خطبة بعنوان “السب والمحافظة على اللسان” بتاريخ :

الخميس 23 جمادى الآخرة 1440هـ 28-2-2019م

الخطبة الأولى :

الحمد لله القائل في كتابه العزيز { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وأشهد أن لا إله إلا الله الولي الحميد وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أعف الخلق لسانا وأصدقهم مقالا وأكرمهم نوالا صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله وتذكروا رقابة الله عليكم التي لا تترككم لحظة أم تغفل عنك فكل ما يصدر من أقوال وأفعال وحركات وسكون بل وخطرات وهواجس وظنون كل ذلك يعلمه الله، فهو يعلم السر وأخفى والكل محسوب على الإنسان وحاسب عليه إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فالملكان يسجلان والكتاب يحصي ويم القيامة ينكشف الحساب ويكون الجزاء.

عن بلال بن لحارث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله تعالى بها عليه سخطه إلى يوم يلقاه).
ورحمه الله علقمة التابعي الذي يقول وهو من رواة الحديث: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث وصدق الله العظيم : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}.

عباد الله!
حري بالمسلم الذي يريد نجاة نفسه أن يضبط لسانه ويسائل نفسه قبل أن يتحدث عن نوعية الحديث وما فائدته وما هي ذيوله فإن كان خيرا تلك وإلا فالسكوت أسلم وصدق الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ).

ولعل من أخطر ما يتعلق باللسان أنه ترجمان القلب والقلب لا يستقيم حتى يستقيم اللسان ولذا فمن حافظ على لسانه واستقام في كلامه فقد فاز وأفلح قال صلى الله عليه وسلم (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه).
وقال صلى الله عليه وسلم (إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تحاسب، اللسان تقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا وإن اعوجت اعوجنا).

إخوتي في الله! لا حظوا ما يصيب المجتماعات والأسر والأفراد من المصائب والبلايا والمحن والخلاف والشقاق والخصام، وتفكروا في أسبابه ستجدون اللسان يحتل المكانة الأولى فكم من أسرة تفرقت بسبب لسان واحد لا يخاف الله من الرجال أو النساء، وكم من زوجين تفرقا بسبب وشاية ظالمة، وكم من عقوق حصل بسبب سان من رجل أو امرأة لم يقدر عواقب الأمور.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رجلا شتم أبا بكر والنبي صلى الله عليه جالس فجعل النبي يعجب ويبتسم، فلما أكثر الرجل رد عليه أبو بكر بعض قوله فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت، قال رسول الله : إنه كان معك ملك يرد عنك فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان.

وهنا نلحظ أن أبا بكر انتصر لنفسه ودافع وهذا من حقه ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد له مرتبة أعلى ورغب منه أن يتصف بصفة العفو والصفح ليزداد عزة وكرامة وأجرا ويكفي أن الملائكة كانت تزود عن عرضه لكن الطبيعة البشرية التي ركبت في الإنسان والغريزة الآدمية دفعت أبا بكر للرد وهنا يجد الشيطان فرصته في التحريش والإغراء فجاء فعل الرسول ليحسم الموقف وهذا من التطبيق العمالي الذي ينبغي أن يفعله العلماء وطلاب العلم في المجالس التي يحضرونها إذا كثر اللغط والخصومة واللجاج.
والموقف هو من يملك نفسه ويستعلي على الهوى ويلجم لسانه بلجام الهدى فيصفح ويعفو وهل طريق ملاك القلوب ومحبة النفس تحصل بدون التواضع والعفو والحلم والأناة وفي الآخرة خير وثواب وهنا ينال صاحب العفو خيري الدنيا والآخرة.
ولقد صح عنه صلى الله عليه وسلم قوله ( اللهم إني أتخذ عندك عهدا لن تخلفنيه إنما أنا بشر فأي المؤمنين آذيته أو جلدته أو لعنته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها يوم القيامة).

وخلاصة القول:
فإن ما يقوله الإنسان محاسب عليه في سجل حساب عند مليك مقتدر يحب الحياء ويحث عليه ويكره لنا الفحش والتفحش وينهانا عنه فمن الحياء أن نستحيي من الله ولا نعرض أعمالا وأقوالا في سجل الحساب وفيها فحش في القول وبذاءة في اللسان.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}.

بارك الله في ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله وراقبوه واعملوا بطاعته واحذروا أن تكونوا عرضة للإفلاس في الآخرة فإن الإفلاس فيها لا عوض له، فشتان بين الإفلاس في الدنيا والإفلاس في الآخرة، روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ فَقَالَ إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ).

بل إن الحال وصلت إلى ضمان الجنة لمن ضمن ما بين لحييه وما بين رجليه قال صلى الله عليه وسلم (من يضمن لي ما بين لحييه يعني لسانه- وبين رجليه يعني فرجه أضمن له الجنة) رواه البخاري.

وثبت عن ابن مسعود قوله ( ما شيء أحوج إلى طول سجن من لسان).
وكان أبو الدرداء يقول : ” أنصف أذنيك من فيك فإنما جعلت أذنان وفم واحد لتسمع أكثر مما تتكلم “.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ” من كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به “.

وقال علي رضي الله عنه : ” إياكم وما يعتذر منه “.
وقيل: ” إذا الكلام من فضة فالسكوت من ذهب “.

عباد الله!
كم تعمر مجالس الناس القيل والقار والرديء من الكلام، وكم تحصل البذاءة بينهم والخصام في أمور حقيرة تافهة وترتفع الأصوات ويجلب الشيطان بخيله ورجله وكل ينتصر لنفسه ولو كان ذلك بالكذب والسب والشتم والسخرية والاستهزاء، وإن من أعظم ما لاحظته في واقع الناس أن البعض يحرم زوجته أو يطلق من أجل الانتصار في خصومة أو تكذيب صاحبه أو تصديق نفسه وهو غير متثبت من كلامه بل أحيانا يتبين أنه غير مصيب لها خصوصا الشباب الذين كثرت هذه الألفاظ فيما بينهم.

ومما لاحظته أن البعض يدعي أنه رأى في فلان رؤيا ويذهب إليه لوعظه أو نصيحته أو استخلاص حق عنده مدعيا أنه رآه في المنام على حالة كذا وكذا، وهذا من أعظم الكبائر والعياذ بالله، وقد توعد عليه رسول الله بأنه يكلف أن يعقد بين شعيرتين يوم القيامة ولن يستطيع.

ومن ذلك أن بعض الشباب استمرأ الكذب فأصبح عنده شيئا عاديا، فتراه في المجلس يكذب مرتين أو ثلاث ويقول هذا كذب أبيض لا يضر ولا ينفع نقول مثل هذا إن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذابا والعياذ بالله.

فلنتق الله ولنتعاهد ألسنتنا ولنعمر مجالسنا بالذكر والتسبيح والدعاء من أجل أن تشهد لنا يوم القيامة.

هذا وصلوا وسلموا على الصادق المصدوق الذي عصم الله لسانه من الكذب صلى الله عليه وآله وسلم.