الصيام ـ أحكام وآداب.
تأليف
الدكتور. عبد الله بن محمد بن أحمد الطياروكيل وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف
والدعوة والإرشاد لشؤون المساجد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المقدمة
الحمد لله رب اللطيف الرءوف العظيم المنّان الكبير القدير العزيز الدّيّان الغني العلي القوي السلطان الحليم الكريم الرحيم الرحمن القائل في الكتاب محكم البيان: [شهر رمضان الذي أنزل فيه القرءان هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم]( ).
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين الذي وعد الصائمين الصادقين بالمغفرة من الذنوب فقال ــ وهو الصادق المصدوق ــ: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) ( ) .
أما بعد:
فقد كانت البشرية على موعد مع فجر جديد يحمل إليها كل معالم الهدى والنور حين اصطفى الحق تبارك وتعالى خاتم النبيين رسولاً للعالمين: [وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين] ( ) . ولقد جاءت هذه الرسالة حين بلغت البشرية سن الرشد العقلي. جاءت كتاباً مفتوحاً في مقبل الأجيال شاملاً لأصول الحياة التي لا تتبدل، واهتزت جنبات مكة وبطاحها لنداء الحق.
وكلما مر على الأكوان هلال رمضان عاد إلى الأمة الإسلامية حنينها إلى ما انطوت عليه أيامه من خير وبركة ومغفرة وعتق من النار.
وشهر الصيام خليق أن يحتل المكانة الرفيعة في نفوس المسلمين، لأن الله جمع فيه الخير والنور والهداية. فقد أنزل الله القرآن في شهر الصيام وخصّه بليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، ووقعت فيه حوادث وغيرت مجرى التاريخ.
أخي القارىء:
ينبغي أن يكون شهر الصوم جهاداً متواصلاً ضد شهوات النفس، ومقاومة عنيدة
لنزوات الحس، وانقطاع متبتل إلى الله بالعبادة والطاعة، ومذاكرة واعية لدروس العلم ومدارسة فاهمة لآيات القرآن، وقيام مخلص بالليل وانطلاق مبارك بكل هذه الدروس البليغة إلى بقية أشهر العام ليعيش المجتمع في أمن وسلام، تحرسه عناية الله، سلاحه سلامة المعتقد، ورصيده قوة الإيمان واعتماده على الحي القيوم، ويوم ذاك يتحقق للمجتمع كل ما يصبو إليه من عز ورفعة ويتسم قيادة البشرية من جديد كما تولاها ردحاً من الزمن وصدق الله العظيم: [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ] ( ) .
وبعد، أيها القارئء الكريم:
هذه رسالة موجزة في أحكام الصيام حرصت فيها على سهولة العبارة وسلامة المبنى والمعنى، وذكرت الحكم الشرعي بدليله وتعرضت لكثير من مسائل الصيام التي يحتاجها الناس في الوقت الحاضر، فبينت أحكامها على حسب ما ظهر لي، فإن وفقت فمن الله وحده، وهو الموفق للصواب، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، وسأل الله العفو والمغفرة لكن لي عليك أخي القارىء ألا تبخل عليَّ بما تراه من ملاحظات لتلافيه مستقبلاً.
أسأل الله جلّت قدرته أن يجعل هذا العمل خالصاً، وإليه مقرباً، وعن النار مباعداً، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه الفقير إلى عفو ربه
عبد بن محمد بن أحمد الطيار
الزلفي في ضحوة السبت: 26/2/1411هــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شكر وتقدير
أتقدم بخالص شكري وتقديري لمعالي مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وأصحاب الفضيلة وكلاء الجامعة وسعادة عميد البحث العلمي الدكتور محمد الربيع، حيث وجهوا بتكليفي لإعداد هذا البحث وتابعوه أولاً بأول حتى خرج بهذه الصورة ولله الحمد، فلهم مني الدعاء بالتوفيق والسداد والعون والرشاد.
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التمهيد
ويشمل ثلاثة مباحث:
المبحث الأول:
تعريف الصيام لغة واصطلاحاً.
المبحث الثاني:
مكانة الصيام في الإسلام.
المبحث الثالث:
الصيام عند الأمم السابقة قبل الإسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المبحث الأول
تعريف الصوم لغة واصطلاحاً
الصوم في اللغة:
الصوم في اللغة يطلق على معان منها:
أ ـ الكف عن الشيء.
ب ـ الامتناع.
ج ـ الترك.
قال تعالى حكاية عن مريم [إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً] ( ) .
أي إمساكاً عن الكلام.
وقال امرؤ القيس:
كأن الثريا علقت في مصامها **** …………………………
أي كأنها ثابتة لا تنتقل.
وقوله:
فدعها وسل النفس عنها بجمرة **** وقول إذا صام النهار وهجرا
أي أبطأت الشمس عن الانتقال والسير في الظهيرة فصارت في إبطائها كالممسكة.
وقال النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة **** تحت العجاج وخيل تعلك اللجما
أي خيل ممسكة عن العلف وخيل غير ممسكة.
من صام الفرس إذا أمسك عن العلف وهو قائم أو عن الصهيل.
يقول ابن فارس في مقاييس اللغة: ((…. الصاد والواو والميم أصل يدل على إمساك وركود في مكان….)) ( ) .
ويقول الفيروز آبادي: ((…. صام صوماً، وصياماً، واصطام أمسك عن الطعام والشراب والكلام والنكاح والسير ….)) ( ) .
ويقول صاحب اللسان: ((…. الصوم في اللغة الإمساك عن الشيء والترك له وقيل للصائم صائم لإمساكه عن الطعام وقيل للفرس صائم لإمساكه عن العلف مع قيامه….)) ( ) .
الصوم في الاصطلاح:
اختلف أهل العلم في تعريف الصوم بين مضيق وموسع، فمنهم من أدخل مدة الصوم ومنهم من لم يدخلها، ومنهم من صرح ببعض المفطرات ومنهم من لم يدخلها، ومنهم من صرح بالنية ومنهم من أغفلها( ) والتعريف الذي أرتضيه مستخلص من تعريفات المذاهب المختلفة هو:
((الإمساك بنية عن أشياء مخصوصة في زمن معين من شخص مخصوص بشروط خاصة)).
وهذا التعريف في نظري تعريف جامع مانع، وإيضاح ذلك كالتالي :
قولنا (الإمساك بنية) مؤداه أن الصوم لا يصح إلا بالنية وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك( ) كما نقله البهوتي في كشاف القناع( ) .
وقولنا (عن أشياء مخصوصة) المقصود بها مفسدات الصوم وهي الأكل والشرب والجماع.
وما ينبغي الإمساك عنه اللغو والرفث والفسوق.
وقولنا (في زمن معين) المراد به من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس يدل على ذلك قوله تعالى: [كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ] ( ) .
وقولنا (من شخص مخصوص) هو المسلم البالغ العاقل القادر المقيم غير الحائض والنفساء، فلا يتحتم فعله مع وجود العذر بل يجب القضاء مع زوال العذر.
وقولنا (بشروط خاصة) هناك شروط للإجراء وأخرى للصحة وستأتي بمشيئة الله تعالى.
وبهذا يتضح ما بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي من مناسبة إذ بينهما عموم وخصوص، فاللغوي أعم وأشمل إذ يشمل الإمساك والكف والامتناع والترك والركود.
المبحث الثاني
مكانة الصيام في الإسلام
الصيام أحد أركان الإسلام الخمسة وهو من أفضل العبادات على الإطلاق لأن الله جل وعلا اختصه لنفسه فقال في الحديث القدسي ((كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ….)) ( ) .
وهو عبادة سلبية ليس لها مظهر خارجي إذ هو سر بين العبد وربه يتمثل فيه عنصر المراقبة الصادقة في ضمير المؤمن إذ لا يمكن أن يتطرق له الرياء بحال وصدق الله العظيم [لعلكم تتقون].
فالصوم يربي في المؤمن مراقبة الله ــ عز وجل ــ يراه فيذعن لأمره ويكف من أجله.
وتلك غاية نبيلة وهدف سام تقصر دونه مطامع كثير من الناس. لقد نص القرآن الكريم في ختام آية الصيام [لعلكم تتقون] على أهم خصائص الصيام وحكمته وأبان أنها الحكمة والغاية من الأديان كلها وأنها أخص خصائص الشريعة الإسلامية وهي التقوى التي تعني صيانة النفس من نوازعها وشهواتها وهي جماع الأمر كله يقول الحق تبارك وتعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ..] ( ) .
ويقول تعالى: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) .
يقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ (… وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم إنها التقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة طاعة الله وإيثاراً لرضاه، والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية ولو تلك التي تهجس في البال. والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله ووزنها في ميزانه فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم. وهذا الصوم أداة من أدواتها وطريق موصل إليها ومن ثم يرفعها السياق أمام عيونهم هدفاً وضيئاً يتجهون إليه عن طريق الصيام [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]…) ( ) .
ولو لم يكن في شهر الصوم إلا أنه أحد أركان الإسلام التي لا يتم إسلام المرء إلا بها؛ ثم إنه العمل الذي اختصه الله لنفسه من بين عمل ابن آدم كله؛ وأن فيه ليلة أفضل من ألف شهر فيما سواه؛ وأنه الشهر الذي اختصه الله بنزول القرآن، أقول: لو لم يكن في شهر الصوم إلا هذه الأمور لكفاه شرفاً ومنزلة، يقول تعالى: [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ] ( ) .
ويقول تعالى: [لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ] ( ) .
يقول ابن عابدين في حاشيته: ((…. قال في الإيضاح: أعلم أن الصوم من أعظم أركان الدين وأوثق قوانين الشرع المتين، به قهر النفس الأمارة بالسوء، وإنه مركب من أعمال القلب ومن المآكل والمشارب والمناكح عامة يومه. وهو أجمل الخصال غير أنه أشق التكاليف على النفس….)) ( ) .
المبحث الثالث
الصيام عند الأمم السابقة قبل الإسلام
عندما فرض الله الصيام على المسلمين بقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) .
أخبر أن الصيام كان مفروضاً على الأمم السابقة، والمقصود بهذه الأمم أمم التوحيد كقوم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام وليس المقصود تلك الأمم الوثنية التي كانت تعبد والأوثان زاعمة أنها آلهة وأرباب من دون الله.
ومما هو مقطوع فيه أن صيام من سبقوا من الأمم ليس مثل صيام المسلمين وإن كان الجميع يشتركون في هذه العبادة العظيمة، وهذا يدل على أن دين الله واحد وإن تعددت الرسل والرسالات. نعم إن دين الله واحد في أصوله ومقاصده وقد أشار إلى ذلك في محكم كتابه بقوله تعالى: [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ] ( ) .
أما عن كيفية صيام وزمن من سبقوا فليس لدينا شيء واضح يبين ذلك وكل ما لدينا ما ثبت في السنة حول صيام داود عليه السلام، وصيام موسى عليه السلام ليوم عاشوراء.
روى البخاري في صحيحه أن عبد الله بن عمرو قال: ((أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أقول والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت فقلت له: قد قلته بأبي أنت وأمي، قال: فإنك لا تستطيع ذلك فصم وأفطر وقم ونم وصم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك صيام الدهر، قلت: إني أطيق من ذلك، قال: فصم يوماً وأفطر يومين، قلت: إني أطيق من ذلك، قال: فصم يوماً وأفطر يوماً فذلك صيام داود عليه السلام وهو أفضل الصيام،فقلت:إني أطيق أفضل من ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:لا أفضل من ذلك))( ).
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم
يوم عاشوراء فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل
من عدوهم فصامه موسى، قال: ((فأنا أحق بموسى منكم)) فصامه وأمر بصيامه( ) .
وعن عائشة ــ رضي الله عنها ـ قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه( ) .
وقد ذكرت بعض المصادر صوراً من صيام الأمم السابقة على النحو التالي:
قدماء المصريين:
عرف قدماء المصريين الصوم ومارسوه قصداً إلى صفاء الروح خصوصاً في أيام أعيادهم حيث كان الشعب كله يصوم.
أما الكهنة فكانوا يصومون فوق ذلك من سبعة أيام على ستة أسابيع كل عام.
اليونانيون:
أخذوا الصيام عن قدماء المصريين فقد كان الشعب كله يصوم ترضية للآلهة أياماً متوالية قبل الحروب حتى ينتصروا.
الصينيون:
كانوا يصومون بعض أيامهم ويوجبونه على أنفسهم أيام الفتن والقلاقل.
اليهود:
صام نبيهم موسى عليه السلام أربعين يوماً.
وكان اليهود يصومون عند الحزن والحداد أو عند المرض والخطر.
وورد أنهم يصومون أسبوعاً متوالياً من كل عام تذكاراً لخراب (أورشليم) ويصومون يوماً واحداً للكفارة.
النصارى:
صام نبيهم عيسى عليه السلام أربعين يوماً قبل بدء الرسالة وكان يصوم يوم الكفارة الذي كان مقرراً في شريعة موسى عليه السلام. والنصارى يكثرون من الصيام في أيام محدودة من كل عام على كيفيات معينة ومعظم صومهم إمساك عن تناول ما فيه الروح.
وذكر العلامة ابن كثير ـ رحمه الله ـ أن الصيام الذي كتب على من قبلنا من الأمم شهر كامل عند بعض أهل العلم وعند البعض الآخر ثلاثة أيام وذكر آثاراً تشهد لذلك عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ( ) .
وذكر ابن القيم ـ رحمه الله ـ أن للصوم رتباً ثلاثاً:
أحدهما: إيجابه بوصف التخيير.
والثانية: تحتمه لكن كان الصائم إذا نام قبل أن يطعم حرم عليه الطعام والشراب إلى الليلة القابلة فنسخ ذلك بالرتبة الثالثة: وهي التي استقر عليها الشرع إلى يوم القيامة( ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل الأول
أركان الصوم وأدلته
وعلى من يجب
ويشمل ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: أركان الصوم.
المبحث الثاني: الأصل في وجوب الصوم.
المبحث الثالث: على من يجب الصوم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المبحث الأول
أركان الصوم
للصوم أربعة أركان هي:
1ـ النية.
2ـ الإمساك عن المفطرات.
3ـ الزمان.
4ـ الصائم.
وإليك إيضاحها بإيجاز.
الركن الأول: النية:
ولابد من تبييتها من الليل وهي مطلوبة في الصوم، وفي كل عبادة من العبادات وعمل من الأعمال، لقوله تعالى: [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ] ( ) .
ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) ( ) .
الركن الثاني: الإمساك عن المفطرات:
يجب على الصائم أن يمسك عن جميع المفطرات من الأكل والشرب والجماع وغيرها من مفسدات( ) الصوم.
الركن الثالث: الزمان:
يمسك الصائم عن جميع المفطرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس لقوله تعالى: [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ] ( ) .
الركن الرابع: الصائم:
وهو المسلم البالغ القادر على الصوم الخالي من الموانع( ) .
المبحث الثاني
الأصل في مشروعية الصيام
صيام رمضان أحد أركان الإسلام وفروض من فروض الله، معلوم من الدين بالضرورة، مجمع عليه بين المسلمين، توارثته الأمة خلفاً عن سلف، وقد دل تعليه الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
فمن الكتاب:
قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) .
والأمر في قوله: [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] للوجوب لما فيه من تزكية النفس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة.
ومن السنة:
1ـ ما رواه عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله و إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إلى ذلك سبيلا)) ( ) .
2ـ ما رواه طلحة بن عبيد الله أن أعرابياً جاء إلى النبيصلى الله عليه وسلم ثائر الرأس فقال: يا رسول الله أخبرني ماذا فرض الله عليَّ من الصلاة، فقال: ((الصلوات الخمس إلا أن تطوع شيئاً))، فقال: أخبرني بما فرض الله عليَّ من الصيام، قال: ((شهر رمضان))، قال: هل عليَّ غيره؟ قال: ((لا إلا أن تطوع شيئاً))، قال: فأخبرني ماذا فرض الله عليَّ من الزكاة، فقال: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام، قال: والذي أكرمك لا أتطوع شيئاً ولا أنقص مما فرض الله عليَّ شيئاً فقال صلى الله عليه وسلم: ((أفلح إن صدق أو دخل الجنة إن صدق)) ( ) .
3ـ ما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) ( ) .
4ـ ما رواه أبو هريرة ــ رضي الله عنه ــ من حديث جبريل الطويل حين جاء يعلم الناس أمر دينهم … قال: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: ((الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان..))( ) .
ومن الإجماع:
أجمعت الأمة على الصيام ركن من أركان الإسلام وأنه معلوم من الدين بالضرورة، بل وأجمعوا على أن من أنكر وجوبه كفر( ) .
ومن المعقول:
أولاً: إن الصوم وسيلة إلى شكر النعمة، إذ هو كف النفس عن الأكل والشرب والجماع، وهي من أجل النعم وأعلاها والامتناع عنها زماناً معتبراً يعرف قدرها، إذ النعم مجهولة فإذا فقدت عرفت فيحمله ذلك على قضاء حقها بالشكر وشكر النعم فرض عقلاً وشرعاً وإليه أشار تبارك وتعالى بقوله في آية الصيام: [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) .
ثانياً: ثم إن الصوم وسيلة على التقوى لأنه إذا انقادت نفسه للامتناع عن الحلال طمعاً في مرضاة الله تعالى وخوفاً من أليم عقابه فأولى أن تنقاد للامتناع عن الحرام فكان الصوم سبباً للاتقاء عن محارم الله تعالى وإنه فرض وإليه وقعت الإشارة بقوله تعالى في آخر آية الصيام: [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) .
ثالثاً: إن في الصوم قهر وكسر الشهوة، لأن النفس إذا شبعت تمنت وإذا جاعت امتنعت عما تهوى ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من خشي منكم الباءة فليصم فإن الصوم له وجاء] ( ) . فكأن الصوم ذريعة إلى الامتناع عن المعاصي وإنه فرض( ) .
المبحث الثالث
على من يجب الصوم
يجب صوم رمضان أداء على كل مسلم بالغ عاقل مقيم قادر خال من الموانع.
فأما الكافر: فلا يجب عليه الصوم ولا يصح منه، لأنه ليس أهلاً للعبادة، ومتى أسلم لزمه الصيام من حين إسلامه ولا يقضي ما مضى، يدل على ذلك قوله تعالى: [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ] ( ) .
وأما الصغير: فلا يجب عليه الصوم لرفع القلم عنه حتى يبلغ ويحصل بلوغه بواحدة من ثلاث:
أ ـ إنزال المني باحتلام أو غيره.
ب ـ نبات شعر العانة.
ج ـ بلوغ تمام خمس عشرة سنة.
وتزيد الأنثى على الذكر بالحيض إذ تبلغ به أو أحد الأمور الثلاثة السابقة.
وأما المجنون: فلا يجب عليه الصوم لرفع القلم عنه، وإذا كان الشخص يجن أحياناً ويفيق أحياناً أخرى لزمه الصوم متى أفاق ولم يجب عليه قضاء ما جن فيه.
وأما المسافر: فلا يجب عليه الصوم بل هو مخير بين الفطر والصيام والأفضل له فعل الأيسر عليه يقول تعالى: [وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] ( ) .
وأما غير القادر: وهو العاجز عن الصيام لمرض أو كبر، فلا يجب عليه الصوم بل يقضيه بعد رمضان والكبير يطعم عن كل يوم مسكيناً.
وأما من قام فيه مانع من موانع الصوم فلا يجب عليه الصيام، بل يجب عليه الفطر والمانع كالحيض والنفاس( ) .
قال ابن رشد: ((…. واما على من يجب وجوباً غير مخير فهو البالغ العاقل الحاضر الصحيح إذا لم تكن فيه الصفة المانعة من الصوم وهي الحيض للنساء هذا لا خلاف فيه لقوله تعالى: [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل الثاني
فترة الصوم
ويشمل ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: فترة الصوم.
المبحث الثاني: حكم الصيام في بلاد التي يطول فيها النهار أو يقصر أو لا يوجد فيها نهار أو ليل وقت الصيام.
المبحث الثالث: حكم الصيام إذا اشتبهت الأشهر على المسلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المبحث الأول
فترة الصوم
الصوم الشرعي هو الإمساك عن المفطرات من الطعام والشراب والجماع بنية من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ثم يباح ذلك كله طوال الليل يوضح ذلك قوله تعالى: […وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ] ( ) .
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم)) ( ) .
وقد كانت المفطرات مباحة في أول الإسلام من غروب الشمس حتى ينام الصائم فإذا نام حرم عليه الطعام والشراب والجماع حتى غروب اليوم التالي وقد شق ذلك على بعض الصحابة، يبين ذلك ما رواه البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي وإذن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً فحضر الإفطار فأتى امرأته فقال لها: أعندك طعام، قالت: لا، ولكن انطلق فأطلب لك وكان يومه يعمل فغلبته عيناه فجاءته امرأته فلما رأته قالت خيبة لك، فلما انتصف النهار عشي عليه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ..] ( ) . الآية، ففرحوا بها فرحاً شديداً ونزلت [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ].
والمقصود بالخيط الأسود والخيط الأبيض سواد الليل وبياض النهار.
قال في المغني: ((… والصوم المشروع هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني على غروب الشمس إلى أن قال تعليقاً على الآية: [حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ] يعني بياض النهار من سواد الليل وهذا يحصل بطلوع الفجر… إلى أن قال: والخيط الأبيض هو الصباح و السحور لا يكون إلا قبل الفجر … والنهار الذي يجب صيامه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس …)) ( ) .
وقد علق الله ـ جل وعلا ـ الحكم بأمر سهل ميسور يدركه كل أحد لا يحتاج إلى عد حسابي ولا قياس فلكي فمتى أدبر الليل وبقي منه ما يشبه الخيط الأسود وأقبل النهار وتبين منه ما يشبه الخيط الأبيض وجب الإمساك وحرم الأكل والشرب والجماع وسائر المفطرات حتى تغرب الشمس، وهذه علامة واضحة بارزة لا تحتاج إلى تعلم ومعرفة وهكذا أمور التشريع كلها مبنية على اليسر والسماحة وصدق الله العظيم: [ وما جعل عليكم في الدين من حرجي]( ) .
قال ابن جرير في تفسير الآية الكريمة أنه تعالى ذكر حد الصوم بأن ىخر وقته إقبال الليل كما حد الإفطار وإباحة الأكل والشرب والجماع، وأول الصوم بمجيء أول النهار وأول إدبار آخر الليل، فدل بذلك على أن لا صوم بالليل كما لا فطر بالنهار في أيام الصوم( ) .
المبحث الثاني
حكم الصيام في البلاد التي يطول فيها النهار
أو يقصر أو لا يوجد فيها نهار أو ليل
اختلف أهل العلم في مسألة تقدير الوقت في البلاد التي يطول نهارها ويقصر ليلها والبلاد التي يقصر نهارها ويطول ليلها وكذلك في البلاد القطبية حيث يستمر الليل نصف سنة في القطب الشمالي بينما تكون هذه المدة الطويلة نهاراً في القطب الجنوبي، فمنهم من يرى التقدير ومنهم من يرى وجوب الصوم وتوضيح ذلك فيما يلي:
القول الأول: قال بعض أهل العلم:
إن هؤلاء جميعاً لهم حكم واحد وهو أن تقدر أوقات الصلاة والصيام لهم لكنهم اختلفوا على أي البلاد يكون التقدير على القولين:
أ ـ أن يقوموا بتقدير أيامهم ولياليهم وأشهرهم بحساب أوقات أقرب البلاد المعتدلة إليهم التي تتميز فيها الأوقات ويتسع كل من نهارها وليلها لما فرض الله من صوم وصلاة.
ب ـ وقال بعضهم بل يقدرون أوقاتهم على حسب البلاد التي نزل فيها التشريع: مكة أو المدينة لأن هذا أيسر لهم خصوصاً أنهم يتوجهون إلى الكعبة في صلاتهم من صوم وصلاة.
وقال في تفسير المنار: ((واختلفوا في التقدير على أي بلاد يكون فقيل على البلاد المعتدلة التي فيها التشريع كمكة والمدينة وقيل على أقرب بلاد معتدلة إليهم وكل منهما جائز فإنه اجتهادي لا نص فيه)) ( ) .
القول الثاني: قال بعض أهل العلم:
إذا كان يوجد في هذه البلاد نهار وليل وجب عليهم الصيام مهما كان طول النهار وقصر الليل والعكس ومن لم يستطع منهم الصوم أفطر وقضى وكان حكمه حكم
المريض المعذور.
والذي أراه راجحاً أن الحكم يختلف بين البلاد التي لها ليل ونهار والبلاد التي لا يوجد فيها ليل أو نهار وقت الصيام.
فالبلاد التي يكون فيها ليل أو نهار وقت الصيام يلزم أهلها الصوم مهما طال النهار أو قصر لأن الله أناط الحكم بطلوع الفجر وغروب الشمس، يقول تعالى:[وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ]( ). فما دام يوجد نهار وليل يجب عليهم الصيام.
وأما من لم يستطع فيفطر معذوراً ويقضي.
أما البلاد التي لا يوجد فيها ليل أو نهار وقت الصيام كالبلاد القطبية فهؤلاء يقدَّرون أوقاتهم على حسب أقرب البلاد إليهم ولا بد أن لهم تقديراً في بعض شؤون حياتهم اليومية فما كانوا يعملون به في أمور دنياهم ينبغي أن يعملوا به في أمور عبادتهم وهذا أيسر عليهم وأسهل.
يقول مفتي الديار السعودية سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم في جواب على سؤال نصه: كيف يصوم من لا تغيب عنهم الشمس إلا أربع ساعات ولا يختفي الضوء أو لا تغيب عنهم أبداً؟
((… وكتب في حق هؤلاء أن لهم ليلاً( ) صحيحاً فإذا غربت الشمس فيفطرون ويستمرون على الفطر إلى أن يبدأ يزيد نورهم فهو الفجر ويستعملون المكيفات وإذا قدر أن شخصاً لا يقدر فيفطر ويقضي وأفتيت بهذا كغيرهم ممن توجد له ضرورة))( ).
((والذين يأخذون مدة ما تغيب عنهم يجب عليهم الصيام وينظرون البلاد التي تليهم))( )
وقد ورد إلى سماحة الشيخ محمد بن عثيمين السؤال التالي:
س: نحن في بلاد لا تغرب الشمس فيها إلا الساعة التاسعة والنصف مساءً أو العاشرة
مساءً فمتى نفطر؟
فأجاب بما يأتي:
جـ: تفطرون إذا غربت الشمس فما دام لديكم ليل ونهار في 24 ساعة فيجب عليكم الصوم ولو طال النهار( ) .
المبحث الثاني
حكم الصيام إذا اشتبهت الأشهر على المسلم
إذا اشتبهت الأشهر على المسلم كأن يكون محبوساً أو في بعض الأمكنة النائية عن الأمصار، فلم يستطع معرفة شهر رمضان بالخبر، فعليه أن يتحرى ويجتهد. فإذا غلب على ظنه دخول شهر رمضان بناء على قرينه قامت في نفسه صامه.
ولا يخلو الأمر من أربعة أحوال:
أحدهما: ألا ينكشف له الحال فإن صومه صحيح ويجزئه لأنه أدى فرضه باجتهاده فأجزاه كما لو صلى في يوم الغيم بالاجتهاد وكما لو صلى بالاجتهاد إلى القبلة.
الثاني: أن ينكشف له أنه وافق الشهر أو ما بعده فإنه يجزئه في قول عامة الفقهاء لأنه أدى فرضه بالاجتهاد في محله.
الثالث: إن وافق قبل الشهر فلا يجزئه في قول عامة الفقهاء لأنه أتى بالعبادة قبل وقتها كمن صلى قبل الوقت لا تجزئه الصلاة.
الرابع: أن يوافق بعضه رمضان دون بعض فما وافق رمضان أو بعده أجزأه وما وافق قبله لم يجزئه( ) .
ــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل الثالث
فضائل الصوم
ويشمل تمهيداً وسبعة مباحث:
المبحث الأول: الصوم منهج رائع للتغيير.
المبحث الثاني: الصوم طريقة للجندية.
المبحث الثالث: الصوم يقوي الإرادة.
المبحث الرابع: الصوم ينشىء الأخلاق الرفيعة.
المبحث الخامس: الصوم يحقق الاطمئنان النفسي.
المبحث السادس: الصوم مظهر من مظاهر وحدة الأمة الإسلامية.
المبحث السابع: الصوم له الأثر الأكبر في الصحة العامة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضائل الصوم وأسراره
تمهيد:
الصيام مدرسة يتربى فيها كل مسلم فيقوم بعمل يصلح النفوس ويسمو بها ويدفع إلى اكتساب المحامد والبعد عن المفاسد ويقوي العزائم ويقوم الإرادة ويصلح الأبدان ويبرئ الأسقام ويقرب البعد من ربه، وبه تغفر الذنوب وتكفر السيئات وتزداد الحسنات وترفع الدرجات، وشهر رمضان الذي أوجب الله صيامه سيد الشهور فيه بدأ نزول القرآن وهو شهر الطاعة والقربة والبر والإحسان وشهر المغفرة والرحمة والرضوان، فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وقد ورد في فضله وفضل صيامه أحاديث كثيرة نجتزىء منها:
1ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شامته فليقل إني صائم مرتين. والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي الصيام لي وأنا أجزي به الحسنة بعشر أمثالها)) ( ) .
2ـ ما رواه حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة)) ( ) .
3ـ ما رواه سهل ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم يقال أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد)) ( ) .
4ـ ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة)) ( ) .
5ـ ما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء وغلَّقت أبواب جهنم وسلست الشياطين)) ( ) .
6ـ ما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) ( ) .
من أسرار الصوم:
الصيام من أعظم ما يعين على محاربة الهوى وقمع الشهوات وتزكية النفس وإيقافها عند حدود الله فيحبس لسانه عن اللغو والسباب والانطلاق في أعراض الناس والسعي بينهم بالغيبة والنميمة المفسدة كما يردعه عن الغش والخداع والتطفيف والمكر وارتكاب الفواحش وأخذ الربا والرشوة وأكل أموال الناس بالباطل بأي نوع من الاحتيال وجعل المسلم يسارع في فعل الخيرات من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة على وجهها الصحيح وجهاتها المشروعة، ويجتهد في بذل الصدقات وفعل المشاريع النافعة ويحرص على تحصيل لقمة العيش من الوجه الحلال ويحذر من اقتراف الإثم والفواحش( ) .
ففي الصوم فضائل عظيمة وله أسرار كثيرة يدرك الناس بعضها، وبعضها الآخر قد يخفى عليهم.
ومن أبرز أسراره وفوائده( ) .
المبحث الأول
الصوم منهج رائع للتغيير
من فوائد الصوم العظيمة أنه يعد المسلم بالطاقة التي تجعله قادراً على إحداث التغيير في نفسه، فهو يتدرب عن طريق الصيام يومياً فيمتنع عن كل محبوب ومرغوب. ويقول لسلطان الهوى والشهوة: لا، وما أروعها من إجابة إذا كانت في مرضاة الله. ومتى استطاع المسلم أن يقولها فقد حقق السيادة والاستعلاء على شهواته ومطامعه أما أولئك المفطرون الذين لا يستطيعون كبح جماح نفوسهم، بل استسلموا لشهواتهم ورغباتهم فهم عبيد أرقاء، بل أخس من الأرقاء ولله در الشاعر( ) .
لولا المشقة ساد الناس كلهم **** الجود يفقر والإقدام قتال
المبحث الثاني
الصوم طريق للجندية
إن الحياة العسكرية بكل ما تفرضه من قسوة وشدة وتقشف وامتثال للأوامر والتزام بتوجيهات القيادة، إننا نجد تجسيدها العلمي في الصيام.
ذلك أن الصوم أسلوب قهري يفرض على الصائم منهجاً خاصاً في حياته قوامه التقشف والحرمان والصبر على مرارة الجوع وحرارة الظمأ ومكابدة المتاعب في زجر النفس والتحكم في شهواتها. والحيلولة دون رغباتها فكأن المسلم الصائم جندي يسمع ويطيع ويمتثل للأمر الرباني دون تردد أو تحايل، وإذا كان الجندي يلتزم بالأوامر وينفذها تحت عين الرقيب فإن الصائم ينفذ الأوامر دون رقابة من أحد إلا من الله الحي القيوم الذي لا يغفل ولا ينام ـ سبحانه وتعالى ـ.
المبحث الثالث
الصوم يقوي الإرادة
الصوم يقوي الإرادة ويشحذ العزيمة ويعلم الصبر ويساعد على صفاء الذهن وإيقاد الفكر وإلهام الآراء الثاقبة إذا تخطى الصائم مرحلة الاسترخاء، وتناسى ما قد يطرأ له من عوارض الارتخاء والفتور أحياناً، وعندما يمتلك الفرد قوة الإرادة يستطيع أن يقول للمنكر هذا منكر ويستطيع أن يواجه كل سلبية من سلبيات المجتمع ويكون عضواً فاعلاً فيه يبني ولا يهدم ويعمر ولا يدمر. وعندما تمتلك الشعوب قوة الإرادة فإنها لا تسمح لمغتصب أو محتل أن يدنس أرضها أو يتحكم في مصيرها وهي أيضاً تنتصر بهذه الإرادة في معارك الجهل والتخلف وصراع الشهوات والأهواء وتحطم بهذه الإرادة كل معوقات البناء والتطوير.
يقول الشيخ الدوسري ـ رحمه الله ـ: وتقوية الإرادة في النفوس ليس بالأمر الهين، فقد عمل رجال الاجتماع وأصحاب التنظيم العسكريين على تقويتها في المجتمع هذا الزمان وقد سبقهم الدين الإسلامي في ذلك أربعة عشر قرناً، وما أحوج المسلم خاصة أن يكون قوي الإرادة صادق العزيمة ولذا أمره الله بمكابدة ألم الجوع والعطش في الصيام…
فجدير بالمسلم الصائم أن لا يفعل بعد إفطاره ما يخل بهذه القوة أو يوهنها أو يقلل من شأنها فيهدم في ليلة ما بناه في نهاره من قوة الإرادة التي صبر بسببها عن محبوباته ومألوفاته( ) .
المبحث الرابع
الصوم ينشئ الأخلاق الرفيعة
الصوم مدرسة يتربى فيها الصائم على الأخلاق الفاضلة أخلاق التقوى والبر والإحسان والبذل والتعاون والشفقة والمحبة والصبر وغير ذلك من الأخلاق الكريمة التي يبنيها الصوم في نفس الصائم.
