أولويات المنافع العلمية في الحج
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أن للحج منافع فقال: {لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ٱلأنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَائِسَ ٱلْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ}(الحج:28، 29).
فللحج منافع وفوائد عظيمة، فهو مؤتمر عام للمسلمين، يستفيدون منه فوائد دينية، وتربوية وأخلاقية بالممارسة الفعلية للعلاقات الاجتماعية، وهو فرصة يتداول فيه ولاة الأمر من المسلمين أوضاع بلادهم ، وشؤون شعوبهم ، وهمومَهم وآمَالَهم.
ومن منافعه العظيمة أيضاً الدعوة إلى الله، وتعليمُ وإرشادُ الناس والتعاون معهم على البر والتقوى بالقول والفعل المعنوي والمادي.
ومن أعظم هذه المنافع وأكبرها شأناً هذه المنافعُ العلميةُ التي سنتناولها في هذا اللقاء.
فالحجاج في أشد الحاجة إلى الدعوة والتوجيه إلى الخير والإعانة على الحق، فإذا التقى الحاج مع إخوانه من سائر أقطار الدنيا وتذاكروا فيما يجب عليهم مما شرع الله لهم كان ذلك من أعظم الأسباب في توحيدِ كلمتِهم واستقامتِهم على دين الله، وتعارفهِم وتعاونهم على البر والتقوى.
أهمية الدعوة إلى الله في الحج:
يعدُّ موسم الحج من أهم الميادين في الدعوة لدين الله تعالى، لأنه أكبر تجمع إسلامي، يجتمع فيه المسلمون من أرجاء العالم على اختلاف أعراقهم ولغاتهم وألوانهم وعاداتهم، وإن كثيرًا من هؤلاء الحجاج ليس لديهم العلم الشرعي الكافي بأمور الدين من أحكام العبادات والطاعات، فضلاً عما يشوب أفكارَ بعضِهم من البدع التي لا تمت إلى الإسلام بشيء.
والدعوة إلى الله تعالى في الحج من أعظم منافع الحج العلمية فهي سنة نبوية منذ فجر الإسلام؛ إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض دعوته على الناس في مواسم الحج، كما أرسل العديد من أصحابه رضي الله عنهم لذلك.
وفي حجة الوداع نصح الأمة غاية النصح وبلَّغ البلاغ المبين، وقد استمر علماء الإسلام ودعاته الصادقون على مر العصور إلى يومنا هذا، وأسأل الله أن تكونوا منهم؛ استمروا في استغلال هذا الموسم العظيم دعويًا مستفيدين منه في إيقاظ القلوب وإنارة البصائر وعرض الإسلام النقي والتحذير من مخاطر الشرك وشوائب البدع والمنكرات. ومع تزايدِ أعداد الحجاج سنويًّا فإنَّ الأمرَ يحتاج لجهود الدعاة المخلصين لدعوةِ وإرشاد حجاج بيت الله الحرام.
صفات الداعية في الحج:
ومن أجل أن تأخذ الدعوة طريقها الصحيح ويتقبل الناس هذا الدين من دعاته فلا بد أن يتحلى هؤلاء الدعاة بمجموعة من الصفات والخصال، وهي كثيرة لا يمكن الإشارة إلى جميعها في هذا المقام، ولكن يمكن الإشارة إلى أهمها والتي تتطلبها ظروف الحج وأحواله الخاصة، وهي:
1 إخلاص العمل لله تعالى، فلا يعتري عملَهم رياء أو مصلحة أو شهرة أو أي مكسب دنيوي، وإنما الغاية الكبرى والهدف المنشود هو إرضاء الله تعالى بإيصال رسالته إلى الناس، قال الله تعالى على لسان هود عليه السلام: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}(هود: 52) .
2 العلم الشرعي: وهو شرط مهم لنجاح الدعوة إلى الله، فالذي يدعو من غير علم ربما يدعو إلى المنكر ويحسبه معروفًا، أو ينهى عن المعروف ويحسبه منكرًا، يقول الله تعالى:{قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(يوسف: 108).
3 الحلم والرفق بالناس، لأن ذلك يؤثر في نفس المدعو ويجعله أكثر استعدادًا لتلقي الدعوة والاستماع إلى الداعية، يقول الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(آل عمران: 159).
