كان كصيامِ الدهر). ولا يلزم صيامها متتابعة في هذا الشهر، بل يجوز له أن يصوم حسب ما يتيسر له خلال شهر شوال. وهذا الحديث فيه دلالة عظيمة على عظم فضل الله تعالى على عباده حيث جعل صيام رمضان وستاً من شوال بأجر صيام سنة كاملة فلله الحمد والمنَّة. ونسأله سبحانه العون والمزيد من فضله.
عباد الله: وصيام ست من شوال لا يحتاج إلى نية من الليل في أصح قولي العلماء، وإذا أصبح المسلم ولم ينو الصيام بالليل جاز له الصيام من النهار في أي وقت إذا كان لم يأكل أو يشرب.
ويجوز لمن صام الست من شوال أن يفرد يوم الجمعة بالصيام ما دام من الست، ولا حرج في ذلك إن شاء الله.
ومن الناس من يقول: إن صيام ست من شوال بدعة، وهذا يدل على ضعف النفس عن الطاعة، وهذا فهم غير صحيح للحديث الصحيح المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كمن صام الدهر كله)(رواه مسلم).
فينبغي على المسلم أن يتحرى ما يقوله كي لا يقع في الإثم العظيم، قال تعالى:[أتقولون على الله ما لا تعلمون](الأعراف).
ومن لم يرغب في صيام هذه الست فلا يكون سبباً في منع غيره من صيامها، فالتطوع أجره عظيم، ويكفي أجراً لمن صام الست من شوال وغيرها من صيام التطوع هذا الحديث العظيم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن الله تعالى قال:… وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه)(رواه البخاري).
عباد الله: من كان عليه قضاء من رمضان وخاصة بعض النساء ممن يصيبهن الحيض والنفاس وغيرهن من أصحاب الأعذار فعليهم أن يبادروا بقضاء تلك الأيام، ولابد من تبييت النية من الليل في القضاء لأنه عن واجب، وأما النية في النوافل كالست من شوال وغيرها فإنها لا تلزم.
ولا يجوز الفطر في القضاء على أية حال إلا إذا كان للمسلم عذر يبيح له الفطر كالمرض وغيره، أما من يأمر زوجته بالفطر في القضاء فهذا لا يجوز في حقه، بل عليه التوبة من ذلك، وإعانتها على أداء القضاء لتبرأ ذمتها، ولا يجوز لها أن تطيعه لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
عباد الله: بعض النساء يحرصن على صيام الست من شوال قبل أن تقضي الأيام التي عليها، والأولى في حقها المبادرة إلى قضاء ما عليها ثم بعد ذلك تصوم الست من شوال.
عباد الله: احرصوا بارك الله فيكم على الخير، كونوا أدلاء عليه، وإياكم والمعاصي فإن شؤمها عظيم وأثرها كبير، واحرصوا على طاعة الله، وحقوق الأهل والأولاد، ولا تكونوا مثل بعض الناس الذين يفرطون في تربية أولادهم فيعود ضرر ذلك عليهم وعلى مجتمعهم. إحفظوهم بالطاعة، ووجهوهم إلى مكارم الأخلاق لتقر أعينكم بهم، وترتاح نفوسكم برؤيتهم، وينتفع المجتمع بجهدهم وبذلهم.
نسأل الله الكريم المنان ذا الفضل والإحسان أن يتقبل منا ومنكم صالح أعمالنا، وأن يغفر لنا تقصيرنا وزللنا، وأن يوفقنا دائماً للاستمرار على طاعته إنه سميع قريب وبالإجابة جدير.
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً](الأحزاب:٥٦). الجمعة: 3-10-1429هـ