والصوم ينشئ للصائم خلق المراقبة ويقيم منه حارسا عاماً على نفسه لئلا تصدر منه مخالفة شرعية وهو يضبطه من الداخل فتصدر عنه الأعمال الخارجية خاضعة لهذه الرقابة.
أترى الصائم يصدق مع ربه ويكذب على الناس، أتراه يخلص في صومه ثم ينافق في المجتمع؟ إن الإخلاص كل لا يتجزأ، وإن ذروة سنامه وملاك أمره الإخلاص مع الله فمن أخلص معه سبحانه مجال أن يخدع أو يغش أو يخون. ولهذا فإن الصوم عامل من عوامل تأصيل الأخلاق وتعميقها وبنائها وترسيخها لتأخذ صفة عملية تجتمع كلها في ثمرتها الظاهرة التي نوه الله عنها في كتابه[لعلكم تتقون].
يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: ((وللصوم تأثير عظيم في حفظ الجوارح الظاهرة والقوى الباطنة وحمايتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها…
فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات فهو من أكبر العون على التقوى…)) ( ) .
المبحث الخامس
الصوم يحقق الاطمئنان النفسي
الصراع مستمر بين النفس الأمارة بالسوء والنفس اللوامة وكل معصية يقترفها المسلم نتيجة لسيطرة النفس الأمارة وكل قربة يتقرب بها المسلم تمثل سلاحاً قوياً تستخدمه النفس اللوامة.
ولهذا فالصوم ينشئ السلطة النفسية ويقويها ويمكنها من أداء رسالتها وممارسة دورها في حماية السلام وصيانته داخل كيان الإنسان فمهمتها توجيه اللوم والتأنيب إلى صاحبها كلما حاول أن يخدع وساوس النفس الأمارة أو يقع تحت تأثيرها وبذلك تختفي الصراعات داخل النفس وتنتصر قوى الخير ويّعم السلام و الأمن داخل النفس ثم ينتقل إلى الجوارح فتنعم هي الأخرى بالأمن والاطمئنان فيتحقق الخير كله للمسلم الصائم.
المبحث السادس
الصوم مظهر من مظاهر وحدة الأمة الإسلامية
الصوم مظهر عملي من مظاهر وحدة المسلمين وتساويهم غنيهم وفقيرهم حاكمهم ومحكومهم كبيرهم وصغيرهم ذكرهم وأنثاهم فكلهم صائم لربه مستغفر لذنبه يمسكون عن الطعام في وقت واحد ويفطرون جميعاً في وقت واحد ويتساوون طيلة نهارهم في الجوع والحرمان كما يتساوون في الشعائر الأخرى المرتبطة بالصيام.
فالصوم يحقق في مجتمع الصائمين نوعاً من وحدة الهدف ووحدة الشعور ووحدة الضمير ووحدة المصير.
تقوم الأمة جمعاء في موسم معين من العام وفي قدر معدود من الأيام وعلى نسق واحد بين جميع الأنام إنه حلقة اتصال بين شعوب قوية، بين شعوب الأمة الإسلامية جمعاء مهما تناءت الديار وشط المزار تصهرها في بوتقة واحدة وتضعها أمام تجربة واحدة لها آثار واحدة ومظهر جماعي واحد. وبذلك تأتلف قلوبهم ومشاعرهم فتغدوا قلباً واحداً يتجه في الحياة وجهة واحدة وهذا هو المثل الأعلى للوحدة بين شعوب هذه الأمة بل المثل الأعلى لكل وحدة في الحياة، لأنها وحدة تنبع من الضمير وتصنع المستقبل والمصير وتنبعث من الباطن لتحدث آثارها في الظاهر وتحقق قول الحق سبحانه [وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ] ( ) .
إن هذه الوحدة التي يحققها الصوم وحدة مبدأ لأنها ثمرة عبادة جادة.
ووحدة ضمير: لأنها تنبع من أعمال الوجدان عن صميم النفس الإنسانية.
ووحدة مصير: لأنها تقود الأمة كلها إلى مصير واحد تنتهي إليه وتنصب فيه، وهو التقوى التي جعلها الله ثمرة الصيام.
ووحدة شعور: لأنها تجمع مشاعر الأمة وإحساسها على هدف واحد وتضعها على طريق واحد.
ووحدة عقيدة: لأنها تنبع عن إيمان ويقين وتترعرع في جو التقوى والعبادة( ) .
وهي في مظهرها الرائع تعطي صورة صادقة عن الوحدة الكبرى التي يتساوى فيها أبناء الأمة مهما اختلف الأجناس والألوان والأوطان وإذا أردت مصداق ذلك فأدر بصرك ذات مرة وأنت تفطر في حرم الله الآمن في بيته العتيق لترى مئات الآلاف وهي تفطر جميعاً في ثانية واحدة إن لم أقل في أقل من الثانية فهل ترى مظهراً للوحدة وأضح من هذا المظهر، ولكنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
المبحث السابع
الصوم له الأثر الأكبر في الصحة العامة
إن في الصوم صحة عظيمة بجميع معانيها صحة بدنية حسية وصحة وروحية معنوية.
فالصوم يجدد حياة الإنسان بتجدد الخلايا وطرح ما شاخ منها وإراحة المعدة وجهاز الهضم وحمية الجسد والتخلص من الفضلات المترسبة والأطعمة غير المهضومة والعفونات أو الرطوبات التي تتركها الأطعمة والأشربة.
ولقد أكثر الأطباء من ذكر فوائد الصوم ومما قالوه أنه يحفظ الرطوبات الطارئة ويطهر الأمعاء من فساد السموم التي تحدثها البطنة. ويحول دون كثرة الشحم في الجوف وهي شديدة الخطر على القلب فهو كتضمير الخيل يزيدها قوة على الكر والفر.
وأما الصحة المعنوية الروحية فهي ما يورثه الصوم من توجيه الصائمين إلى الله سبحانه وتعالى وحسن مراقبته ومعرفة الغاية من خلقهم وإعدادهم للأخذ بجميع وسائل التقوى التي تقيهم من الخزي والذل والخسران في الدنيا والآخرة فتصح قلوبهم وتشفى من مرض الشبهات ومرض الشهوات الذي ابتلى به كثير من الناس.
يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز: ((وفي الصيام فوائد كثيرة وحكم عظيمة منها تطهير النفس وتهذيبها وتزكيتها من الأخلاق السيئة والصفات الذميمة كالأشر والبطر والبخل وتعويدها الأخلاق الكريمة كالصبر والحلم والجود والكرم ومجاهدة النفس فيما يرضي الله ويقرب لديه ومن فوائد الصوم أنه يعرف العبد نفسه وحاجته، وضعفه وفقره لربه ويذكره بعظيم نعم الله عليه ويذكره أيضاً بحاجة إخوانه الفقراء فيوجب له ذلك شكراً لله سبحانه والاستعانة بنعمه على طاعته ومواساة إخوانه الفقراء والإحسان إليهم … ومن فوائد الصوم أيضاً أنه يطهر البدن من الأخلاط الرديئة ويكسبه صحة وقوة، اعترف بذلك الكثير من الأطباء وعالجوا به كثيراً من الأمراض)) ( ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل الرابع
رؤية الهلال وثبوت الصوم والفطر
ويشمل خمسة مباحث:
المبحث الأول:
بيان ما يثبت به دخول شهر رمضان وشوال.
المبحث الثاني:
صيام يوم الشك.
المبحث الثالث:
اختلاف المطامع وأثره في وجوب الصوم والفطر.
المبحث الرابع:
رؤية بلد مكة مقدمة على غيرها.
المبحث الخامس:
حكم العمل بالحساب في دخول شهر رمضان وخروجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المبحث الأول
بيان ما يثبت به دخول شهر رمضان وشوال
يقول الحق تبارك وتعالى: [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ) .
في هذه الآية إيجاب صيام من أوله إلى آخره ومعرفة أوله وآخره تتم بأحد أمرين:
أولاً:
رؤية هلال شهر رمضان أو شوال، فمتى ثبتت رؤية هلال شهر رمضان وجب الصيام ومتى تثبتت رؤية هلال شهر شوال وجب الفطر سواء رآه بنفسه أو رآه غيره وصدق خبره ودليل ذلك:
1ـ ما رواه ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غمَّ عليكم فاقدروا له..))( ).
2ـ ما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمي عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين…)) ( ) .
بهذه الأدلة يتضح أن الشارع علَّق حكم دخول شهر رمضان بأمر محسوس للناس عليهم ليس فيه مشقة ولا كلفة بل يرون القمر بأعينهم وهذا من تمام نعمة الله على عباده.
كيفية الرؤية:
اختلف أهل العلم في طريق إثبات هلال رمضان وشوال على أقوال ثلاثة:
ــ قيل لا بد من رؤية جمع عظيم.
ــ وقيل تكفي رؤية مسلمين عدلين.
ــ وقيل تكفي رؤية رجل عدل واحد.
وتفصيل ذلك كالتالي:
أولاً: الحنفية:
قالوا: لا تخلو السماء إما أن تكون صحواً أو غير صحو.
أ ـ فإذا كانت السماء صحواً فلا بد من رؤية جمع عظيم لإثبات دخول رمضان وخروجه ومقدار الجمع من يقع العلم الشرعي بخبرهم.
واشترط الجمع لأن المطلع متحد في ذلك المحل والموانع منتفية والأبصار سليمة والهمم في طلب الهلال مستقيمة فالتفرد في الرؤية ظاهر في غلط الرائي.
ب ـ إذا كانت السماء غير صحو بسبب غيم أو غبار ونحوه اكتفى في رؤية الهلال بشهادة مسلم واحد عدل عاقل بالغ لأنه أمر ديني فأشبه رواية الأخبار.
ثانياً:المالكية:
يثبت هلال رمضان بالرؤية على أوجه ثلاثة:
أ ـ أن يراه جماعة كثيرة وإن لم يكونوا عدولاً وهم كل عدد يؤمن في العادة تواطؤهم على الكذب.
ب ـ أن يراه عدلان فأكثر فيثبت برؤيتها الصوم والفطر في حالة الغيم والصحو.
ج ـ أن يراه شاهد واحد عدل فيثبت الصوم والفطر له في حق العمل بنفسه أو في حق من أخبره ممن لا يعتني بأمر الهلال.
أما هلال شوال فيثبت برؤية الجماعة الكثيرة التي يؤمن تواطؤها على الكذب ويفيد خبرها العلم أو برؤية العدلين.
ثالثاً: الشافعية:
تثبت رؤية الهلال لرمضان أو شوال أو غيرهما بالنسبة إلى عموم الناس برؤية شخص عدل سواء أكانت السماء صحواً أم لا بشرط أن يكون الرائي عدلاً مسلماً بالغاً عاقلاً حراً ذكراً وأن يأتي بلفظ أشهد.
رابعاً: الحنابلة:
تثبت رؤية هلال رمضان بقول مكلف عدل واحد ذكراً أو أنثى حراً أو عبداً بلفظ الشهادة وغيرها.
ويثبت هلال شوال برؤية رجلين عدلين، وإنما أجازوا رؤية الواحد في رمضان احتياطاً للعبادة كما أن الاحتياط في خروجها رؤية الاثنين فأكثر.
وقد اتفقت المذاهب على عدم الاعتبار بالحساب وقالوا: إن مردّ دخول رمضان وخروجه إلى الرؤية بالعين المجردة.
والذي نراه راجحاً أنه يكفي في إثبات هلال رمضان شهادة الواحد وفي هلال شوال شهادة الاثنين، وأنه يشترط لقبول الشهادة بالرؤية أن يكون الشاهد بالغاً عاقلاً مسلماً موثوقاً بخبره لأمانته وبصره.
فأما الصغير فلا يثبت الشهر بشهادته لأنه لا يوثق به وأولى منه المجنون.
والكافر لا يثبت الشهر بشهادته لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: ((أتشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله))، فعلق قبول شهادته على إسلامه ومن لا يوثق بخبره لكونه معروفاً بالكذب أو بالتسرع أو كان ضعيف البصر بحيث لا يمكن أن يراه فلا يثبت الشهر بشهادته للشك في صدقه أو رجحان كذبه.
قال النووي ــ رحمه الله ــ: ((… المراد رؤية بعض المسلمين، ولا يشترط رؤية كل إنسان، بل يكفي جميع الناس رؤية عدلين، وكذا وعدل على الأصح. هذا في الصوم. وأما الفطر فلا يجوز بشهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء إلا أبا ثور فجوَّزه بعدل …)) ( ) .
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: ((وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل في صوم رمضان إلا برؤية محققة أو شهادة شاهد واحد كما صام بشهادة ابن عمر وصام مرة بشهادة أعرابي واعتمد على خبرهما…)) ( ) .
وقال ابن حجر ـ رحمه الله ـ: ((… ليس المراد تعليق الرؤية في حق كل أحد بل المراد بذلك رؤية بعضهم وهو من يثبت به ذلك، إما واحد على رأي الجمهور أو اثنان على رأي آخرين…)) ( )( ) .
ثانياً( ):
يثبت دخول شهر رمضان بإتمام شعبان ثلاثين يوماً كما يثبت خروج رمضان بإكماله ثلاثين يوماً، وهذا في حالة عدم رؤية الهلال في دخول رمضان وخروجه. يدل على ما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمي عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين…) ( ) .
المبحث الثاني
صيام يوم الشك
يوم الشك هو ليلة الثلاثين من شعبان إذا لم ير فيها الهـــلال، لغيم أو قتر أو غير ذلك، وقد اختلف أهل العلم في صيامه على قولين:
أحدهما: للجمهور وهو عدم جواز صيامه ووجوب الفطر.
الثاني: رواية للحنابلة يرون وجوب صيامه ومستند الرأيين قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له…)) ( ) .
حيث اختلفوا في معنى فاقدروا له، فقال الجمهور أي انظروا حساب الشهر من أوله فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً. وقال الحنابلة اقدروا له أي ضيقوا الحساب فاجعلوه تسعة وعشرين يوماً.
والصحيح وجوب الفطر يوم الثلاثين من شعبان حال الغيم والقتر لورود بعض الروايات ((فأكملوا شعبان ثلاثين)) ( ) .
قال ابن القيم: ((… وكان إذا حال ليلة الثلاثين دون منظره غيم أو سحاب أكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً ثم صامه ولم يكن يصوم يوم الإغماء ولا أمر بأن تكمل عدة شعبان ثلاثين إذا غم وكان يفعل كذلك فهذا فعله وهذا أمره)) ( ) .
قال في حاشية الروض المربع: ((… وعنه لا يجب صومه قبل رؤية هلاله أو كمال شعبان ثلاثين … وفاقاً للأئمة الثلاثة…
وهو ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة المتواترة واختاره إمام هذه الدعوة ومن أخذ عنه ونهوا عن صيامه لوجوه منها:
أ ـ أن تلك الليلة من شعبان بحسب الأصل ولا تكون من رمضان إلا بيقين.
ب ـ النهي الصحيح الصريح عن تقدم رمضان.
ج ـ الأحاديث الصحيحة الصريحة بالنهي عن صيامه)) ( ) .
وقال الصنعاني: ((… واعلم أن يوم الشك هو الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال في ليله بغيم ساتر أو نحوه فيجوز كونه من رمضان وكونه من شعبان والحديث وما في معناه يدل على تحريم صومه وإليه ذهب الشافعي واختلف الصحابة في ذلك منهم من قال بجواز صومه ومنهم من منع منه وعدَّه عصيانا لأبي القاسم فالأدلة مع المحرِّمين…)) ( ) .
المبحث الثالث
اختلاف المطالع وأثره في وجوب الصوم والفطر
اختلف أهل العلم في وجوب الصوم إذا رؤي هلال رمضان في بلد هل يلزم جميع البلاد الصوم أم لكل بلد رؤيتهم.
وكذا الحال بالنسبة لهلال شوال.
وخلاصة كلام أهل العلم أن في المسألة أربعة أقوال هي:
القول الأول:
أن الرؤية في أي بلد من بلاد المسلمين ملزمة لجميع البلاد بالصوم وهذا رأي الجمهور.
القول الثاني:
أن لكل بلد رؤيتهم ولا يلزمهم رؤية غيرهم وهو قول للشافعية والحنابلة.
القول الثالث:
قالوا: إن كانت البلاد قريبة فإن رؤية أهل بلد الهـــلال ملزمة لباقي البلاد القريبة بالصوم، وإن كانت بعيدة فلا يجب الصوم عليهم. وهذا قول عند الشافعية وهو قول عند الحنابلة ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية إلا أنه قيده ببلوغ الخبر.
القول الرابع:
أنه إذا ثبتت الرؤية عند الإمام لزم الناس كلهم الصوم قربت البلاد أو بعدت، لأن البلاد في حقه كالبلد الواحد وحكمه نافذ في الجميع.
وبالتأمل نرى أن القول الرابع لا يختلف مع القول الثالث وهذا ما نراه راجحاً في المسألة وهو أن البلاد إذا اتحد مطلعها وكانت قريبة من بعض أو ثبتت الرؤية عند الإمام لزم الجميع الصوم.
و قد استدل أصحاب القول الأول بما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته…)) ( ) .
قالوا: هذا الخطاب عام لجميع المسلمين وليس موجهاً لمن تثبت في حقهم الرؤية فقط. حيث إن صوم رمضان معلق بمطلق الرؤية فإذا رآه قوم توجه الأمر لجميع المسلمين فمتى رآه أهل المشرق وجب الصيام على أهل المغرب.
