خطبة بعنوان “استقبال رمضان”.
الخطبة الأولى :
فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من العمل الصالح لاسيما في مواسمه التي تتكرر عليكم وأنتم في صحة وعافية، واعلموا أن الله جل وعلا كتب عليكم صيام رمضان وسن لكم رسولكم صلى الله عليه وسلم قيامه قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين) وقال صلى الله عليه وسلم (ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا).
عباد الله: المتأمل في حكمة تشريع الصيام يلمس الفرق العظيم والبون الشاسع بين حال سلف الأمة وحال المسلمين اليوم، وكيف كان السلف يفهمون رمضان ويستقبلونه ويقضون أيامه ولياليه، وتظهر آثاره العظيمة عليهم في المأكل والمشرب والعبادة ليلا ونهارا، فهم يتقلبون فيه بأنواع الطاعات، ولذا كانوا ينتظرون قدومه، ويستعدون للقائه، ويهيئون أنفسهم، ويسألون الله أن يبلغهم رمضان ويعنيهم على قيامه وصيامه وأداء الحقوق فيه كاملة للخالق والمخلوقين.
إن شأن الصالحين في كل زمان ومكان أنهم يفرحون لقدوم هذا الشهر المبارك ويتمنون أن يدركهم وهم أحياء ليتعرضوا إلى نفحات الكريم المنان، ولعلهم أن يكونوا من العتقاء من النار، فلله كم في هذا الشهر الكريم من عتيق من النار، نسأل الله بمنه وكرمه أن نكون منهم ووالدينا وإخواننا وأزواجنا وذرياتنا .. اللهم آمين.
عباد الله: إن رمضان فرصة لمراجعة الحسابات، فمن الخطأ الأكبر أن تنظم الحياة من حولك وتكون قادرا على ذلك وتترك الفوضى في قلبك، ورمضان فرصة لتعلم الإخلاص وفضح الأمل الكاذب الذي يبنيه كثير من الناس وسرعان ما يتلاشى كالسراب.
ورمضان فرصة لترك الأماني الكاذبة، نعم إذ كيف يكون في القيام وترك دفء الفراش تواني أو أماني إذ ما اختار أحد الأماني تقوده إلا كان أثقل ما يكون خطواً وعدم الماء وقت العطش، أما أصحاب النفوس الجادة المشمِّرون عن ساعد الجد أهلُ رمضان، منهم سباقون لكل خير وتراهم مرتوون دائما، فإن كانوا أصحاب قوة ومنعة استسقوا لأنفسهم فشربوا، وإن كان ضعفاء لن يعدموا وريثا لموسى عليه الصلاة والسلام يسقي لهم ويزاحم الرعاع.
ورمضان مدرسة نتعلم فيها علو الهمة، وما أحلى السير مع الهمم العوالي. إن فيها حياة النفس وسمُّوها وعلوُّها وحفظها دائما بالطاعة والعبادة.
والهمة مقدمة الأشياء؛ فمن صلحت له همته وصدق فيها صلح له ما وراء ذلك من الأعمال.
ولقد أبدع ابن القيم حينما قال:(مثل القلب مثل الطائر كلما علا بعد عن الآفات وكلما نزل احتوشته الآفات).
إن دقائق الليل والنهار غالية فلا ترخصها أيها المسلم بالغفلة والتواني، وعليك أن تلج باب التزكية الواسع الذي أفلح أصحابه قال تعالى:{قد أفلح من زكاها].
يقول بشر بن الحارث الحافي:(بحسبك أن قوما موتى تحيا القلوب بذكرهم، وأن قوما أحياء تقسو القلوب برؤيتهم).
وصدق والله، فليل السابقين يقظة، وليل غيرهم نوماً، ونهار السابقين جداً، ونهار غيرهم شهوة.
عباد الله: لما سمع سلف الأمة قول الله جل وعلا:[وَسَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} فهموا أن المراد الاجتهادُ والمسابقة إلى بلوغ هذه الدرجة العالين، فحداهم ذلك للمنافسة في الطاعات في الليل والنهار، وكانوا أشد ما يكونون منافسة في شهر رمضان.
قال الحسن رحمه الله: (إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة).
وقال وهيب بن الورد: (إن استطعت ألا يسبقك أحد إلى الله فافعل).
إن صاحب الهمة العلية والنفس الشريفة التواقة لا يرضى بالأشياء الدنيِّة الفانية وإنما همته المسابقةُ إلى الدرجات الباقية.
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله:(إن لي نفساً توَّاقة ما نالت شيئاً إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه، وإنها لما نالت هذه المنزلة أي الخلافة- وليس في الدنيا منزلة أعلى منها تاقت إلى ما هو أعلى منها هو الجنة في الآخرة).
وهكذا الأخيار الأبرار في كل زمان ومكان علموا قصر العمر فطووا مراحل الليل والنهار اغتناما للأوقات وخوفا من طيِّ الصحائف قبل رصد الحسنات فشمروا للسباق وساروا في ميدان فسيح الغاية فيه الوصول إلى رضا الرحمن، والقرار في جنات النعيم التي رفع لهم علمها ووضح لهم صراطها، فعاينوا المساكين الطيبة في جنات عدن، وتاقوا إلى النظر إلى وجه العزيز الرحيم وسماع خطابه.
لقد حرك الداعي إلى الله وإلي دار السلام النفوس الأبية والهمم العالية وأسمع منادي الإيمان من كانت له أذن صاغية فأسرعوا يا عباد الله منها فها هو موسم الخيرات على الأبواب وها هي جنات الخلود مفتحة الأبواب قد تزينت لطالبيها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي فضل شهر رمضان على سائر شهور العام، وجعله ميزانا يتنافس فيه المتنافسون، وأشهد أن لا إله إلا الله أوجب على المسلمين صيام شهر رمضان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من صام رمضان وقام ليله طاعة لربه وتقربا لمولاه، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أنكم تستقبلون بعد أيام قليلة ـ إن شاء الله ـ سيد الشهور وأفضلها، شهر جليل القدر، كثير الرحمات والجود والنفحات، فيه أنزل القرآن الكريم، وقد خصه الله بليلة هي خير من ألف شهر، إنها ليلة القدر.
وفي هذا الشهر الكريم تفتح أبواب السماء وأبواب الجنة، وتغلق أبواب النيران، وتصفد فيه مردة الشياطين لئلا يفسدوا على المسلمين صيامهم وقيامهم، وينادي مناد كل ليلة من رمضان يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر.
من صام هذا الشهر المبارك إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليله إيماناً واحتسابا غفر له.
فجددوا العهد مع الله أيها الأحباب أن تصوموا هذا الشهر المبارك وتجتهدوا في قيام ليله، فكم من نفس معكم في العام الماضي كانت تدعو الله أن يبلغها رمضان ولكن اخترمتها المنية، وكم ودعتم خلال العام المنصرم من حبيب وغال هو مرهون بعمله لا ينفعه بعد رحمة الله إلا ما قدم من عمل صالح، فضاعفوا العمل ما دمتم في سعة من الأمر قبل أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله.
الجأوا إلى الله بالدعاء أن يبلغكم شهر رمضان وأن يتقبله منكم.
اللهم بلغنا رمضان وأعنا على صيامه وقيامه إيماناً واحتسابا، وتقبله منا يا أرحم الراحمين.