فالقسوة والغلظة والجفاء لا يأتي إلا بالنفور وعدم الإنصات إلى الداعية، لاسيما أثناء أداء مناسك الحج، حيث تعب الأسفار والتنقلات، وتعب الزحمات في كل مكان، وتعب الغربة والبعد عن الأهل والديار، وكل ذلك يستدعي الرفق بالحجاج وعدم التشديد عليهم.
4 الصبر وتحمل المشاق، لأن الداعية معرض دائمًا للمعاناة النفسية والجسدية، الناجمة من أطباع الناس واختلافاتهم، أو من جهلهم بالأحكام ومن ثم وقوعهم في المحظورات والمحرمات، وخاصة في مناسك الحج، وهذا الواقع يحتاج منه إلى الثبات والتحمل، فلا يصيبه الملل أو الكسل بل عليه المواصلة والتوكل على الله.
5 التواضع مع الناس، لأن النفوس جبلت على حب من يتواضع معها بالتواصل وكره من يتكبر عليها ويتعالى، فالداعية يحتاج إلى خُلق التواضع في دعوته، فيرحم الصغير ويوقر الكبير، ويعطف على المريض والضعيف.
6 الأسئلة تتكرر والإلحاح يكثر وعلى الداعية هنا أن يكون رحيماً بالمستفتي والسائل فينصح في توجيهه وإرشاده والأخذ بيده ويتحمل ما قد يصدر من الحاج لاسيما مع ظروف الحج التي لا تخفاكم.
ثانياً : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
ومن أعظم المنافع العلمية في الحج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالقيام بهذه الشعيرة العظيمة من أعظم المنافع العلمية في الحج, وذلك لاجتماع المسلمين القادمين من مختلف البلدان، واختلاف ثقافات الحجاج وجهل العديد منهم بكيفية أداء مناسك الحج، ووجود البدع والاعتقادات الخاطئة لدى بعض الحجاج، وكذلك توجيه الحجاج لأداء حجهم وفق ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا غرابة أن نجد الاهتمام الكبير من بلادنا حماها الله في هذا الجانب حيث قامت بإنشاء الخدمات التي تقوم بإرشاد الحجاج وتوجيههم وتوعيتهم, ومساعدتهم على تحقيق مقاصد الحج في نفوسهم والزيادة من ارتباط الحجاج بدينهم وبثقافتهم الإسلامية, حتى يظل في ذاكرتهم التصور الصحيح عن مناسك الحج وأدائها واستقامة المسلم في سلوكه وأداء عباداته على وجهها الصحيح.
ثالثاً: إلقاء المواعظ والدروس في المساجد والمخيمات خلال فترة الحج:
ومن أهم منافع الحج العلمية ما يقام في المساجد والمخيمات من المواعظ والدروس ولا يخفى على الكثير أهمية هذا الجانب خلال أداء فريضة الحج فعلى طالب العلم استغلال أماكن تجمع الحجيج من المساجد والمخيمات مع مراعاة التركيز على أهم الجوانب في الدعوة من خلالها وأهم هذه الجوانب:
1 – تأصيل العقيدة الصحيحة وهي العقيدة التي تميزت بالوسطية بين الأديان في نصوصها، وأحكامها، ودعوتها وأسلوبها، فتأصيل العقيدة الإسلامية في نفوس الحجاج قبل عزمهم على الحج، وأثنائه، وبعده، هو الأساس في التوعية والتوجيه وقبول الأعمال، وزيادة الأجر والثواب.
2 الحرص على تأييد مسائل الأحكام والتوعية الإسلامية في العقيدة والعبادات والمعاملات، وحتى مسائل الأخلاق والسلوك تأييدها بالأدلة الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة والتابعين وعلماء الأمة المشهورين فذلك أدعى لقبول الحق وتطبيقه.
3 توضيح أحكام الحج والعمرة، وتبسيط معانيها، واختصار مطولاتها، وتفصيل ما أجمل منها، وتقريب فهمها إلى أذهان الحجاج بأسلوب سهل وعبارة واضحة يفهمها العامي، ويقبلها المتعلم.
4 معالجة الأخطاء التي يقع فيها الحجاج عن جهل أو قصد بأسلوب لا يشعر معه الحاج انه هو المعني بذلك مباشرة، بما يؤدي الغرض ويحقق المقصد.
5 الحرص على تقديم ما يجمع قلوب الأمة، ويوحد كلمتها، ويحبب إليها دينها وعلماءها، وحكامها، فذلك من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية .
6 البعد عن كل ما يؤدي إلى الفرقة والاختلاف ويسبب عوامل النفرة والكراهية بين المسلمين، وذلك لأن الفرقة والاختلاف معاول هدم وتدمير لبنية الأمة وسبيل للشيطان وأوليائه لإضعاف الأمة وتمزيقها.
7 – الدعوة إلى التوبة والرجوع إلى الله والإقلاع عن بعض الذنوب التي اعتادها بعض الناس.
رابعاً : توزيع الأشرطة والمطويات والكتيبات النافعة:
ومن أعظم المنافع العلمية في الحج أيضاً ما نراه من توزيع المطويات والكتيبات والأشرطة على الحجاج فتوزيع هذه الأشياء له دوره الفعال في تعليم وتثقيف الحجاج وذلك لأن هذه الأشرطة والمطويات والكتيبات تعالج موضوعات معينة وميزتها أنها من السهل أن يقرأها الإنسان أو يستمع إليها في دقائق معدودة فلا يستهان في توزيعها.
وهنا نلمس جهود وزارة الشؤون الإسلامية في هذا الجانب وإسهامها إسهاماً فاعلاً في توزيع ما
يحتاج إليه الحجاج بلغات متعددة وقد نفع الله بذلك خلال الأعوام الماضية ولمس ذلك القاصي والداني وظهر أثره على الحجاج في بلادهم.
خامساً: نشر العلم بين الحجاج:
ومن منافع الحج العلمية أيضاً نشر العلم بين الحجاج لعلماء هذه البلاد وغيرهم ولا يقتصر ذلك على مكان معين بل ينشر العلم بين الحجاج وبين رفقائه، في الطريق، وفي السيارة، وفي الطائرة، وفي الخيمة، وفي كل مكان ينشر علمه فهي فرصة ساقها الله لطالب العلم، لكن بالاعتماد على قول الله ورسوله لا بالآراء الخارجة عن الكتاب والسنة، مقتدياَ في ذلك بما استنبطه أهل العلم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
ويتأكد في حق طالب العلم ألا يخالف ما عليه الفتوى في هذه البلاد لئلا يلبس على الناس ويحدث تشويشاً على الحجاج.
سادسا: خطبة عرفات:
خطبة عرفات شعيرةٌ من شعائر الإسلام الظاهرة، وهي شعيرةٌ عظيمة الشأن، جليلة المقاصد، عميقة التأثير، وهي من أهم وسائل الإصلاح الفرديّة والجماعية، فهي تحتلّ موقعاً مهمًّا متميِّزاً في تبليغ الدين ونشر الدعوة وبثِّ الإصلاح.
ولعل أهم ما يميز خطبة عرفات عن غيرها أنها تكون في أكبر تجمع للمسلمين مع اختلاف بلدانهم
وألسنتهم وأنها عالمية يستمع إليها الناس في شتى بقاع العالم تربطهم بها الصفحات المشرقة من تاريخهم ومن تاريخ هذا الدين الذي هو الإسلام.
ولذا تكون هذه الخطبة شاملة لكل ما يحتاجه الحجاج وغيرهم بما يستجد في كل وقت وحين وفيها التركيز على وحدة المسلمين ونبذ الخلافات وبيان معاني هذا الدين العظيم ومقاصد الحج السامية وكل ذلك ولله الحمد يتم في هذه الخطبة العظيمة سنوياً فجزى سماحة والدنا وشيخنا مفتي هذه البلاد خيراً على جهوده المباركة.
سابعاً: الدور الفعَّال لطالبات العلم في الحج:
لقد كرم ديننا الحنيف المرأة، وجعل لها حقوقاً وجعل عليها واجبات، ومن أعظم الواجبات الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
ومن أعظم منافع الحج العلمية الاهتمام بالمرأة المسلمة وتوعيتها وتنبيهها إلى أهمية اهتمامها بتعلم دينها واعتزازها بهويتها ومحافظتها على الحجاب وترك الاختلاط بالرجال والابتعاد عن التشبه بالكافرات ومن سار في فلكهن.
ولا يخفى على الجميع في هذا الجانب مشاركة المرأة في برامج التوعية التي تنفذ في الحج ، في مخيمات النساء في المشاعر المقدسة وما يقمن به في الاختلاط بالنسوة القادمات من مناطق مختلفة للحج، وحثهن على تعلم الدين والدعوة إليه والقيام بدورهم في تربية النشء تربية صالحة، والتمسك بالحجاب، وعدم الانسياق وراء الدعوات المشبوهة التي تهدف إلى إفساد المرأة المسلمة
وإبعادها عن دينها.
ومن أعظم الأدوار التي ينبغي للداعية المسلمة أن تحرص عليها خلال دعوتها في الحج ما يلي:
1- الحرص على فقه الحج من خلال الكتاب والسنة.
2- الحرص على توعية أخواتها على مسائل الحج من خلال نقل فتاوى العلماء لهم وتوزيع الكتب والأشرطة المهمة التي تصدرها الجهات الرسمية كالإفتاء ووزارة الشؤون الإسلامية، والمدارسة معهن في بعض الأحكام في الحج.
3- الإكثار من أعمال البر والطاعات خصوصاً ما يتعدى نفعه للآخرين كإفشاء السلام وإطعام الطعام ونشر العلم والوعظ والتذكير والنصح والإرشاد وبذل المال.
4- ترك الجدال في الحج قال عز وجل:{فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}(البقرة: 197).
5- التحذير من منكرات النساء في الحج كالتبرج والاختلاط، والتبذير بالمال، والغيبة والنميمة، والقيل والقال، والسخرية والازدراء من أخواتها من جميع الجنسيات.
ثامناً: فتاوى الحج:
الفتوى لها شأن في شريعة الإسلام وتكمن أهميتها في أمور:
أولاً :أن الله سبحانه وتعالى قد تولاها بنفسه: قال تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلَالَةِ} (النساء:176) وقال تعالى:{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ}(النساء:127) وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ}(البقرة:189) وقال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}(البقرة:217) وعلى هذا فالمفتي بمثابة الموقِّع عن رب العالمين.
ثانياً: أن الله تعالى فد جعلها الله وظيفة سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم فقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(النحل:44).
ثالثاً: أن الله تعالى حرم التساهل في أمرها فلا يجوز أن يتولاها إلا عالم بكتاب الله وسنة رسوله، قال تعالى مخاطبا المستفتين:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}(النحل:43)، وقال تعالى مخاطبا المفتين:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}(النحل:116).
وأثر الفتوى في الحج على حياة الفرد والمجتمع بل والأمة واضح لا لبس فيه فمن خلال الفتوى يتعلم السائل أحكام دينه، وتنير عقله وبصيرته، وتزيل الجهل عنه، وترتقي من خلالها الأمة ويعلو شأنها.
ومن آثار الفتوى أيضاً يتم تصحيح المسار للفرد والمجتمع: فالفتوى السليمة، تجعل المستفتي على الجادة القويمة، وتبعده عن البدع الذميمة، فتصحح مساره لئلا يزل، وتحذره من البدع لئلا يضل، وفي ذلك صلاح الفرد وسلامة المجتمع.
ومن آثارها أيضاً توثيق صلة الأمة بعلمائها وذلك لأن الفتوى القويمة توثق صلة الأمة بعلمائها، وتربطهم بولاة الأمر في شئون دينها وما أحوج الأمة إلى ذلك التلاحم الذي يقوم ركبه حملة أشرف رسالة .
ومن آثار الفتوى أيضاً أنها تبصرة لطالب العلم وبخاصة إذا وفق الله تعالى طالب العلم إلى استفتاء العلماء المتمكنين، العاملين المخلصين.
ومن آثار الفتوى أيضاً أنها إعانة للمسلمين على أداء التكاليف الشرعية على الوجه الصحيح، فكلما كانت الفتوى سديدة ومعتمدة على الأدلة الصحيحة فإنها تكون أدعى على حمل الناس على أداء التكاليف الشرعية على الوجه الذي أراده الله ورسوله وفي ذلك إحياء للسنن وإماتة للبدع .
ولما كانت منزلة الفتوى في الدين كما وضحنا كانت منزلتها في الحج بمكان ولذا أولت الدولة رعاها الله هذه المنزلة اهتماما بالغاً حيث تقوم الجهات المعنية بتوعية الحجاج من خلال هذه المراكز الموضوعة لبيان ما يشكل على الحجاج أثناء أداء النسك.
ولذلك نقول من أبرز المنافع العلمية في الحج الفتوى الشرعية المبنية على أدلة الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم المعتبرين .
لكن هناك أمور لابد من التركيز عليها من خلال فتاوى الحج منها:
1- استمداد الفتوى من الأدلة الشرعية مع الأخذ بما أجمع عليه أئمة الهدى، وإذا تعددت الأقوال في المسألة أخذ بأرجحها وهو الأقوى دليلا ويحرص طالب العلم على نقل ما عليه الفتوى في بلادنا لئلا يتم التشويش على الحجاج لاسيما في مناسك الحج.
2- تنزيل الفتوى على واقعها وذلك يتطلب فقه المفتي بالواقع حتى لا يسهل في غير محله، ولا يشدد في محل التسهيل، ولا يخرج الفتوى عن ظروفها وملابساتها الزمانية والمكانية.
3 – من القواعد المهمة التي ينبغي أن لا تغيب عن المفتي مفهوم قوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، ومفهوم ” المشقة تجلب التيسير”، وبعد ذلك يستعرض هذا المفهوم مع قوله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم)، وبذلك تصبح النظرة للسؤال والجواب عليه في مصلحة الحاج السائل، وهو مطلب مهم في هذا الزمن الذي نلمس فيه خللًا، وخاصة ما يتعلق بالحج وأحكامه وواجباته.
3- الاستفسار من المستفتي: فيسأله عن حقيقة مسألته، حتى يفهم المراد قبل إصدار الحكم، فإن كثيرا من المستفتين لا يجيدون طرح السؤال.
5- إذا سأل المستفتي عما لا يفيده وترك السؤال عما يفيده أعرض المفتي عما لا يفيد المستفتي وأفتاه بما يفيده.
6- التيسير في مواطن الخلاف وهذا هو منهج السلف الصالح من هذه الأمة سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عمن قلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد فهل ينكر عليه ويهجر؟ فأجاب رحمه الله: “الحمد لله..مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه، ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين”.
7- الحذر من الفوضوية في الفتاوى وهذا من الأمور الملاحظة فليس كل من حصل على شهادة أصبح مفتياً وقادراً على الفتوى.
8- الابتعاد قدر الإمكان عن الإفتاء الفردي خاصة في المسائل التي تعم بها البلوى ويمكن أن يترتب على الخطأ فيها تشتيت شمل الأمة، ولهذا يرى عامة أهل العلم عدم تصدي الأفراد للاجتهاد في النوازل العامة، وكان هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع أعيان الصحابة وعلمائهم عندما تنزل نازلة عامة ولا يكون فيها وحي من عند الله، وكذلك كان منهج خلفائه رضوان الله عليهم أجمعين.
ما ينبغي أن تكون عليه الفتوى في الحج :
الحج ومناسكه ومسائله مما يتعلق بمجموع الأمة وأفرادها، ولا يختص به أحدٌ دون أحد، وقد كثر الحديث بل ويتكرر في كل موسم عن الكثير من مسائل الحج، ومع مجالسة الناس ومخالطتهم بمختلف تخصصاتهم ومشاربهم ومستوياتهم العلمية والاجتماعية تسمع آراءَ كثيرة، تصدر من توجهات ومنازع مختلفة منها الغث ومنها السمين ومنها المتشدد ومنها المتساهل ومنها ما يستحق الوقوف والتأمل ومنها ما يستوجب البيان والنصح ،لذلك نقول على المفتي في الحج أن يسلك مسلك الوسط.
فلاشك أن الوسط بين الطرفين هو المطلوب، وهو الجادة التي ينبغي العض عليها، وإن كان حملُ الناس على الأكمل والأفضل هو الأولى لكن نحن نتحدث اليوم في واقعٍ مختلف ،وظروف تفرض نفسها، ومن عايش مناسك الحج فعلياً واختلط بالضعفاء وكبار السن والجهلة وأهل الآفاق البعيدة، علم مدى الصعوبة في حمل هؤلاء ومن ارتبط بهم ممن ليس في حكمهم حقيقة ولكنه لا يستطيع أن ينفك عنهم أو يتركهم على التقيد ببعض السنن في بعض المناسك كما جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والفتوى لابد لها ـ كما قرر أهل الاختصاص ـ من مقدمتين لازمتين:
العلم بالواقع من خلال المشاهدة والمعايشة وسؤال أهل الشأن والجلوس معهم، ومن ثم العلم بما يجب شرعاً في هذا الواقع، عندها فقط تنزل الفتوى منزلتها الصحيحة وتقترب بإذن الله من إصابة الحق ونفع الخلق، مما لا يؤدي بهم إلى الحرج والضيق، والمشقة تجلب التيسير.
تاسعاً: رجوع الحاج إلى وطنه وقد صحح عبادته وأدى حجه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (خذوا عني مناسككم ):
إن من أعظم المنافع العلمية التي نراها بأعيننا ونسمع عنها بأذاننا هو رجوع الحاج إلى وطنه وقد صحح عبادته وأدى حجه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم)، ولا شك أن في هذا نفعاً عظيماً يعود في المقام الأول على أمة الإسلام.
ولذلك نقول لإخواننا الدعاة إن مجيء المسلمين من بلاد بعيدة ومن كل فج على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وعلمهم وتعليمهم وقلة تحصيلهم للعلم الشرعي، وما يفرقون به بين الصحيح والفاسد من عباداتهم لأمر يوجب على العلماء والدعاة وطلبة العلم التبيين والبيان، وتعريفهم بالحلال والحرام وإيضاح المشكل من الأقوال والأفعال والتحذير من الزيغ والضلال في العقائد والعبادات والمعاملات.
ومن أهم ما يجب على العلماء والدعاة وطلبة العلم بيانه للحجاج تحذيرهم من الوقوع في الشرك وبيان العقيدة الصحيحة التي ضل عنها أكثر الناس اليوم فوقعوا في الشرك من حيث لا يشعرون.. فترى من الحجاج من يستغيث بغير الله ومن يطلب النفع والضر من الأموات ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومن الحجاج من يؤدي المناسك على غير ما شرع الله سبحانه وتعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فيأتي الحاج من أماكن بعيدة وبنفقات كثيرة ثم يؤدي مناسك الحج بجهل وضلال ومن هنا يأتي دور العلماء والدعاة وطلبة العلم في النصح والتوجيه والإرشاد وبيان الحق من الباطل والصحيح من الفاسد، وإنها لفرصة عظيمة أن يقوم العلماء والدعاة بمثل هذا في هذه الجموع الغفيرة متمثلين قول الله جل وعلا { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }، حتى يرجع الحجاج إلى أهلهم وأوطانهم وقد تعلموا ما ينفعهم في أمر دينهم ودنياهم خاصة في هذا الزمان الذي كثرت فيه الفتن والقول على الله بغير علم وهو ما يستوجب وقفة من العلماء الربانيين الموثوق بعلمهم وإخلاصهم وحكمتهم، وان هذه البلاد المباركة «المملكة العربية السعودية» جديرة بالقيام بهذا الدور الذي تؤديه في كل عام عبر قطاعاتها المختصة إفتاء ودعوة وتوجيهاً ونصحاً وإرشاداً بالحكمة والموعظة الحسنة كما قال جل وعلا: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }(النحل:125).
وأخيراً أحب أن أنبه أن بلادنا ولله الحمد ممثلة في الرئاسة العامة لهيئة كبار العلماء والبحوث العلمية والإفتاء ووزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد تقوم بهذه المهمة العظيمة لكن المطلوب منا نحن الدعاة وطلبة العلم أن نبذل قصارى جهدنا في العمل والأخذ بهذه المنافع لاسيما أن الدولة رعاها الله تسخر كل إمكاناتها من أجل توعية الحجاج فالمسئولية عظيمة والحاجة ماسة والجهود مباركة .
وفق الجميع لكل خير وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.