واستدل أصحاب القول الثاني بما جاء في حديث كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام. قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها، فاستهل رمضان وأنا بالشام فرأينا الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني ابن عباس ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟قلت:رأيناه ليلة الجمعة. قال: أنت رأيته؟ قلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. قال: لكنا رأيناه ليلة السبت. فلا نزال نصومه حتى نكمل الثلاثين أو نراه فقلت: أفلا نكتفي برؤية معاوية و صيامه، قال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ) .
وهذا نص في ظاهره على أن لكل بلد رؤيتهم واستدل أصحاب القول الثالث والرابع بمجموع ما استدل به أصحاب القولين الأول والثاني.
غير أن أصحاب القول الثالث اختلفوا في ضبط البعد والقرب بين البلاد على أوجه:
أ ـ قال بعضهم ذلك راجع إلى اختلاف المطامع.
ب ـ وقال بعضهم أن مرد ذلك إلى مسافة القصر فما كان دونها فهو قريب وما كان فوقها فهو بعيد.
ج ـ وقالوا يختلف باختلاف الأقاليم فلكل إقليم رؤيته.
د ـ وقال بعضهم: مرد ذلك لبلوغ الخبر فمن أمكنهم بلوغ الخبر قبل النهار لزمهم الصوم.
ولعل أقرب هذه الأوجه الوجه الثالث ويشهد له حديث كريب.
قال النووي ــ رحمه الله ــ: ((… والصحيح عند أصحابنا أن الرؤية لا تعم الناس بل تختص بمن قرب على مسافة لا تقصر فيها الصلاة وقيل إن اتفق المطلع لزمهم وقيل: إن اتفق الإقليم وإلا فلا)).
وقال بعض أصحابنا: تعم الرؤية في موضع جميع أهل الأرض( ) .
وقال ابن حجر ــ رحمه الله ــ: ((… وقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب:
أحدهما: لأهل كل بلد رؤيتهم.
ثانيها: مقابلة إذا رؤي ببلدة لزم أهل البلاد كلها.
ثالثها: أن يثبت عند الإمام الأعظم فليزم الناس كلهم لأن البلاد في حقه كالبلد الواحد إذ حكمه نافذ في جميع.
رابعها: إن تقاربت البلاد كان الحكم واحداً وإن تباعدت فوجهان…)) ( ) .
وقال القرطبي ــ رحمه الله ــ: ((… واختلفوا إذا أخبر بخبر عن رؤية فلا يخلو أن يقرب أو يبعد فإن قرب فالحكم واحد، وإن بعد فلأهل كل بلد نرؤيتهم…)) ( ) .
المبحث الرابع
رؤية بلد مكة مقدمة على غيرها
يرى بعض أهل العلم أن رؤية بلد مكة مقدمة على غيرها للأسباب التالية:
أ ـ الصلاة وهي الركن الثاني من أركان الإسلام مرتبطة بمكة حيث يتوجه الناس إلى الكعبة في اليوم والليلة خمس مرات على الأقل فينبغي أن ترتبط الرؤية بها.
ب ـ أن الحج وهو الركن الخامس من أركان الإسلام مرتبط بمكة والوقوف بعرفة منذ وجب الحج إلى يومنا الحاضر مرتبط برؤية مكة.
ج ـ ذكر الفقهاء ـ رحمهم الله ـ أن البلاد القطبية التي لا يوجد بها نهار في وقت الصيام يكون التقدير فيها حسب مكة المكرمة وذلك لأنها بلد التشريع وفيها قبلة المسلمين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:((… وأيضاً فإن هلال الحج مازال المسلمون يتمسكون فيه برؤية الحجاج القادمين وإن كان فوق مسافة قصر…)) ( ) .
وقال المطيعي: ((… ألا ترى أن الشارع بنى على اختلاف المطالع كثيراً من الأحكام فبنى عليه اختلاف أوقات الصلاة ووقت الحج فإن العبرة بمطلع أهل مكة فيه..)) ( ).
د ـ مكة المكرمة متوسطة بين بلدان العالم كلها. وقد قرر ذلك أهل العلم وأيدهم فيه علماء الجغرافيا المعاصرون. يقول الإمام أبو الحسن البكري في تفسير [لتنذر] تخوف [أم القرى] مكة أي أهلها [ومن حولها] قرى الأرض كلها وخصت لأنها الوسط( ) .
وها هو الدكتور ـ حسن كمال الدين أحمد ـ الذي قام بعمل خريطة جديدة للكرة
الأرضية جعل فيها مدينة مكة المكرمة مركزاً للإسقاط لبيان اتجاهات القبلة للصلاة على هذه الخريطة.
يقول الدكتور: ومما يجدر ذكره أنني بعدما وضعت الخطوط الأولى في هذا البحث ورسمت عليها القارات الأرضية وجدت أن مكة المكرمة هي مركز لدائرة تمر بأطراف جميع القارات أي أن الأرض اليابسة على سطح الكرة الأرضية موزعة حول مكة المكرمة توزيعاً منتظماً وأن مدينة مكة المكرمة في هذه الحالة تعتبر مركزاً للأرض اليابسة( ) .
المبحث الخامس
حكم العمل بالحساب
في دخول شهر رمضان وخروجه
يقول تعالى:[فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ) .
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غمي عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين…)) ( ) .
هذان النصان وغيرهما يدلان دلالة صريحة وقاطعة على أن مناط يوماً وهما علامتان بارزتان يستطيعهما كل واحد ويتساوى في معرفتهما كل الناس، وليس فيهما مشقة ولا عنت ولا حرج، وهكذا سائر التكاليف الشرعية رفع الله الحرج عنها وصدق الله العظيم: [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] ( ) .
والذين يربطون دخول شهر رمضان وخروجه بالحساب يوجبون العنت والمشقة على الناس فضلاً عن كون الحساب عرضة للخطأ وهو أمر خفي لا يعرفه كل أحد فكيف ينيط الله به أمراً شرعياً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وقد استدل أهل العلم على ذلك من السنة والإجماع والمعقول.
فمن السنة:
1ـ ما رواه عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: ((لا تصوموا حتى تروا الهــــلال، ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له…)) ( ) .
2ـ ما رواه ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنا أمة أمية لا تكتب ولا تحسب الشهر هكذا وهكذا)) يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين.. ( ) .
يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: ((… فهذه الأحاديث المستفيضة المتلقاة بالقبول دلت على أمور:
أحدهما: أن قوله: ((إنا أمة أمية لا تكتب ولا تحسب)) هو خير تضمن نهياً فإنه أخبر أن الأمة التي اتبعته هي أمة لا تكتب ولا تحسب… فيكون الكتاب والحساب المذكوران محرمين منهياً عنهما…)) ( ).
الوجه الثاني: ((لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه)) … ولا يخلو النهي إما أن يكون عاماً في الصوم فرضاً ونفلاً ونذراً وقضاء أو يكون المراد فلا تصوموا رمضان حتى تروه وعلى التقديرين فقد نهي أن يصام رمضان قبل الرؤية والرؤية الإحساس والإبصار به)) ( ) .
ومن الإجماع:
يقول ابن تيمية: ((… فإنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء، أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يرى أو لا يرى لا يجوز والنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كثير، وقد أجمع المسلمون عليه ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً…)) ( ) .
ومن المعقول:
أعلم أن المحققين من أهل الحساب كلهم متفقون على أنه لا يمكن ضبط الرؤية بحساب بحيث يحكم بأنه يرى لا محالة أو لا يرى البتة على وجه مطرد، وإنما قد يتفق ذلك أو لا وهذا يمكن في بعض الأوقات( ) .
قال النووي ـ رحمه الله ـ: ((… قال المازري حمل جمهور الفقهاء قوله صلى الله عليه وسلم: ((فاقدروا له)) على أن المراد إكمال العدة ثلاثين كما فسره في حديث آخر. قالوا: ولا يجوز أن يكون المراد حساب المنجمين لأن الناس لو كلفوا به ضاق عليهم لأنه لا يعرفه إلا أفراد، والشرع إنما يعرف الناس بما يعرفه جماهيرهم والله أعلم…)) ( ) .
وقال ابن حجر ـ رحمه الله ـ: ((… والمراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضاً إلا النذر اليسير فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك. بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً ويوضحه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الماضي: ((فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) ولم يقل فسلوا أهل الحساب والحكمة فيه كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلفون فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم…))( ) .
وقال ابن عابدين: ((.. قوله ولا عبرة بقول المؤقتين. أي في وجوب الصوم على الناس بل في المعراج لا يعتبر قولهم بالإجماع ولا يجوز للمنجم أن يعمل بحساب نفسه..))( )
وقال في مواهب الجليل: ((… وقال ابن الحاجب ولا يلتفت إلى حساب المنجمين اتفاقاً…))( ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل الخامس
الأعذار المبيحة للفطر في نهار رمضان
ويشمل تمهيداً في يسر الإسلام في الصيام ومدخلاً
وفيه سبعة مباحث:
المبحث الأول: من أكل أو شرب ناسياً.
المبحث الثاني: المسافر.
المبحث الثالث: العاجز عن الصيام عجزاً مستمراً لا يرجى زواله.
المبحث الرابع: المريض.
المبحث الخامس: الحائض والنفساء.
المبحث السادس: الحامل والمرضع.
المبحث السابع: الهرم والمكره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تمهيد
يسر الإسلام في الصيام
إن الفرق بين تشريع البشر وتشريع خالق البشر كالفرق بين البشر وبين خالقهم.
فلذلك يأتي تشريع الناس للناس تشريعاً ناقصاً معوجاً مُفرطاً حيناً، ومُفرطاً أحياناً يصيب الحقيقة مرة ويخطئها مرات لا تحصى. أما تشريع الحكيم العليم فقد جاء وافياً باحتياجات الإنسان مصلحاً لحياته مقوماً لاعوجاج نفسه مراعياً مع ذلك ضعفه وبشريته وما يطرأ عليه من أحوال تؤثر فيه، ومن هنا جاء تيسير الإسلام وسماحته في سائر تشريعاته فشريعتنا ولله الحمد تمتاز عن سائر الشرائع السماوية بأنها لا تكلف أتباعها والمنتسبين إليها بما لا يطاق فمبناها على التيسير والتخفيف ورفع الحرج.
والمتتبع لموارد هذه الشريعة يجد هذا المعنى واضحاً جلياً، فالنصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تفيد هذا المعنى على خمسة أقسام( ) .
القسم الأول:
نص في رفع الحرج مثل قوله تعالى: [مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) .
وقوله تعالى: [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ]( ) .
القسم الثاني:
ما يدل على التيسير والتخفيف وليس فيه تنصيص على رفع الحرج مثل قوله تعالى: [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( ) .
وقوله تعالى: [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً] ( ) .
القسم الثالث:
بيان سماحة الدين الإسلامي ويسره وأن الرسول صلى الله عليه وسلم رؤوف بأمته رحيم بهم.
مثل قوله تعالى: [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( ) .
القسم الرابع:
في خشية الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون قد شق على أمته مثل قوله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك…)) ( ) .
القسم الخامس:
أمر الصحابة بالتخفيف ونهيهم عن التشديد مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (( يا معاذ أفتان أنت اقرأ [ سبح اسم ربك الأعلى] [والليل إذا يغشى] [والضحى]))( ) .
يقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ تعليقاً على قوله تعالى: [ يريد الله بكم اليسر ولا يرد بكم العسر].
((… وهذه هي القاعدة الكبرى في تكاليف هذه العقيدة كلها فهي ميسرة لا عسر فيها وهي توحي للقلب الذي يتذوقها بالسهولة واليسر في أخذ الحياة كلها وتطبع نفس المسلم بطابع خاص من السماحة التي لا تكلف فيها ولا تقصير، سماحة تؤدى معها كل التكاليف وكل الفرائض وكل نشاط الحياة الجادة وكأنما هي مسيل الماء الجاري ونمو الشجرة الصاعدة في طمأنينة وثقة ورضاء مع الشعور الدائم برحمة الله وإرادته اليسر لا العسر بعباده المؤمنين …)) ( ) .
مدخل في
الأعذار المبيحة للفطر
الصيام عبادة شاقة تحتاج إلى تحمل وصبر وقد لا يحتملها بعض فئات المجتمع وجرياً على سنة الإسلام القائمة على التيسير ورفع الحرج عن الناس فقد رخص الله عز وجل لبعض عباده في ترك الصوم وأباح لهم الفطر رحمة بهم وتخفيفاً عنهم. يقول تعالى: [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] ( ) .
فقد رخص الله جل وعلا للمريض والمسافر والشيخ الكبير والحائض والنفساء والحامل والمرضع وغيرهم، وهؤلاء يفطرون عمداً في نهار رمضان بل منهم من يجب عليه الفطر ويحرم عليه الصوم كالحائض والنفساء، ويزاد على هؤلاء المعذورين من أكل أو شرب ناسياً وغيرهم مما سنوضحه إن شاء الله في المباحث التالية.
المبحث الأول
من أكل أو شرب ناسياً
إذا أكل المسلم الصائم أو شرب ناسياً صومه فلا شيء عليه فصيامه صحيح ولا يلزمه القضاء ودليل ذلك قول تعالى: [رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا] ( ) .
وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ: ((من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه)) ( ) .
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإتمامه دليل على صحته ونسبة إطعام الناسي وسقيه إلى الله دليل على عدم المؤاخذة عليه، لكن متى ذكر أو ذكر أمسك ولفظ ما في فمه إن كان فيه شيء لزوال عذره حينئذ ويجب على من رأى صائماً يأكل أو يشرب أن ينبهه. لقوله تعالى: [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( ) .
يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: (وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إسقاط القضاء عمن أكل أو شرب ناسياً وأن الله سبحانه هو الذي أطعمه وسقاه، فليس هذا الأكل والشرب يضاف إليه فيفطر بما فعله. وهذا بمنزلة أكله وشربه في نومه إذ لا تكليف بفعل النائم ولا بفعل الناسي) ( ) .
المبحث الثاني
المسافر
وتحته خمسة مطالب
المطلب الأول: أدلة إباحة الفطر للمسافر.
المطلب الثاني: جنس السفر المبيح للفطر.
المطلب الثالث: مسافة السفر المبيحة للفطر.
المطلب الرابع: هل الأفضل الصيام أو الفطر في السفر؟
المطلب الخامس: الفطر لمن نوى الإقامة في بلد.
المطلب الأول
أدلة الفطر للمسافر
يباح الفطر للمسافر الذي هل عليه شهر رمضان وهو في سفر أو نشأ سفراً في أثناء الشهر. واستدل لذلك من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
فمن الكتاب:
1ـ قوله تعالى:[فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] ( ) .
2ـ قوله تعالى:[ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ] ( ) .
فهذا نص صريح في إباحة الفطر للمسافر وأن عليه القضاء بقدر الأيام التي فطرها. وفي الآيات بيان سبب الفطر وهو التخفيف والتيسير على المسلمين.
ومن السنة:
1ـ ما روته عائشة ـ رضي الله عنها ـ زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أأصوم في السفر ـ وكان كثير الصيام ـ فقال: (إن شئت فصم وإن شئت فأفطر) ( ) .
2ـ ما رواه أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة… ( ) .
3ـ ما رواه جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظل عليه فقال: (ما هذا؟) فقالوا: صائم، فقال: (ليس من البر الصوم في السفر…)( ) .
فهذه الأحاديث صريحة الدلالة في إباحة الفطر للمسافر في الجملة وإن كان هناك خلاف بين أهل العلم أيهما الأفضل للمسافر، الفطر أم الصيام.
ومن الإجماع:
أجمع المسلمون على إباحة الفطر للمسافر في الجملة.
قال النووي في المجموع: (… فإن كان سفره فوق مسافة قصر وليس معصية، فله الفطر في رمضان بالإجماع مع نص الكتاب والسنة…) ( ) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (… ويجوز الفطر للمسافر باتفاق الأمة سواء كان قادراً على الصيام أو عاجزاً وسواء شق عليه الصوم أو لم يشق…) ( ) .
ومن المعقول:
إن إباحة الفطر في السفر لكونه مظنة فخفف عن المسلمين دفعاً للمشقة والحرج وصدق الله العظيم: [يريد الله بكم اليسر ولا يرد بكم العسر].
المطلب الثاني
جنس السفر المبيح للفطر
شرط السفر ألا يقصد التحايل على الفطر، فإن قصد ذلك فالفطر عليه حرام والصيام واجب عليه حينئذٍ.
وقد اتفق الفقهاء ـ رحمهم الله ـ على جواز الفطر في السفر الواجب، كسفر الجهاد والحج والعمرة، كما ذهب جماهير أهل العلم إلى جواز الفطر في السفر المندوب والمباح لأنهما محلقان بالواجب لثبوت فطر الرسول صلى الله عليه وسلم في رجوعه من السفر الواجب ورجوعه مباح، وأما المندوب فهو سفر طاعة.
وأما سفر المعصية فاختلفوا فيه على قولين: أصحهما حرمة الفطر فيه، ومثال ذلك السفر لبلاد الكفر بحثاً عن الدعارة والمخدرات والجريمة وسفر قطاع الطريق واللصوص ومن حكمهم، ممن ينشرون الفساد في الأرض ويؤذون المؤمنين في أعراضهم وأموالهم( ) .
المطلب الثالث
مسافة السفر المبيحة للفطر
علق الشارع الحكيم قصر الصلاة وإباحة الفطر على مطلق السفر دون تحديد له غير أنه لما كان السفر مظنة المشقة، والمشقة لا تحصل غالباً إلا مع السفر الطويل، اختلف الفقهاء ـ رحمهم الله ـ في تحديد مسافة السفر المبيحة للفطر.
فمنهم: من ذهب إلى أن المسافة التي يجوز الفطر فيها هي مسيرة يومين كاملين فأكثر وهي تعادل ثمانين كيلو متراً تقريباً.
ومنهم: من ذهب إلى أن المسافة المبيحة للفطر مسيرة ثلاثة أيام.
ومنهم: من ذهب إلى أن المسافة المبيحة للفطر مسيرة يوم واحد فقط.
ومنهم: من ذهب إلى أنه لا حد للسفر الذي يباح الفطر فيه، بل كل ما سمي سفراً عرفاً جاز الفطر فيه.
والراجح: هو القول الأول لأن مسافة اليومين تحتاج إلى الاستعداد وفيها مشقة ظاهرة.
وبهذا القول أخذ جماعة الصحابة والتابعين، وهو قول الأئمة الثلاثة ما لك والشافعي وأحمد ـ رحمهم الله ـ.
قال في مجموع الفتاوى: (… وأما مقدار السفر الذي يقصر فيه ويفطر فمذهب مالك والشافعي وأحمد أنه مسيرة يومين قاصدين بسير الإبل والأقدام هو ستة عشر فرسخاً( ) كما بين مكة وعسفان ومكة ومكة وجدة. وقال أبو حنيفة: مسيرة ثلاثة أيام، وقال طائفة من السلف والخلف بل يقصر ويفطر في أقل من يومين وهذا قول قوي…) ( ) .
المطلب الرابع
هل الأفضل الصيام أو الفطر في السفر
الأفضل للمسافر فعل الأسهل عليه من الصيام والفطر، فإن تساويا فالصوم أفضل لما يأتي:
أ ـ لأنه أسرع في إبراء ذمته.
ب ـ وأنشط له إذا صام مع الناس.
ج ـ ويدرك فضيلة الزمن.
د ـ ولأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
يدل ذلك ما رواه أبو الدرداء أ رضي الله عنه ـ، قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة( ) .
وإذا كان المسافر يشق عليه الصوم فإنه يفطر ولا يصوم في السفر.
وقد أفطر صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أصحابه شق عليهم الصيام.
فعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى كراع الغميم فصام الناس ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر إليه الناس ثم شرب فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام: فقال (أولئك العصاة أولئك العصاة).
وفي رواية: (فقيل له إن الناس قد شق عليهم الصيام وإنما ينظرون فيما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر)( ) .
وإذا قدم المسافر إلى بلده في نهاية رمضان مفطراً لم يصح صومه ذلك اليوم، لأنه كان مفطراً في أول النهار والصوم الواجب لا يصح إلا من طلوع الفجر. ولكن هل يلزمه الإمساك بقية اليوم؟ اختلف العلماء في ذلك فقال بعضهم: يجب عليه أن يمسك بقية اليوم احتراماً للزمن، ويجب عليه القضاء أيضاً لعدم صحة صوم ذلك اليوم.
وقال بعضهم: لا يجب عليه أن يمسك بقية ذلك اليوم لأنه لا يستفيد من هذا الإمساك شيئاً لوجوب القضاء عليه وحرمة الزمان قد زالت بفطره المباح له أول النهار ظاهراً وباطناً( ) .
وهذا هو الراجح إن شاء الله، لكن لا يعلن أكله ولا شربه لخفاء سبب الفطر فيساء به الظن أو يقتدى به خصوصاً من الجهال وضعاف النفوس.
المطلب الخامس
الفطر لمن نوى الإقامة في بلد
اختلف أهل العلم في هذه المسألة خلافاً واسعاً، والصحيح أنه إن نوى إقامة تزيد على أربعة أيام لزمه الصوم وإتمام الصلاة كغيره من المقيمين لانقطاع أحكام السفر في حقه سواء كانت إقامته لدراسة أو لتجارة أو غير ذلك من الأمور المباحة. وإن نوى إقامة أربعة أيام فأقل أو قام لقضاء حاجة لا يدري متى تنقضي فله الإفطار لعدم انقطاع أحكام السفر في حقه( ) .
المبحث الثالث
العاجز عن الصيام عجزاً مستمراً
لا يرجى زواله
كالكبير والمريض مرضاً لا يرجى برؤه وذلك إذا أخبر بذلك الطيب المسلم الحاذق المؤتمن الموثوق بدينه، فلا يجب حينئذ على العاجز الصيام لأنه لا يستطيعه ولا تكليف بما لا يطاق.
يقول تعالى: [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] ( ) .
ويقول تعالى: [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا] ( ) .
ومتى أفطر العاجز عن الصيام وجب عليه أن يطعم عن كل يوم مسكيناً، لأن الله جل وعلا جعل الإطعام معادلاً للصيام حين كان التخيير بينهما أول ما فرض الصيام فتعين أن يكون بدلاً عنه عند العجز لأنه معادل له( ) .
قال البخاري ـ رحمه الله ـ: وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام، فقد أطعم أنس بعد ما كبر عاماً أو عامين عن كل يوم مسكيناً خبزاً ولحماً وأفطر.
وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً( ) .
ويخير العاجز عن الصيام في إطعام بين أن يفرقه حباً على المساكين لكل واحد مدبر من النوع الجيد وزنته( 2/1 562) جراماً ـ لأننا نرجح أن الصاع يزن (4/1 2) كيلوين وربع الكيلو تقريباً ـ وبين أن يصلح طعاماً ويدعو إليه من المساكين بقدر الأيام التي أفطرها فإذا أفطر ثلاثين يوماً دعا ثلاثين مسكيناً وإن أفطر عشرين يوماً دعا عشرين مسكيناً وهكذا.
المبحث الرابع
المريض
المريض الذي يرجى برء مرضه رخص الله له في الفطر وأوجب عليه قضاء الأيام التي يفطر فيها.
قال تعالى: [أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] ( ) .
وقال تعالى: [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ..] ( ) .
والمريض في رمضان له ثلاث حالات:
الأولى: أن لا يشق عليه الصوم ولا يضره فيجب عليه الصوم لأنه ليس له عذر يبيح الفطر.
الثانية: أن يشق عليه الصوم ولا يضره فيفطر ولا ينبغي له الصوم لأنه خروج عن رخصة الله تعالى وتعذيب لنفسه، وتكاليف الشريعة ولله الحمد قائمة على اليسر ورفع الحرج ودفع المشقة.
الثالثة: أن يضره الصوم فيجب عليه الفطر ولا يجوز له الصوم لقوله تعالى:[ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً] ( ) .
وقوله تعالى:[وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ] ( ) .
وإذا حدث له المرض في أثناء رمضان وهو صائم وشق عليه إتمام اليوم جاز له الفطر لوجود العذر المبيح للفطر.
وإذا برئ في نهاية رمضان وقد أفطر أول النهار للعذر لم يصح صومه ذلك اليوم لأنه كان مفطراً في أول النهار والصوم كما مر معنا إمساك بنية من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. لكن يجب عليه القضاء بعدد الأيام التي أفطرها[فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ].
وكذلك إذا ثبت عن طريق الطبيب الحاذق الموثوق بدينه أن الصوم يجلب له المرض أو يؤخر برءه من مرضه فإنه يجوز له الفطر محافظة على صحته واتقاء للمرض ويقضي عن هذه الأيام( ) .
المبحث الخامس
الحائض والنفساء
يحرم الصيام على الحائض والنفساء، ولو صامتا لم يصح منهما ودليل ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم فذلك نقصان دينها) ( ) .
ويجب عليهما القضاء بعدد الأيام التي أفطرتا فيها لقوله تعالى: [فعدة من أيام أخر].
ولحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ وفيه: (كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة…).
والأمر للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه صاحب الأمر عند الإطلاق( ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (… وكذلك ثبت بالسنة واتفاق المسلمين أن دم الحيض ينافي الصوم فلا تصوم الحائض لكن تقضي الصيام…) ( ) .
وإذا نزل الدم من المرأة وهي صائمة ولو قبل الغروب بلحظة بطل صوم يومها ولزمها القضاء. وإذا طهرت من الحيض في أثناء نهار رمضان لم يصح صومها بقية اليوم لوجود ما ينافي الصيام في حقها في أول النهار.
وإذا طهرت في الليل في رمضان، ولو قبل الفجر بلحظة وجب عليها الصيام لأنها من أهله. ولا يوجد مانع منه حتى ولو لم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر على الصحيح من كلام أهل العلم( ) .
المبحث السادس
الحامل والمرضع
المرأة إذا كانت حاملاً أو مرضعاً وخافت على نفسها أو ولدها من الصوم فلها الفطر، ودليل ذلك ما رواه أنس بن مالك الكعبي ـ رضي الله عنه ـ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم وعن الحبلى والمرضع الصوم…) ( ) .
ويلزم الحامل والمرضع في حالة الفطر قضاء ما أفطرتا حين يتيسر لهما ذلك ويزول عنهما الخوف كالمريض إذا برئ.
وإذا خافتا على ولديهما وأفطرتا لزمهما مع القضاء الكفارة على الصحيح من كلام أهل العلم.
قال القرطبي: (… قال ابن عباس: كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصوم أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكيناً والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا…) ( ) .
المبحث السابع
وقد ألحق الفقهاء ـ رحمهم الله ـ مجموعة من أصحاب الأعذار غير ما سبق، ومنهم:
1ـ الهرم الذي بلغ الهذيان وسقط تمييزه فلا يجب عليه الصيام ولا الإطعام عنه، لسقوط التكليف عنه بزوال تمييزه. فأشبه الصبي قبل التمييز فإن كان يميز أحياناً ويهذي أحياناً وجب عليه الصوم في حال تمييزه دون حال هذيانه.
2ـ من احتاج للفطر لدفع ضرورة غيره كإنقاذ معصوم من غرق أو حريق أو هدم أو نحو ذلك. فإذا تطلب إنقاذ المعصوم فطره جاز له الفطر وذلك كرجال الدفاع المدني إذ لحقتهم المشقة.
3ـ من غلبه الجوع والعطش أبيح له الفطر دفعاً للضرر الحاصل عليه، ويستدل لذلك بالأدلة العامة التي تنفي الحرج وتقضي بالتيسير ودفع المشقة.
4ـ من أكره على الفطر إكراهاً ملجئاً، بحيث ألزمه غيره أن يأكل أو يشرب ففعل ذلك دفعاً للضرر عن نفسه فهذا عليه القضاء ولا إثم عليه إن شاء الله شريطة أن يكون من أكرهه قادراً على إنزال الضرر به لو لم يتمثل( ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل السادس
مفسدات الصوم ومكروهاته
ويشمل تسعة مباحث
المبحث الأول: الجماع.
المبحث الثاني: إنزال المني باختياره.
المبحث الثالث: الأكل والشرب متعمداً.
المبحث الرابع: ما كان بمعنى الأكل والشرب.
المبحث الخامس: الحجامة.
المبحث السادس: التقيؤ عمداً.
المبحث السابع: خروج دم الحيض والنفاس.
المبحث الثامن: حكم من أفطر متعمداً.
المبحث التاسع: مكروهات الصوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مفسدات الصوم
الصوم هو الإمساك بنية عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهذه المفطرات هي:
1ـ الجماع.
2ـ إنزال المني.
3ـ الأكل والشرب.
4ـ ما كان بمعنى الأكل والشرب.
5ـ القيء عمداً.
6ـ دم الحيض والنفاس.
وإليك إيضاحها في المباحث التالية:
المبحث الأول
الجماع
متى جامع الصائم في نهار رمضان بطل صيامه وعليه التوبة والاستغفار وقضاء اليوم الذي جامع فيه. وعليه مع القضاء الكفارة وهي عتق رقبة، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطيع صيام شهرين متتابعين أطعم ستين مسكيناً لكل مدّبر من النوع الجيد وهو يزن كما سبق (2/1 562) جراماً، لأن الصاع يزن كيلوين وربع الكيلو أو من غير البر من غالب طعام أهل البلد.
ولا يتحول من الصيام إلى الإطعام إلا إذا لم يقدر على الصيام لمانع صحيح، كأن يكون به مرض أو يخشى حدوث المرض بالصوم. أما من تلحقه المشقة المحتملة بالصوم فليس ذلك مسوغاً له للانتقال إلى الإطعام.
ولا بد أن يكون الصيام متتابعاً لا يفطر فيه إلا لعذر شرعي كأيام العيدين والتشريق وأيام الحيض والنفاس للمرأة، أو لعذر حسي كالمرض والسفر لغير قصد الفطر.
فإن أفطر لغير عذر ولو يوماً واحداً لزمه استئناف الصيام من جديد ليحصل التتابع.
ودليل وجوب الكفارة ما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال يا رسول الله: هلكت، قال: (مالك)، قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تجد رقبة تعتقها؟) قال:لا،قال:(فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟) قال: لا, فقال: (هل تجد إطعام ستين مسكيناً؟) قال: لا، قال: فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما نحن على ذلك أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيها تمر والعرق المكتل، قال: (أين السائل؟) فقال: أنا. قال: (خذه فتصدق به)، فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله، فوالله ما بين لا بتيها ـ يريد الحرتين ـ أهل بيت أفقر من أهل بيتي. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه: قال: (أطعمه أهلك…) ( ) .
قال ابن قدامة ـ رحمه الله ـ: (مسألة) قال: ومن جامع في الفرج فأنزل أو لم ينزل أو دون الفرج فأنزل عامداً أو ساهياً فعليه القضاء والكفارة، إذا كان في شهر رمضان.
لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أن من جامع في الفرج فأنزل أو لم ينزل أو دون الفرج فأنزل أنه يفسد صومه. وقد دلت الأخبار الصحيحة على ذلك( ) .
المبحث الثاني
إنزال المني باختياره
إذا أنزل الصائم باختيار بتقبيل أو لمس أو استمناء ـ العادة السرية ـ أو غير ذلك، فسد صومه، لأن هذا من الشهوة التي تنافي الصوم، وعليه القضاء فقط.
أما إن قبل أو لمس دون إنزال لم يفطر. لكن إن كان الصائم يخشى على نفسه من الإنزال لو قبَّل، أو يخشى أن يتدرج من القبلة إلى الجماع لعدم استطاعته كبح شهوته لم يجز له التقبيل سداً للذريعة وصوناً لصيامه من الفساد.
أما الإنزال باحتلام أو بتفكير مجرد عن العمل فلا يفطر، لأن الاحتلام بغير اختياره والتفكير معفو عنه إن شاء الله( ) .
المبحث الثالث
الأكل والشرب متعمداً
وهو إيصال الطعام أو الشراب إلى الجوف من طريق الفم أو الأنف، أياً كان نوع المأكول أو المشروب لقوله تعالى: [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ] ( ) .
فأباح الله جل وعلا الأكل والشرب إلى طلوع الفجر الثاني، ثم أمر بإتمام الصيام إلى الليل. وهذا معناه ترك الأكل والشرب في هذه الفترة ما بين طلوع الفجر إلى الليل.
ويدخل في ذلك السعوط في الأنف، وكذا إيصال كل شيء مائع، أو جامد عن طريق الأنف أو العين أو الأذى شريطة وصوله للجوف( ).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (… ومعلوم أن النص والإجماع أثبتا الفطر بالأكل والشرب والجماع والحيض…)( ).
المبحث الرابع
ما كان بمعنى الأكل والشرب
كل ما كان بمعنى الأكل والشرب كحقن الدم في الصائم بحيث يستغني به عن الأكل والشرب، وكذا الإبر المغذية التي تقوم مقابل الأكل والشرب. فمتى حقن في الصائم دم لحاجة ضرورية كحصول نزيف أو أعطي إبراً مغذية فإنه يفطر ويقضي ذلك اليوم، وقد أبيح له الفطر للضرورة وألزم بالقضاء لأن ما أفطر به يقوم مقام الأكل والشرب.
أما الإبر الأخرى غير المغذية فلا تفطر في أي مكان من الجسم أخذها الصائم وعلى أي كيفية، ما لم تصل إلى جوفه كما سبق.
يقول الشيخ محمد بن إبراهيم: (… والذي يظهر لنا أن إبرة الوريد تفسد الصوم لتحقيق دخول مادتها إلى مستعملها. وقد صرح الفقهاء ـ رحمهم الله ـ بفساد صيام من أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان …)( ).
المبحث الخامس
الحجامة
الحجامة هي شرط ظاهر الجلد المتصل قصداً لإخراج الدم من الجسد دون العروق.فمتى تم استخراج الدم من الصائم بحجامة أو فصد أو سحب للتبرع به لإنقاذ مريض محتاج فإنه يفطر والأصل في ذلك ما رواه شداد بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفطر الحاجم والمحجوم)( ).
وقد وردت أحاديث كثيرة مؤداها التفطير بالحجامة، وعليه فلا يجوز للصائم صوماً واجباً أن يتبرع بإخراج دمه إلا في حال الضرورة القصوى بشرط ألا يتضرر المتبرع ويفطر بذلك اليوم ويقضي( ).
وأما خروج الدم بغير قصد من الصائم كال عاف، ودم الجراحة، وخلع الضرس، ونحوه مما لا يؤثر على الصائم فلا يفطر به، لأنه ليس بمعنى الحجامة ثم إن الصائم معذور في هذه الحالات لأنه محتاج لذلك حاجة ملحة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (… وقد بينا أن الفطر بالحجامة على وفق الأصول والقياس. وأنه من جنس الفطر بدم الحيض والاستقاءة وبالاستمناء، وإذا كان كذلك فبأي وجه أراد إخراج الدم أفطر…)( ).
المبحث السادس
التقيؤ عمداً
وهو استخراج ما في المعدة من طعام أو شراب عن طريق الفم عمداً.
ويفطر بالتقيؤ عمداً سواء كان بالفعل كعصر بطنه، أو بالشم كأن يشم شيئاً له رائحة كريهة نفاذة ليقيء بها، أو بالنظر كأن يتعمد النظر إلى شيء قبيح ليقيء به، وعليه في كل ذلك القضاء. أما إذا غلبه القيء وخرج منه بغير اختياره فإنه لا يؤثر على صيامه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (… كما أنه بأي وجه أخرج القيء أفطر سواء جذب القيء بإدخال يده، أو بشم ما يقيئه، أو وضع يده تحت بطنه واستخرج القيء فتلك طرق لإخراج القيء…)( ).
وقال ابن حجر ـ رحمه الله ـ: (… أما القيء فذهب الجمهور إلى التفرقة بين من سبقه فلا يفطر وبين من تعمده فيفطر. ونقل ابن المنذر الإجماع على بطلان الصوم بتعمد القيء…)( ).
المبحث السابع
خروج دم الحيض والنفاس
فمتى رأت المرأة دم الحيض والنفاس فسد صومها، سواء رأته في أول النهار أو في آخره. يدل لذلك ما رواه أبو سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (… أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم فذلك نقصان دينها…)( ).
وما روته عائشة ـ رضي الله عنها ـ وفيه: (… كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة …)( ).
المبحث الثامن
حكم من أفطر متعمداً
من أفطر متعمداً في نهار رمضان بدون عذر شرعي فقد أخطأ في حق نفسه وفي حق مجتمعه، وإذا أردت أخي المسلم معرفة مدى حرمة ومقدار ذنب المنتهك لحرمة رمضان بالإفطار فيه بالأكل أو الشرب أو الجماع فتأمل ما رواه أبو هريرة يرفعه: (… من أفطر يوماً من رمضان من غير علة ولا مرض لم يقضه صيام الدهر وإن صامه…)( ).
وروي عن عبد الله بن مسعود قال” (من أفطر يوماً من رمضان من غير علة لم يجزه صيام الدهر حتى يلقي الله، فإن شاء غفر له وإن شاء عذبه)( ).
وما رواه أبو أمامة الباهلي ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينما أنا نائم أتاني رجلان فأخذا بضبعي ـ عضدي ـ فأتيا بي جبلاً وعراً فقالا: اصعد، فقلت: إني لا أطيق، فقالا: سنسهله لك. فصعدت حتى إذا كنت في سواد الجبل إذا بأصوات شديدة قلت: ما هذه الأصوات؟، قالوا: هذا عواء أهل النار، ثم انطلقا بي فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دماً، قلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يفطرون قبل تحلة صومهم ـ أي قبل وقت الإفطارـ …)( ).
وهذه صورة بشعة لعذاب أولئك الذين ينتهكون حرمة شهر رمضان، ويستهزؤون بهذه الشعيرة الطاهرة فيفطرون جهاراً نهاراً. إنهم سيعلقون من مؤخرة أقدمهم كما تعلق الدابة الذبيحة، تكون الأرجل هي العلوية والرأس أسفل، ومع ذلك ستنشق أشداقهم ويسيل منها الدم. إنها حقاً صورة بشعة فهل يعتبر الظالمون لأنفسهم المنتهكون حرمة الشهر المبارك الذين لم يراعوا للزمن حرمة ولا لخالقهم حقاً وهدموا الركن الرابع من أركان الإسلام غير مبالين بالغاية من خلقهم [وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون]( ).
وقد ذكر أهل العلم أن من أفطر في رمضان من غير عذر فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب.
قال الذهبي ـ رحمه الله ـ (الكبيرة السادسة من أفطر في نهاية رمضان من غير عذر…)( ).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (… وإذا كان المتقيء معذوراً كان ما فعله جائزاً، وصار من جملة المرضى الذين يقضون ولم يكن من أهل الكبائر الذين أفطروا بغير عذر…)( ).
وإذا ثبت فطر أحد في نهار رمضان من غير عذر وجب على ولي الأمر أو من ينوب عنه أن يعزره حسب ما يؤديه إليه اجتهاده والتعزير يكون بالسجن والجلد لكن ينبغي أن تكون العقوبة رادعة له لئلا يتكرر منه أو يقتدى به غيره.
قال القفال: (… ومن أفطر في رمضان بغير جماع من غير عذر وجب عليه القضاء وإمساك بقية نهاره ولا كفارة عليه، وعزره السلطان وبه قال أحمد وداود…)( ).
وقد نقل الجزائري عن الذهبي قوله: (… من المقرر عند المؤمنين أن من ترك صوم رمضان بلا مرض ولا عذر أنه أشرك من الزاني ومن مدمن الخمر، بل يشكون في إسلامه ويظنون به الزندقة والانحلال…)( ).
إن الذين يجاهرون بإفطارهم وهم في أكمل صحة وأتم عافية وليس لهم عذر يبيح لهم الفطر أناس قد فقدوا الحياء من الله والخوف من عباده، ملأ الجحود عليهم العقول والأفئدة وران على قلوبهم مس من الشيطان والآثام. وما دروا أنهم بإفطارهم هدموا ركناً من أركان الدين، وكانوا فسقة ناقصي الإيمان ساقطي القدر. ينظر إليهم المسلمون بعين الاحتقار وأنهم من أصحاب المعاصي الكبار، ويوم القيامة تنتظرهم عقوبة العزيز الجبار.
وقد ورد إلى اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية هذا السؤال:
س/ ما حكم المسلم الذي مضى عليه أشهر من رمضان بدون صيام مع إقامة بقية الفرائض وهو بدون عائق عن الصوم؟ أيلزمه القضاء إن تاب؟ وأجابت بما يلي:
ج/ صيام رمضان ركن من أركان الإسلام، وترك المكلف عمداً للصيام من أعظم الكبائر. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى كفره وردته بذلك، وعليه التوبة النصوح والإكثار من الأعمال الصالحة ومن النوافل، وعليه أن يحافظ على شرائع الدين من صلاة وصيام وحج وزكاة وغيره ذلك وليس عليه قضاء في أصح قول العلماء لأن جريمته أكبر من أن يجبرها القضاء)( ).
المبحث التاسع
مكروهات الصوم
يكره للصائم فعل أمور قد تؤدي إذا تمادى بها إلى فساد صومه وهذه الأمور وإن كانت غير مفسدة للصوم نفسه لكنها قد تؤدي إلى ما يفسد الصوم، فكرهت من أجل ذلك ومنها:
1ـ المبالغة في المضمضة والاستنشاق عند الوضوء لقوله صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)( ).
فلو دخل ماء المضمضة أو الاستنشاق إلى جوفه عمداً بطل صومه إجماعاً وعليه القضاء. أما لو سبقه الماء بدون قصد فقولان لأهل العلم.
2ـ القبلة:
تكره القبلة للصائم لأنها قد تؤدي إلى إثارة الشهوة التي تجر إلى إفساد الصوم بالإمناء أو الجماع، ولا فرق في ذلك بين الشيخ والشاب، فالاعتبار أولاً وأخيراً بتحريك الشهوة وخوف الإنزال. وكالقبلة المعانقة والمباشرة باليد وغير ذلك من المثيرات.
3ـ إدامة النظر إلى الزوجة أو الأمة، إذا كان ذلك يثير شهوته لأنه قد يؤدي إلى فساد صومه.
4ـ التفكير في شأن الجماع، لأنه قد يؤدي به تفكيره إلى إنزال المني أو الإقدام على الجماع وهذا يفسد صومه ويوقعه في الإثم.
5ـ مضغ العلك ـ اللبان ـ:
إذا كان العلك يتحلل منه شيء يختلط مع الريق ويبتلعه الصائم كما هو معروف في العلك الحالي فهذا حرام وهو مما يفطر به الصائم.
وأما إذا كان لا يتحلل منه شيء أبداً كقطعة المطاط الرخو مثلاً فإن هذا يكره ولا يحرم.
6ـ ذوق الطعام:
ويكره للصائم ذوق الطعام من مرق وغيره إذا لم ينزل إلى جوفه منه شيء ولم يحتج إليه، فإن نزل منه في جوفه شيء فقد أفطر، وإن احتاج إليه لمصلحة ولد صغير أو مريض أو ما شابه هذا فلا كراهة لأنه موضع ضرورة.
7ـ الوصال:
يكره الوصال في الصيام وحقيقته المنهي عنها أن يصوم يومين فأكثر ولا يتناول في الليل شيئاً من طعام أو شراب، فإن أكل شيئاً ولو يسيراً أو شرب فليس بوصال.
والوصال مع كراهته لا يبطل الصيام.
والحكمة من النهي عنه لئلا يضعف الجسم عن أداء الواجبات، بل قد يلحق الجسم ضرر كبير يؤثر على الحواس والأعضاء.
8ـ جمع الريق وابتلاعه وكذا ابتلاع النخامة( ). يكره للصائم أن يجمع ريقه ويبتلعه أو يبتلع النخامة لأن ذلك يصل إلى جوفه ويتقوى به وهو ينافي الحكمة من الصيام.
9ـ شم ما لا يؤمن من شمه أو تجذبه نفسه إلى حلقه كمسحوق المسك أو الكافور أو البخور ونحو ذلك.
10ـ كره بعض أهل العلم:
السواك بعد الزوال والصحيح أن السواك مشروع قبل الزوال وبعده في رمضان وغيره. ولكن ينبغي في رمضان أن يتجنب الرطب الحار الذي قد يتحلل فيصل إلى جوفه( ).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل السابع
رمضان وإنزال القرآن
ويشمل تمهيداً وثلاثة مباحث:
المبحث الأول:
تجديد صلة المسلم بكتاب الله في شهر رمضان.
المبحث الثاني:
تلاوة القرآن ومدارسته وأثرها في إحياء المنهج القويم
في نفوس المسلمين.
المبحث الثالث:
اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان ما لم يجتهده في غيره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تمهيد
رمضان وإنزال القرآن
يقول تبارك وتعالى: [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ]( ).
في شهر رمضان أنزل القرآن، فكانت الهداية وتحققت مستلزماتها وثمراتها على هذه الأرض وفي هذا الشهر أنزل القرآن فكان العلم وكانت المعرفة وكانت المعالم وكانت القيم، كان الكفر يمد أطنابه ويخيم على البشرية، فلما نزل القرآن انحسر هذا المد، وتبدد الظلام، ودبت الروح في الحياة، لأن رسالة الإسلام سـتأخذ أبعادها في الحياة وتعمل عملها في تغيير وجهها المظلم إلى وجه مشرق يحمل الحب والصفاء والهداية والرشاد.
القرآن الكريم هدى للناس كافة وهو هدى للمتقين خاصة يقول تعالى: [ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
ويقول تعالى: [قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ).
وهذا النور له فوائد ثلاثة كما أوضحت الآية الكريمة.
الأولى: يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام.
الثانية: يخرجهم من الظلمات إلى النور.
الثالثة: يهديهم إلى صراط مستقيم.
لقد شرف الله المسلمين أعظم تشريف، وأكرمهم بأرفع مكرمة في شهر رمضان منذ أربعة عشر قرناً من الزمان حين أنزل القرآن العظيم وجعله هداية ونوراً.
فحمل الأسلاف الأمانة ورعوها حق رعايتها، وقاموا بإيصالها إلى ما وطئته أقدامهم من أقطار الدنيا. فاستنارت هذه البلاد بنور الله ودانت البلاد والعباد لله الواحد القهار.
وما أجدرنا نحن المسلمين اليوم أن نقف الموقف المشرف من القرآن، ونعطيه حقه الذي أوجبه الله علينا، ونراعي هذه النعمة العظيمة نعمة الهداية الأبدية العامة في كل شيء ونعمة العزة والقيادة والسيادة.
تلك النهمة التي فيها الشفاء الصحيح للصدور من مرض الشبهات ومرض الشهوات( ).
وبها تحصل المعرفة الصحيحة للحقائق ويتميز الخبيث من الطيب والصادق من المنافق. وبهذه النعمة تحصل الوحدة الصحيحة التامة لجميع الأمة. إن تكرر هذا الشهر في كل عام يذكرها بدستور الوحدة الخالد الكتاب المقرؤ الذي من تمسك به نجى ومن اتبعه اهتدى ومن زاغ عنه ضل ومن حكم به عدل ومن نطق به صدق، حبل الله المتين وصراطه المستقيم وهدايته الخالدة للناس أجمعين.
المبحث الأول
تجديد صلة المسلم بكتاب الله
في شهر رمضان
نزل القرآن الكريم في رمضان وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتدارسه مع جبريل في رمضان، يسمعه ويتدبره ويتلوه غضاً طرياً، ويتأمل مواعظه وعبره ويسرح فكره في معانيه ودلالاته.
والصائم المقتدي بنبيه صلى الله عليه وسلم يؤلف في صيامه بين رمضان وبين القرآن لأن رمضان شهر القرآن: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
ونزول القرآن في رمضان إيحاء قوي لهذه الأمة أن تكثر من قراءته ومدارسته في هذا الشهر، لأنه في حقيقة الأمر وواقعه شهر القرآن.
وما أجمل أن تعقد حلقات تدريس القرآن في المساجد طيلة أيام هذا الشهر، ويهرع المسلمون إليها ليلتمسوا الهداية والحكمة والنور في رحاب الله.
فللقرآن طعم خاص في رمضان لأنه يعيد ذكرى نزوله وأيام تدارسه وأوقات اهتمام السلف به وصدق الحبيب المصطفىصلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه…) ( ).
كان السلف إذا قدم رمضان انشغلوا بالقرآن دون غيره حتى من حلقات العلم.
ثبت عن الإمام مالك ـ رحمه الله ـ أنه إذا هل رمضان أوقف حلقات العلم وكف عن التدريس، والفتيا وقال: هذا شهر رمضان فينبغي أن نتفرغ له.
وفي رمضان من كل عام تتجدد صلة المسلم بكتاب الله، فيقبل عليه قراءة وتدبراً وفهماً وتأملاً وتصديقاً وعملاً.
ويوم أن تتجدد صلة المسلمين بكتاب الله ويعملوا به في شئون حياتهم كلها، يحاربون به العدو ويعبدون به الخالق وتلتف حوله القلوب وتقوم عليه العلوم والمعارف ومنه تستنبط الأحكام. يوم يتحقق ذلك للمسلمين، تكون العزة والكرامة والسيادة والقيامة كما كانت لأسلافهم من قبل.
وللقرآن عند تلاوته آداب ينبغي على المسلم مراعاتها والأخذ بها ومن أهمها:
1ـ إخلاص النية لله سبحانه وتعالى: [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ] ( ).
2ـ القراءة بقلب حاضر يتدبر ويفهم ويخشع ويخاف يستحضر بأن الله يخاطبه في هذا القرآن.
3ـ القراءة على طهارة، لأن هذا من تعظيم كلام الله عز وجل.
4ـ عدم القراءة في الأماكن المستقذرة أو في أماكن تجمع الناس الذين لا ينصتون للقراءة، لأن قراءته في هذه الأمكنة إهانة له.
5ـ القراءة بترنم وتحسين صوت. لكن ينبغي ألا يؤذي أحداً في القراءة، كأن يكون عنده أحد نائم أو يصلي أو بجانبه حلقه علم أو غير ذلك.
إلى غير ذلك من الآداب التي ينبغي أن يتأدب بها قارئ القرآن في كل حين.
المبحث الثاني
تلاوة القرآن ومدارسته وأثرها في إحياء
المنهج القويم في نفوس المسلمين
كلما مر على الأكوان هلال رمضان عاد إلى الأمة الإسلامية حنينها إلى ما انطوت عليه أيامه من نفحات مباركات هي الهدى في ضيائها وإشراقها، وهي القوة في صفاء ينبوعها وأصالتها. والقرآن الكريم هو الذي أفسح لهذه الأمة من هذا الهدى وذلك الضياء وحفل بوجودها على مر الزمن ووضع أصول المنهج الدائم لحياة إنسانية متجددة.
المنهج المتوازن المتناسق.
المنهج الميسر في حدود الطاقة.
المنهج الذي ينادي بإنسانية رفيعة الشأن.
جليلة القدر، تذوب فيها الفوارق الحسية والجغرافية لتلتقي في عقيدة حقه واحدة، ونظام مثالي واحد.
المنهج الذي يسوي بين جميع الناس ويجعل التفاضل بينهم في التقوى[إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( ).
إن المنهج الذي يدفعهم دفعاً إلى أن يعيشوا شهر الصيام في وحدة إسلامية حقيقية تعلو فوق الحواجز والنزعات وترتفع فوق الحدود والجنسيات.
ويجمعهم في وحدة الهدف الذي يقود الأمة إلى تحقيق الغاية المرجوة من وجودها[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
وبنظرة سريعة إلى السلف الصالح، نجد أحدهم بحمله بعض سور من القرآن، أصلح ما أفسده الفرس والروم، فتح القلوب قبل أن يفتح البلاد.
نعم هذا هو واجب المؤمنين الذين يتلون القرآن حق تلاوته كما أمر الله جل وعلا.
وتالله لو طهرت قلوب المسلمين من أمراضها، وخلصت مما شابها لغرفوا قيمتهم وواجبهم نحو القرآن المنجي الوحيد والعاصم الفريد من جميع الأفكار الهدامة التي تفاقم شرها في هذا الزمان وصادرت عقول كثير من الناس بسبب فراغها من وحي الله الذي يحميها ويعصمها منهم فوحي الله فيه الهداية الكافية والشافية والمنجية والعاصمة من جميع مصائد شياطين الإنس المفسدين للعقول والجانين على الفطرة. وفيه البينات الواضحات من الهداية والفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل. ولهذا أبان الله الحكمة في تخصيص شهر رمضان بشريعة الصيام بقوله: [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ] ( ).
إن لتلاوة القرآن ومدارسته تأثيراً كبيراً على النفس بالإصلاح والطهر المترتب عليهما قبول العبد وقربه من ربه عز وجل، ولهذا كان الصالحون على مر الزمان يكثرون من تلاوة القرآن في رمضان ويقلبون عليه إقبالاً صادقاً( ).
يقول سيد قطب: (… والقرآن هو كتاب هذه الأمة الخالد الذي أخرجها من الظلمات إلى النور، فأنشأها هذه النشأة وبدلها من خوفها أمناً ومكَّن لها في الأرض ووهبها مقوماتها التي صارت بها أمة ولم تكن من قبل شيئاً. وهي بدون هذه المقومات ليست أمة وليس لها مكان في الأرض ولا ذكر في السماء، فلا أقل من شكر الله على نعمة هذا القرآن بالاستجابة إلى صوم الشهر الذي نزل فيه القرآن.
المبحث الثالث
اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان ما لم
يجتهده في غيره
إذا شرف الزمان أو المكان شرف تبعاً لهما ما يقع فيهما من الأعمال الصالحة، فالطاعة في مكة أفضل منها في غيرها، وأعمال البر يوم الجمعة أفضل منها في غيره. ومن ذلك رمضان فإنه لفضله فضل كل ما يقع فيه من أفعال الخير كالصدقة، وقيام الليل، وتلاوة القرآن، والاعتكاف، والاعتمار، فكل هذه الأعمال في رمضان أفضل منها في غيره من سائر الشهور، يدل لذلك ما رواه ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل. وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة…)( ).
في هذا الشهر الذي ترتفع فيه النفوس عن الخطايا والدنايا وتتخلص من جواذب المادة وهواتف الغرائز إلى صفاء يطهر جنان الإنسان بالبذل والجود والعطاء.
ولقد كان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أكرم الناس وأجود الناس، إذا أعطى أعطى عطاء من لا يخشى فاقة ولا يخاف حرماناً. وكان يستقبل رمضان بفيض من الجود، حتى يكون أجود بالخير من الريح المرسلة التي تنطلق على سجيتها وتهب على طبيعتها، تسوق السحاب في كل واد وتبث الرخاء في كل مكان.
وكان صلى الله عليه وسلم يجتهد في رمضان أكثر من غيره. يجتهد في الصلاة والقراءة والذكر والصدقة، وكان عليه السلام يتفرغ في هذا الشهر من كثير من المشاغل التي هي في الحقيقة عبادة لكنه يتفرغ من العمل الفاضل لما هو أفضل منه.
وكان السلف الصالح يقتدون بنبيهم في ذلك، فيخصون هذا الشهر بمزيد من الاهتمام ويتفرعون فيه للأعمال الصالحة وعلينا أن نقتدي بهم ونسلك مسلكهم لعل الله أن يحشرنا في زمرة المعصوم وحزبه الطيبين الطاهرين [والذين جاء وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ..]( ).
ومن أفضل ما يشغل به الصائم نهاره ذكر الله والتقرب إليه سبحانه بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل. فهذه هي الباقيات الصالحات التي يدوم نفعها ويبقى أجرها.
فإذا عمر الصائم نهاره بالصيام وتلاوة القرآن، وليله بالقيام راكعاً ساجداً، وحفظ جوارحه من الوقوع في المنهيات، تحقق له الخير والفلاح في الدنيا والآخرة [إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ] ( ).
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: (… وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان الإكثار من أنواع العبادات…).
وكان أجود الناس وأجود ما يكون في رمضان لما يكثر فيه من الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن والصلاة والذكر والاعتكاف، وكان يخص رمضان من العبادة بما لا يخص غيره به من الشهور. حتى إنه كان يتواصل فيه أحياناً ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة…)( ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل الثامن
آداب الصوم
ويشمل مبحثين:
المبحث الأول: الآداب الواجبة.
المبحث الثاني: الآداب المستحبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
آداب الصوم
للصيام آداب كثيرة لا يتم إلا بها ولا يكمل إلا بالقيام بها، وهي على قسمين آداب واجبة لا بد للصائم من مراعاتها والمحافظة عليها، وآداب مستحبة ينبغي أن يراعيها ويحافظ عليها، وبيانها في المبحثين التاليين.
المبحث الأول
الآداب الواجبة
1ـ أن يجتنب الصائم الكذب، لأنه محرم في كل وقت وفي وقت الصيام أشد تحريماً، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (…إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)( ).
2ـ أن يجتنب الصائم الغيبة، وهي ذكر المسلم أخاه بما يكره في غيبته، سواء ذكره بما يكره في خلقته وسواء كان فيه ما يقول أو لم يكن، يقول تعالى: [وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ]( ).
أرأيت أخي القارئ صورة أبشع من هذه الصورة، شخص يأكل لحم شخص ميت. ولكنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. والغيبة محرمة في كل حين ولكنها على الصائم أشد تحريماً لحرمة الزمان.
3ـ أن يجتنب الصائم النميمة، وهي نقل المسلم كلام شخص في شخص إليه ليفسد بينهما. وهي من كبائر الذنوب لأنها فساد للفرد والمجتمع يقول تعالى: [وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ]( ).
4ـ أن يجتنب الصائم شهادة الزور لأنها مما ينافي الصوم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من غشنا ليس منا)( ).
5ـ أن يجتنب الصائم شهادة الزور لأنها مما ينافي الصوم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)( ).
لمبحث الثاني
الآداب المستحبة
1ـ تأخير السحور:
السحور هو الأكل في آخر الليل ، سمي بذلك لأنه يقع في وقت السحر، وقد أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (تسحروا فإن في السحور بركة)( ).
وينبغي للمتسحر أن ينوي بسحوره امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم والتقوّي به على الصيام ليكون سحوره عبادة. وأن يؤخره ما يخش طلوع الفجر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك.
عن أنس بن مالك عن زيد بن ثابت، قال: (تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قام إلى الصلاة، قلت: كم كان بين الأذان والسحور؟، قال: قدر خمسين آية…)( ).
2ـ تعجيل الفطر:
يستحب للصائم تعجيل الفطر إذا تحقق غروب الشمس بمشاهدتها أو غلب على ظنه ذلك بسماع الأذان لأنه خبر موثوق به.
ويستحب أن يفطر الصائم على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء، وهذا فعله صلى الله عليه وسلم. عن سهل بن سعد ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر)( ).
ويستحب للصائم أن يدعو عند فطره بما تيسر، لأن هذا الوقت مظنة الإجابة فينبغي للمسلم أن يستغله كغيره من أوقات الطاعات.
3ـ حفظ اللسان عن فضول الكلام:
ينبغي للصائم أن يحفظ لسانه من فضول الكلام، بأن اللسان مصدر كثير من الآثام. والمؤمنين هم الذين يُعرضون عن اللغو ويتأدبون بآداب الإسلام في أقوالهم. يقول الحق تبارك وتعالى: [وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ] ( ).
والصائم ينبغي أن تصوم جوارحه عن الآثام، ولسانه عن الكذب والفحش وقول الزور وفضول الكلام، وبطنه عن الشراب والطعام، وفرجه عن الرفث، فإن تكلم بما يجرح صومه، وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومه فيخرج كلامه طيباً وعمله صالحاً.
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم المسلم الصائم أن يتحلى بمكارم الأخلاق وصالحها، ويبتعد عن الفحش والتفحش والبذاء والفظاظة. وهذه الأمور السيئة المسلم منهي عنها في كل وقت لكن النهي أشد أثناء تأدية فريضة الصيام.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ: (…والصيام جُنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل أني امروء صائم)( ).
قال ابن حجر: (… وقد استشكل ظاهره بأن المفاعلة تقتضي وقوع الفعل من الجانبين، والصائم لا تصدر منه الأفعال التي رتب عليها الجواب، خصوصاً المقاتلة. والجواب عن ذلك أن المراد بالمفاعلة التهيؤ لها، أي إن تهيأ أحد لمقاتلته أو مشاتمته فليقل إني صائم فإنه إذا قال ذلك أمكن أن يكف عنه فإن أحد دفعه بالأخف فالأخف كالصائل… وهل يخاطب بقوله: (إني صائم) من يقاتله أو يقولها بنفسه؟ قولان قال النووي: وإن جمعهما كان أحسن)( ).
4ـ غض البصر:
على الصائم أن يغض بصره عما حرم الله، لأن للعين صياماً كسائر الجوارح وصيامها غضها عن الحرام يقول تعالى: [وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ…]( ).
شهر الصيام خير مدرسة لمن كان مبتلى بالشهوات والطمع في أعراض الناس، تزجره عن ذلك إذا عقل حكم الله وتدبر حكمته وحرص على إصلاح صومه وتحصيل ثوابه، ففيه يتدرب على غض البصر وكف الجوارح وشغل القلب بالتفكر في آيات الله وتذكر نعمه عليه نعمة نعمة ويحاسب نفسه على شكرها بحسن التصرف فيها، وأما أولئك العابثون الذين يطلقون أبصارهم في الحرام ولا يراعون حرمة للزمان فلا يجنون على أنفسهم إلا الحسرة والندامة في الدنيا وفي الآخرة عذاب أليم.
وصدق الشاعر( ) إذ يقول:
وكنت متى أرسلت طرفك رئداً **** إلى كل عين أتعبتك المناظر
أصبت الذي لا كله أنت قادر **** عليه ولا عن بعضه أنت صابر
ومن الآداب المستحبة للصائم:
أ ـ كثرة القراءة والذكر والدعاء والصلاة والصدقة.
ب ـ استحضاره نعمة الله عليه، حيث وفقه للصيام ويسره عليه فكم من شخص يتمنى الصوم ولا يتيسر له.
ج ـ حفظ سائر الجوارح عن القبائح، فلا يفعل الصائم ما يخدش صيامه أو يشينه، والجوارح المأمور بحفظها: اللسان والعين والأذان والبطن والفرج واليد والرجل. فإذا صان المسلم جوارحه عن الآثار فقد كمل صومه وضوعف أجره.
د ـ يستحب للصائم أن يفطر صائماً أو أكثر ولو على تمرة أو شربة ماء فهذا من أفضل الصدقة في رمضان.
هـ ـ يستحب للصائم أن يستعمل السواك، ولا فرق بين أول النهار وآخره ــ على ما رجحناه ــ لأن السواك مطهرة للفم مرضاة للرب.
هذه بعض آداب الصوم الواجبة والمستحبة التي ينبغي للصائم أن يتأدب ويتحلى بها ليفوز يوم التغابن يوم يربح أقوام ويخسر آخرون.
يقول ابن رجب ـ رحمه الله ـ: الصائمون على طبقتين:
أحدهما: من ترك طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى يرجوه عنده عوض ذلك في الجنة، فهذا تاجر مع الله وعامله والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً ولا يخيب معه من عامله، بل يربح أعظم الربح…
الطبقة الثانية: من الصائمين من يصوم في الدنيا عما سوى الله فيحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه، وفرحه برؤيته( ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل التاسع
الشعائر التعبدية
في رمضان وآثارها
وتشمل تمهيداً وستة مباحث:
المبحث الأول: قيام الليل.
المبحث الثاني: ليلة القدر.
المبحث الثالث: اعتكاف العشر الأواخر من رمضان.
المبحث الرابع: زيادة الإنفاق في سبيل الله.
المبحث الخامس: تلاوة القرآن.
المبحث السادس: نافلة الصوم وأثرها في تقرب العبد لربه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشعائر التعبدية في رمضان وآثارها
تمهيد:
الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، يزيد بالاستقامة وينقص بالانحراف. يقول تعالى:[وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ] ( ).
ويقول تعالى: [لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ] ( ).
فالصوم عبادة من أشرف العبادات وأجلها، وكل شعيرة فيه من الشعائر التعبدية المشروعة مصدر لزيادة الإيمان، ولهذا عرف أقوام من الصالحين في كل زمان ومكان لرمضان معنى لم يعرفه سواهم، وفازوا بربح لم يفز به غيرهم. فاكتسبوا منه تزكية الروح وتصفية النفس ونصرة الحق وامتلأت قلوبهم بالنور ولسان حالهم يقول: إن هذا هو الطريق إلى الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته.
يقول الشيخ عبد الله بن محمود: (… وشهر رمضان شهر جد واجتهاد ومزرعة للعباد وتطهير للقلوب من الفساد وقمع للشهوة والشره والعناد فمن زرع فيه خيراً حمد عاقبة أمره وقت الحصاد تفتح فيه أبواب الجنان وتغلق فيه أبواب النيران. وذلك بسبب توسع الناس في العبادات وتنافسهم في الأعمال الصالحات التي من جملتها: الإكثار من الصلاة وبسط اليد بالصدقات وصلة القربات والإحسان إلى المساكين والأيتام وذوي الحاجات وكثرة الدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن…)( ).
المبحث الأول
قيام الليل
صلاة القيام أو التراويح سنة للرجال والنساء تؤدى عقب صلاة العشاء ولو مجموعة جمع تقديم وقبل الوتر ركعتين ركعتين، ويستمر وقتها إلى آخر الليل وتصلي جماعة وفرادى والجماعة أفضل.
وهي المرادة من قوله صلى الله عليه وسلم: (… من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه…)( ).
ومعنى إيماناً أي إيماناً بالله وبما أعده من الثواب للقائمين. ومعنى قوله احتساباً أي طلباً لثواب الله، لم يحمله على ذلك رياء ولا سمعة ولا طلب مال ولا جاه.
وقد سن الرسول صلى الله عليه وسلم قيام رمضان جماعة ثم تركه مخافة أن يفرض على الأمة، ولا تستطيع القيام بهذه الفريضة. يدل لذلك ما روته عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة في جوف الليل وصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته فأصبح الناس، فتحدثوا فاجتمع الناس أكثر منهم فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فخرج رسوا الله صلى الله عليه وسلم فصلى وصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: (أما بعد فإنه لم يخف عليّ مكانكم ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها) فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك…)( ).
واختلف السلف في عدد الركعات في صلاة التراويح والوتر معها.
أ ـ فقيل: إحدى عشرة ركعة.
ب ـ وقيل: ثلاث عشرة ركعة.
ج ـ وقيل: سبع عشرة ركعة.
د ـ وقيل: تسع عشرة ركعة.
هـ ـ وقيل: إحدى وعشرون ركعة.
و ـ وقيل: ثلاث وعشرون ركعة.
ز ـ وقيل: خمس وعشرون ركعة.
ح ـ وقيل: سبع وعشرون ركعة.
ط ـ وقيل: تسع وثلاثون ركعة.
ي ـ وقيل: إحدى وأربعون ركعة.
ك ـ وقيل: سبع وأربعون ركعة( ).
وأرجح هذه الأقوال أنها إحدى عشرة أو ثلاث عشرة ركعة مع طول القيام والركوع والسجود، لكن إن خفف زاد في عدد الركعات. لما روته عائشة ـ رضي الله عنها ـ حين سئلت عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً، فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً، فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ فقال: (يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي…) ( ).
وما رواه ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: (كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشرة ركعة، يعني بالليل…)( ).
قال شيخ الإسلام: (… فيكون تكثير الركعات أو تقليلها بحسب طول القيام أو قصره…) وقال: (الأفضل يختلف باختلاف المصلين، فإن كان فيهم احتمال لطول القيام بعشر ركعات وثلاث بعدها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لنفسه في رمضان وغيره فهو الأفضل، وإن كانوا لا يحتملون فالقيام بعشرين هو الأفضل وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين)( ).
قلت: وهذا في وقت شيخ الإسلام، وأما اليوم فأكثر المسلمين لا يزيد عن ثلاث عشرة ركعة. وبعض الأئمة يصلي التراويح بسرعة عظيمة فيخل فيها بواجب الطمأنينة التي هي عند بعض أهل العلم ركن لا تصح الصلاة بدونها. ويتعب من خلفه من الضعفاء وكبار السن بسرعة القيام والنهوض من الركوع والسجود وعلى الإمام أن يتقي الله ويراعي حال المأمومين ويقوم بأمانة الإمامة على وجهها الصحيح لأنه مسئول عما استرعاه الله عليه من المصلين خلفه.
ولا بأس بحضور النساء صلاة التراويح بشرط أمن الفتنة، وأن يخرجن لها متسترات متحجبات غير متزينات ولا متطيبات يؤدين الصلاة بخشوع وخضوع مبتعدات عن فضول الكلام والغيبة والنميمة والحديث في أمور بيوتهن مما ينبغي أن تنزه عنه بيوت الله.
المبحث الثاني
ليلة القدر
هذه الليلة من خصائص الأمة المحمدية وهي ليلة الشرف والتقدير لهذه الأمة العظيمة الماجدة. وقد أشاد الله بفضلها في كتابه المبين فقال تعالى: [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ]( ).
وقال تعالى: [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ]( ).
وسميت بذلك لأنها شريفة عظيمة يقدر الله فيها ما يكون في السنة من أمور حكيمة.
وقد ذكر أهل العلم فضائل ليلة القدر ومنها:
1ـ أن الله أنزل فيها القرآن.
2ـ أنها خير من ألف شهر.
3ـ نزول الملائكة فيها.
4ـ كثرة السلامة فيها من العذاب [سَلامٌ هِيَ].
5ـ أنزل الله في فضلها سورة كاملة تتلى إلى يوم القيامة.
وهي في رمضان قطعاً بل في العشر الأواخر منه في أوتارها. يدل لذلك ما روته عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان…)( ).
وما روته أيضاً: (تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر)( ).
ويستحب قيامها وكثرة الدعاء والاستغفار والصدقة، لأنها موسم عظيم. يدل لذلك ما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)( ).
وقد أخفى الله سبحانه علمها على العباد رحمة بهم ليكثر عملهم في طلبها في تلك الليالي الفاضلة بالصلاة والذكر والدعاء فيزداد قرباً من الله وثواباً، وأخفاها اختباراً لهم أيضاً ليتبين بذلك من كان جاداً في طلبها حريصاً عليها ممن كان كسلان متهاوناً. فإن من حرص على شيء جد في طلبه وهان عليه كل شيء في سبيله. وقد يُطلعُ الله عليها بعض عباده بأمارات يعرفونها بها كما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يسجد صبيحتها في ماء وطين( ).
المبحث الثالث
اعتكاف العشر الأواخر من رمضان
للعشر الأخيرة من رمضان فضائل عظيمة وخصائص كثيرة، منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجتهد فيها بأنواع الطاعات ما لا يجتهد في غيرها، وكان يشد مئزره يوقظ أهله وكان يعتكف فيها. يدل لذلك ما روته عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره…)( ).
وما روته أيضاً قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله …)( ).
وما روته أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ثم اعتكف أزواجه من بعده…)( ).
والاعتكاف: لزوم المسجد للتفرغ لطاعة الله. يقول تعالى: […ولا تبشروهن وأنتم عاكفون في المساجد]( ).
والمقصود من الاعتكاف الانقطاع لعبادة الله، والتفرغ من شواغل الحياة. ولذا يستحب للمعتكف أن يشتغل بذكر الله وتلاوة القرآن و الصلاة ومدارسة العلم. ولا بأس بزيارة أهله له وحديثه معهم فيما فيه مصلحة في الدنيا والآخرة.
ويحرم على المعتكف الجماع ومقدماته من التقبيل واللمس بشهوة للآية السابقة. ولا يجوز له الخروج من المسجد إلا لحاجة ضرورية كالوضوء والغسل والأكل والشرب. فإن كان في المسجد أماكن للوضوء والاغتسال وتيسر له من يحضر له الأكل والشرب لم يجز له الخروج.
ولا يخرج لعبادة لا تجب عليه كاتباع جنازة وعيادة مريض ونحو ذلك إلا أن يشترط ذلك قبل اعتكافه.
أما الخروج لغير ذلك كالبيع والشراء والجلوس مع الأهل، فيحرم عليه اشتراط ذلك أو لم يشترطه.
ويجوز للمعتكف أن يضع خيمة في المسجد إذا لم يكن فيه غرفاً مهيأة.
كما يجوز له إحضار فراشه وملابسه وما يحتاج إليه، كما يجوز له أن يعتكف مع أهله في المسجد. بل يجوز للمرآة أن تعتكف وحدها بشرط أمن الفتنة ورجحان المصلحة، وما أظن ذلك متحققاً في زماننا إلا ما شاء الله، تقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله اعتكف أزواجه من بعده…)( ).
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: (… لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوافقاً على جمعيته على الله ولمِّ شعثه بإقباله بالكلية على الله… وكأن فضول الطعام والشراب وفضول مخالطة الآثام وفضول الكلام مما يقطعه عن سيره إلى الله ويضعفه أو يوقفه اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب…
وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده عكوف القلب على الله والانقطاع عن الخلق…)( ).
المبحث الرابع
زيادة الإنفاق في سبيل الله
رغب الإسلام في البذل والعطاء والإنفاق في سبيل الله في كل وقت.
وفي رمضان تتأكد الرغبة في البذل اقتداء بالرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم.
يقول تعالى: [مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً] ( ).
ويقول تعالى: [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( ).
أرأيت الدعوة إلى الإنفاق والجود في صورة حية حركية كهذه الصورة التي عرضها القرآن الكريم. إن المال لا يذهب بالجود إنما هو قرض حسن مضمون عند الله يضاعفه أضعافاً كثيرة.
يضاعفه في الدنيا ملاً وبركة وسعادة وراحة، ويضاعفه في الآخرة نعيماً مقيماً. وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً…)( ).
رمضان: شهر الطاعة والعبادة يُقبلُ فيه العباد على ربهم بالصلاة والصيام والصدقة والبذل. وإذ ذكر رمضان ذكر الجود معه كأتم ما يكون الجود وقدوة الدنيا كلها أجود بالخير من الريح المرسلة.
رمضان: موسم يتنافس فيع الأغنياء في البذل والإنفاق في وجوه الخير وعلى قدر بذلهم وإنفاقهم في وجوه الخير في المجتمع يتحقق الأمن والطمأنينة في نفوس الفقراء والمحتاجين، فيسعد المجتمع بتماسك بنائه وصلابته وقوته: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)( ).
إن المال في الإسلام وسيلة لا غاية. بيد أنه عند عبيد المادة غاية.
ومن هنا وقع التنافس المعسور على اللذائذ والمتع بين عبيد الشهوات.
ووقع التنافس الشريف بين عبيد الصالحين الذين سخروا المال في طاعة الله لأن المال مال الله وهم مُستخلفُون فيه وصدق الله العظيم: [هأنتم هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ.]( ).
المبحث الخامس
تلاوة القرآن
يتأكد في حق المسلم أن يكثر من تلاوة القرآن في رمضان تأسياً بالرسولصلى الله عليه وسلم حيث كان جبريل يدارسه القرآن في رمضان من كل عام، ولأن رمضان شهر القرآن [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ]( ).
وقد تكفل الله جل وعلا لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة يقول تعالى: [فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى]( ).
كما توعد من أعرض عن تلاوته وتدبره والعمل بما فيه بقوله تعالى: [وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى]( ).
فينبغي للمسلم في كل وقت وخصوصاً في رمضان أن يكثر من تلاوة القرآن وتدبره وتعلم معانيه والعمل بما فيه لكي ينال ما وعد الله به أهل القرآن وتدبره وتعلم معانيه والعمل بما فيه لكي ينال ما وعد الله به أهل القرآن من الفضل العظيم والثواب الجزيل والدرجات العلا والنعيم المقيم وصدق الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)( ).
وإنزال القرآن في رمضان يوحي بأن يهتم به المسلمون في هذا الشهر اهتماماً كبيراً، يدرسونه فيما بينهم ويعقدون له حلقات في المساجد، يعرضه بعضهم على بعض. وما أجمل أن يقضي الصائم وقته في جنبات المسجد يتلو كتاب الله ويحفظه ويتعلم معانيه وأحكامه، يسأل عما أشكل عليه. يجالس الصالحين والعلماء يتعلم العلم والأدب. وصدق الله العظيم: [إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ]( ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل العاشر
أقسام الصوم
يشمل مبحثين:
المبحث الأول: أقسام الصوم.
وتحته أربعة مطالب:
المطلب الأول: الصوم الواجب.
المطلب الثاني: الصوم المندوب.
المطلب الثالث: الصوم المكروه.
المطلب الرابع: الصوم المحرم.
المبحث الثاني: نافلة الصوم وأثرها في تقرب العبد لربه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المبحث الأول
أقسام الصوم
سنتكلم عن أقسام الصوم من حيث الحل والحرمة، وذلك أن الصوم قد يكون واجباً وقد يكون مندوباً وقد يكون مكروهاً وقد يكون محرماً.
وإيضاح ذلك في المطالب التالية:
المطلب الأول: الصوم الواجب.
الصوم الواجب هو: صوم رمضان، وصوم القضاء عن رمضان، وصوم النذر، وصوم الفدية والكفارة.
المطلب الثاني: الصوم المندوب.
الصوم المندوب هو: ما وردت النصوص باستحباب التطوع به وهو:
أ ـ صيام ستة أيام من شوال.
ب ـ صيام يوم عرفة لغير الحاج.
ج ـ صيام يوم عاشوراء مع يوم قبله أو بعده.
د ـ صيام أيام البيض وهي: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل
شهر.
هـ ـ صيام يومي الاثنين والخميس.
و ـ الإكثار من الصيام في شهري شعبان والشهر الحرام ـ المحرم ـ.
ز ـ صيام يوم وإفطار يوم.
ح ـ صيام عشر ذي الحجة.
ط ـ الصيام للأعزب غير القادر على الزواج.
المطلب الثالث: الصوم المكروه.
الصيام المكروه هو: ما وردت فيه نصوص تنهى عن صيامه، لكن النهي غير مغلط إذ لا يرقى لحرمة الصيام. ومن هذه الأيام التي كره الصيام فيها:
أ ـ صيام يوم عرفة للحاج.
ب ـ صيام يوم الجمعة منفرداً.
ج ـ صيام يوم السبت منفرداً.
د ـ صيام آخر يوم من شعبان، إلا إذا وافق صوماً معتاداً كالاثنين والخميس مثلاً.
هـ ـ صيام الدهر وهذا محمول على أنه يفطر في أيام التي يحرم الصوم فيها فإن لم يكن يفطر حرم صيام الدهر.
المطلب الرابع: الصوم المحرم.
الصيام المحرم هو: الذي وردت النصوص بالنهي عن صومه نهياً مغلظاً وهو:
أ ـ صيام يومي العيدين عيد الفطر وعيد الأضحى.
ب ـ صيام أيام التشريق الثلاثة الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة.
ج ـ صيام أيام الحيض والنفاس للمرأة.
د ـ يحرم على المرأة صيام التطوع إذا منعها زوجها من ذلك.
هـ ـ صيام المريض الذي يضره الصوم وقد يسبب له الهلاك( ).
المبحث الثاني
نافلة( ) الصوم وأثرها في تقريب العبد لربه
لكل فريضة نافلة تحفظ وجودها وتكمل نقصها. فالصلوات الخمس لها نوافل قبلها أو بعدها، والزكاة لها نافلة الصدقة، والحج والعمرة واجبان في العمر مرة وما عدا ذلك نافلة، والصوم الفرض فيه هو رمضان والنوافل فيه كثيرة منها: نوافل غير معينة كصيام من لم يستطع الزواج ونوافل معينة يدل لذلك ما رواه أبو أيوب الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر)( ).
ومن آثار صيام النافلة:
أ ـ الصيام المسنون يتقرب به العبد لربه لأن معاودة الصيام بعد رمضان علامة على قبول العمل ـ إن شاء الله ـ لأن الله جل وعلا إذا قبل عمل المسلم وفقه لعمل صالح بعده.
ب ـ صيام رمضان إيماناً واحتساباً يوجب مغفرة الذنوب قبله.
والصائمون يوفون أجرهم في يوم عيد الفطر إذ هو يوم الجوائز. والصيام بعد رمضان شكر لهذه النعمة لصلة المسلم بربه.
ج ـ صيام النافلة عهد من المسلم لربه بأن موسم الطاعة مستمر وأن الحياة كلها عبادة. فلم ينته الصيام بانتهاء رمضان بل الصيام مشروع طوال العام وصدق الله العظيم: [قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله …]( ).
د ـ نافلة الصوم سبب في محبة الله لعبده وإجابة دعائه وتكفير سيئاته ومضاعفة حسناته ورفع درجاته، وفوزه بجنات النعيم( ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الخاتمة
رمضان شهر النصر
يرتبط الصوم بالجهاد ارتباطاً وثيقاً، ويعد له إعداداً قوياً، ويصاحبه في رحلة الحياة مصاحبة دائمة ومستمرة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، فالصوم باق إلى يوم الدين كمرحلة إعدادية للجهاد. والجهاد باق إلى يوم الدين كمرحلة عملية للصوم.
أمة الإسلام أمة صائمة مجاهدة تستفيد من مدرسة الصوم لمدرسة الجهاد، ويوم يضعف فيها وازع الصوم ستنحل فيها عزيمة الجهاد؛ وطالما هي صائمة الصوم الحقيقي فهي مجاهدة. ولهذا كانت معظم انتصارات المسلمين في رمضان.
ففي السنة الثانية للهجرة وقعت غزوة بدر الكبرى في رمضان. وتم أعظم انتصار للإسلام على الشرك في أول مواجهة عسكرية. وكان هذا الانتصار منعطفاً في سير التاريخ، إذ مكن للدعوة وفرض سيطرة القلة المؤمنة وأثبت وجودها بعد أن قمعت أعتى قلاع الشرك وأقواها.
وفي رمضان من السنة الخامسة كان استعداد المسلمين لغزوة الخندق، حيث وقعت في شوال من العام نفسه، وفي رمضان من هذا العام وجه الرسول صلى الله عليه وسلم السرايا لهدم الأصنام وهي مهمة عسكرية لأنه من المحتمل أن يحدث اشتباك مسلح.
وفي رمضان في اليوم الحادي والعشرين من السنة الثامنة للهجرة تم الفتح الأعظم فتح مكة، واستسلم سادتها بعد طول عداوة، ودخلوا في دين الله أفواجاً وتهاوت الأصنام تحت ضربات الرسول صلى الله عليه وسلم بمعموله الصلد وصدق الله العظيم:[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً] ( ).
وفي رمضان من السنة التاسعة حدثت بعض أعمال غزوة تبوك.
وفي رمضان من العام العاشر بعث الرسول صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب على رأس سرية إلى اليمن وحمل معه كتاباً إليهم… إلى غير ذلك من المعارك الفاصلة التي خاضها المسلمون في رمضان ضد أعدائهم ومن أهمها ما خاضه البطل المسلم صلاح الدين ضد الصليبيين ومعركة عين جالوت التي سحق فيها المسلمون زحف التتار الهمجي، كل ذلك حدث في رمضان شهر العبادة والنصر فهل يكرر المسلمون هذه الانتصارات ويعيدون سيرة السلف الصالح؟( ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهرس الموضوعات
المقدمة
شكر وتقدير
التمهيد
تعريف الصوم لغة
تعريف الصوم اصطلاحاً
مكانة الصيام في الإسلام
الصيام عند الأمم السابقة قبل الإسلام
أركان الصوم
الأصل في وجوب الصوم
على من يجب الصوم
فترة الصوم
الصيام في البلاد التي يطول فيها النهار أو يقصر أو لا يوجد فيها نهار أو ليل
وقت الصيام
حكم الصيام إذا اشتبهت الأشهر على المسلم
فضائل الصوم
الصوم منهج رائع للتغيير
الصوم طريق للجندية
الصوم يقوي الإرادة
الصوم ينشىء الأخلاق الرفيعة
الصوم يحقق الاطمئنان النفسي
الصوم يحقق مظهر من مظاهر وحدة الأمة الإسلامية
الصوم له الأثر الأكبر في الصحة العامة
رؤية الهلال وثبوت الصوم والفطر
بيان ما يثبت به دخول شهر رمضان وشوال
صيام يوم الشك
اختلاف المطالع وأثره في وجوب الصوم والفطر
رؤية بلد مكة مقدمة على غيرها
حكم العمل بالحساب في دخول شهر رمضان وخروجه
الأعذار المبيحة للفطر في نهار رمضان
يسر الإسلام في الصيام
حكم صيام من أكل أو شرب ناسياً
صيام المسافر
العاجز عن الصيام عجزاً مستمراً لا يرجى زواله
صيام المريض
حكم صيام الحائض والنفساء
حكم صيام الحامل والمرضع
حكم صيام الهرم والمكرم
مفسدات الصوم ومكروهاته
الجماع في نهار رمضان
إنزال المني باختياره
الأكل والشرب متعمداً
ما كان بمعنى الأكل والشرب
الحجامة
التقيؤ عمداً
خروج دم الحيض والنفاس
حكم من أفطر متعمداً
مكروهات الصوم
رمضان وإنزال القرآن
تجديد صلة المسلم بكتاب الله في شهر رمضان
تلاوة القرآن ومدارسته وأثرها في إحياء المنهج القويم
اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان ما لم يجتهده في غيره
آداب الصيام
الآداب الواجبة:
اجتناب الكذب
اجتناب الغيبة
اجتناب النميمة
الآداب المستحبة:
تأخير السحور
تعجيل الفطور
حفظ اللسان عن فضول الكلام
غض البصر
الشعائر التعبدية في رمضان وآثارها
قيام الليل
ليلة القدر
اعتكاف العشر الأواخر من رمضان
زيادة الإنفاق في سبيل الله
تلاوة القرآن
أقسام الصيام
الصوم الواجب
الصوم المندوب
الصوم المكروه
الصوم المحرم
نافلة الصوم وأثرها في تقرب العبد لربه
الخاتمة
رمضان شهر النصر
فهرس الموضوعات