خطبة بعنوان “الصيام الزاكي”.
الخطبة الأولى :
فيا أيها الصائمون! أمل كل صائم في كريم الجزاء كأمل الجير في فيض العطاء كلاهما يأمل خيرا غير أن تضحية الصائم وجهده الذي يبذله في الصيام لا ترتقي إليه تضحية أي عامل ولذلك ارتفع الله بأجر الصائمين إلى درجة تفضل العد وتفوق الحصر لأنهم عاملوا والله وضحوا بأفضل متعة امتثالا لأمر الله فكان الجزاء من الباري عظيما كما كان العمل منهم كريما يوضح ذلك أتم بيان الحديث القدسي : (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي).
إن الفرحة عند الفطرة عظيمة لأن الصائم يطمع في أجر الصيام الذي يحتسبه طاعة لله واستجابة لأمره واقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم وما أكثر ما يدعو الصائمون بالقبول والغفران والفرحة العظمى عند لقاء المالك الديان للأمن من الفزع الأكبر والشرب من حوض المصطفى صلى الله عليه وسلم والدخول من باب الريان الذي خصص للصائمين فقط، وصدق الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم : (لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ).
ولكن يا ترى من يدرك هذا الجزاء الضافي ومن ينعم بالفرحتين؟ لا شك أن الذي يدرك ذلك من ارتفع بصومه عن الهفوات والسقطات وصانه عن النزوات والشهوات المحرمة. لا شك أن للعين صياما، وللسمع صياما، ولكل جارحة من جوارح العبد صيام.
فصوم العين كفها عن النظر الحرام في أي أمر وعلى كل وجه ما دام المنظور محرما،
وصوم السمع عدم الإصغاء إلى ما لا يحل سماعه من الكذب والغيبة والوقيعة في الناس،
وصوم اللسان حجزه عن الآثام كالفحش في القول والسباب والشتائم التي كثيرا ما يقع فيها الناس حتى وقت الصيام، وكذلك الاستهزاء بالناس والسخرية بهم مما يخدش الصوم ويقلل من أجره وصدق الله العظيم : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ}.
وقال صلى الله عليه وسلم : ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( ليس الصيام من الطعام والشراب إنما الصيام من اللغو والرفث)، وقوله صلى الله عليه وسلم (رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ورب قائم حظه من قيامه السهر).
ولا يزال في الناس وللأسف الشديد- من يكذب وغش ويخدع ولا يزال فيهم من يحلف اليمين الفاجرة وهو صائم ولا يزال فيهم من يستمع إلى المحرم وينظر إلى المحرم وكل هؤلاء يزعم أنه صائم وأنه يحترم رمضان.
بل يزال في النساء من يشتغل في ليل رمضان بالأمور المحرمة والصالحون يشتغلون بإحساء الليل طاعة لله وتقربا إليه، إن رمضان فرصة العمر التي قد لا تتكرر على المسلم فينبغي أن يستغلها ليدخر له رصيدا يوم العرض على الله.
إن نفوسا مريضة وأفئدة عليلة لا يؤثر فيها الصوم بل تبقى في دائرة الرذيلة لأنها لا تستطيع أن ترفع إلى سمو العبادة وصفائها. إن الحياة لابد فيها من عزيمة صادقة تصدع غوائل الهوى وتردع هواجس الشر وتبطش بالهوى الكذوب وتنطلق بالإنسان إلى حيث العلو والسمو.
ألا ما أروع التسليم في الصوم حين يجوع الصائم ويظمأ وأسباب الغذاء والشرب ميسرة أمامه لولا طاعة الله وخشيته والرغبة في الثواب والرهبة من العقاب.
إنه الصيام جنة من النار وحصن من حصون المؤمن وعبادة تنضبط فتضبط سلوك الصائم وترفعه إلى أن يكون هادئ النفس سليم الصدر عف اللسان طاهر الجنان لا يقابل السيئة بمثلها بل يعفوا ويصفح ويرتفع فوق الدنيا والخطايا.
إنه الصيام الذي يأتي مع القرآن يشفعان في أهلك المواقف التي يحتاج فيها المسلم إلى من يعينه إلى اجتياز عظائم الأهوال وصدق الحبيب المصطفى ( الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خص رمضان بكريم الخصال وأشهد أن لا إله الله فضل العشر الأخيرة من رمضان على غيره وجعل فيها ليلة القدر التي هي أفضل ليالي العام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من صلى وصام وأفطر من بين الأنام، صلى الله عليه وسلم ورضي الله عن من تبعه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنه بعد غد تدخل العشر الأخيرة من رمضان وقد خصها الله بالخصائص العظيمة وفضلها بفضائل مشهورة.
ومن خصائصها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد بالعمل فيها أكثر من غيرها يدل لذلك ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر مالا يجتهد في غيرها.
فينبغي للمسلم أن يجتهد في أنواع العبادة من صلاة وقراءة للقرآن وذكر ودعاء وصدقة فيقتدي بسلف الأمة الذي كانوا يجمعون بين جهادين في هذا الشهر المبارك جهاد بالنهار على الصيام وجهاد بالليل على القيام فغنموا وفازوا بالخير العميم والأجر الجزيل. فاجتهدوا أيها المؤمنون وتنافسوا في مجال الطاعة وتداركوا أوقات الخير لأنها لا تتكرر.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين …