خطبة بعنوان “التفكر في مخلوقات الله”.
الخطبة الأولى :
الحمد لله الذي يسبح كل شيء بحمده والعوالم كلها تخضع لكبريائه وجلاله مجده،وأشهد أن لا إله إلا الله أدار الأفلاك مبرأ الأرواح وأبدع عالم النبات والحيوانات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله جاء بمكارم الأخلاق وامتدت هدايته للآفاق، صلى الله عليه وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله حق تقاته وتفكروا في بديع صنعه ومخلوقاته. لقد أبدع الله صنع الإنسان وخلق العوالم كلها فغدا كل شيء معبرا بغير لسان يدل على نفسه أنه من صنع الرحمن خضعت للخالق العظيم وعظائم المخلوقات ودقائق الموجودات فهي قائمة بأدق نظام وأصدق أحكام فسبحان الخالق المبدع الذي صور الأجنة في بطون أرحامها كيف يشاء وكون خلقها من طين وماء وسيَّر الكواكب في أبراجها وحرك البحار والغامرة بأمواجها.
سبحان من جعل الشمس والقمر يدوران والليل والنهار يتقلبان.
أيها المؤمن الحصيف! انظر إلى تكوين نفسك وتركيب جسمك كيف بني على هيكل عظمى وكساء لحمي له ثلاثمائة وستون عظما على أحجام مختلف وهيئات مؤتلفة بأطراف متداخلة ورباطات متواصلة يتخللها غضاريف واقية وأغشية راقية كسيت بلحم وعصب عليها من الطبقات من الله به عليم، تراعي ميول صاحبها فيحركها بسهولة وفي جوفك معمل عظيم توزعت أعماله واختلفت أحواله فكل جزء منه قائم بعمله بانتظام.
فمن ذا الذي جعله بهذا التركيب وهذا النظام العجيب؟ من ذا الذي وزع أعماله وأدار أحواله؟ من ذا الذي جعل للمشيء الرجلين ولقاء الحاجات اليدين.
الله أكبر! تكوين عجيب، وترتيب محكم دقيق أبدعه الخالق العظيم.
أيها المؤمن!وفكر بعد ذلك بالعوالم وأكنافها وأحجامها وتحركها ودورانها، فكر في النبات والشجر والفاكهة والثمر والبر والبحر والحيوانات والطيور والتوالد على مر الدهور من إناث وذكر، فكر في الظلام والنور والريح والهواء والجو والفضاء والمطر والماء، فكر في الليل والنهار والأسماع والأبصار، فكر في كل موجود سترى أبداع الخالق العظيم.
ومتى طاف عقلك في الكائنات ونظرك في الأرض والسماوات رأيت على صفحاتها قدرة الله وامتلأ قلبك بالإيمان بالله وانطلق لسانك بلا إله إلا الله، وخضعت جوارحك لله فلا خالق غيره ولا رب سواه وصدق الله العظيم : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}،وقال تعالى: { قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}.
عباد الله !
إن هذه البينات والبراهين تستوجب الخضوع لله وحسن بعادته وملازمته طاعته فمال هؤلاء الذين يتقلبون في نعم الله صباح مساء، مالهم عن الحق شاردون وعن الصراط ناكبون يفترشون أرض الله ويلتحفون سماءه ويتنفسون هواءه ويشربون من مائه ويأكلون ما أوجد من الأطعمة مع ذلك يحاربون الله بالعصيان.
والله لو عقلوا لعادوا إلى ربهم، فالحياة قصيرة والحساب عسير والنهاية إما جنات ونهر وإما جحيم وعذاب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله يعز من يطيعه ويتولاه لا إله غيره ولا معبود بحق سواه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خير من دعا إلى صراط الله صلى الله عليه وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فيا عباد الله ! داعي الهدى في قلوب المؤمنين يدري فيبلغ الأعماق وتتجاوب معه معلنة القرار إلى دار القرار.
تفر هذه القلوب المؤمنة من أثقال الحياة ومتاعها ومن مواقع الآثام وعثرة الأقدام كما أخبر الله عن رسله في تذكيرهم لأممهم : { فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
فينبغي أن يكون كل نشاط للبشر في هذه الحياة منطلقا من الغاية السامية لا يجاد الخليقة وهي الطاعة والعبادة، فكل تقلب للعبد في معترك الحياة يجب أن يكون فيه على صلة يمولاه لا يخرج فيه عن طاعته ولا ينصرف فيه عن عبادته.
إن فتن الحياة يا عباد الله وصوارفها كثيرة كالاشتغال بالزوجة والولد وبريق المادة وما يتبعها من المنصب والوظيفة والجاه كل ذلك مما يشد إلى الأرض ويبعد عن الصلة بالله، ولذا أكثرت النصوص من ربط العباد بما حولهم من العوالم ليتفكروا ويتعظوا وليعلموا أن الحياة لها نهاية وأن الغاية منها عباد الله ليتحقق للعبد النتيجة من ذلك فينعم بجنات النعيم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
إن الحرص الشديد على جمع الحطام الفاني لا يزيد صاحبه إلا حاجة وفقرا لأن الرزق مضمون مقسوم لا يزيده الحرص والانصراف عن الله، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قال: ( إن روح القدس ألقى في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ) وفي رواية ( إن رزق الله لا يجره حرص حريص ولا ترده كلاهية كاره ).
فاتقوا الله عباد الله وتفكروا في مخلوقاته وليكن هدفكم من الحياة تحقيق أسمى غاية يريدها الله وهي عبادته والانصراف لطاعته والفرار إليه من أثقال الحياة ومتاعها ومن زخرفها وبهوجها، إن لكل شخص دورا في هذه الحياة فعليه أن يؤديه ألا وهو دور العبادة فمن قام بها مستشعرا أمر ربه فقد حقق غاية وجوده وحظي بسحن العاقبة كما قال تعالى: { يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ . ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ}.
أسأل الله بمنه وكرمه أن يرزقنا الفقه في دينه وأن يجعلنا هداة مهتدين.
عباد الله أكثروا من الصلاة على رسول الله فقد أمركم الله بذلك فقال: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }.
اللهم صل على محمد …