السؤال رقم: (5144) ما توجيهكم حول ما يُقال حول العلماء وتصنيفهم ما بين سنيّ ومبتدع تحت مسمى الجرح والتعديل؟

نص السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

حياكم الله شيخنا، ابنكم من الجزائر، شيخنا أنا بحمد الله استقمت منذ ثلاث سنوات، فأصبحت سلفيًا، وعرفت بعض العلماء وعلى رأسهم العلامة ابن باز -رحمه الله-والعثيمين وغيرهم، لكن الذي يحدث الآن في الساحة الدعوية من الكلام في الدعاة والمشايخ من تبديع وتجريح، تحت راية الجرح والتعديل شتتني كثيرا، فالرجل اليوم يقال أنه عالم وبعد مدة يقال أنه مبتدع، ولا يجوز الاستماع له وهكذا.- شيخنا الفاضل من فضلكم أريد نصيحتكم وتوجيهكم فأنا بحاجة ماسة لجوابكم، فصرت مضطرب ومتوتر بسبب ما يحدث، لهذا أريد منكم أن توجهوني.  وجزاكم الله خيرا.

الرد على الفتوى

الجواب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. أما بعد.

فنظراً لكثرة اللغط حول هذه المسألة التي ذكرها السائل وانتشارها على نطاق واسع فلابد من بيان هذه المسألة وإيضاحها للسائل ولغيره حتى تزول عنه الشبهة والإشكال ويكون على بصيرة من هذه المسألة التي خاض فيها الكثير من أبناء المسلمين ووقعوا في المحظور وهم لا يشعرون أسأل الله تعالى التوفيق والسداد فأقول وبالله التوفيق

أولاً: هذه الظاهرة التي ذكرها السائل من تبديع الناس والاشتغال بالحكم على أهل العلم والبصيرة، ظاهرة غريبة على منهج أهل السنة والجماعة، وليست من الدين، ولا يحمل عليها رأي رشيد ولا هدي سديد، فما يفعله كثير من منتحلي العلم من تجريح الناس والخوض في أعراضهم والدخول في نياتهم ومقاصدهم ثم الحكم عليهم بالبدعة والضلالة ومنابذة السنة، ولو شعروا لعلموا أنهم هم من خالف السنة وحاد عنها.

والواجب على العاقل أن يشتغل بنفسه فيصلحها ويلزمها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يبتعد عن هذه الخصلة، هي الحكم على الناس والاشتغال بتبديعهم بحيث يصير كل من خالف ما هو عليه مبتدعا ضالا خارجا عن السنة حتى وصل به الأمر إلى أئمة شهد لهم القاصي والداني بالرسوخ في العلم والإمامة فيه من الأموات والأحياء، ولا أدري لمصلحة من يعملون أسأل الله تعالى أن يهدي ضال المسلمين.

والحكم على الآخرين له أصول منها:

أولاً: النظر إلى أصول الشخص، ومنطلقه في علمه وعمله؛ فمن كان قصده متابعة الرسول، وتعظيم شرعه، ظاهرا وباطنا، فهذا يغتفر له.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في معرض كلامه عن أبي ذر الهروي، والباقلاني والباجي، وغيرهم من علماء الأشاعرة:

” ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع والانتصار لكثير من أهل السنة والدين، ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف.

لكن لما التبس عليهم هذا لأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة [يعني: نفي الأفعال الاختيارية، والأمور المتعلقة بمشيئة الله تعالى] وهم فضلاء عقلاء، احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين؛ وصار الناس بسبب ذلك: منهم من يعظمهم لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخيار الأمور أوساطها !!

وهذا ليس مخصوصا بهؤلاء؛ بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات، ويتجاوز لهم عن السيئات: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم (الحشر: 10 ) .

ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأخطأ في بعض ذلك ، فالله يغفر له خطأه ؛ تحقيقا للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا :  ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا  ( البقرة : 286 )

ومن اتبع ظنه وهواه ، فأخذ يشنع على من خالفه بما وقع فيه من خطأ ، ظنه صوابا بعد اجتهاده ، وهو من البدع المخالفة للسنة ؛ فإنه يلزمه نظير ذلك ، أو أعظم أو أصغر ، فيمن يُعَظِّمُه هو من أصحابه ؛ فقلَّ من يسلم من مثل ذلك في المتأخرين ، لكثرة الاشتباه والاضطراب ، وبعد الناس عن نور النبوة وشمس الرسالة الذي به يحصل الهدى والصواب ، ويزول به عن القلوب الشك والارتياب .. ” انتهى.درء تعارض العقل والنقل (2/102-103) .

الأصل الثاني: إذا عرف أن أصله تعظيم شرع الله، واتباع رسوله، ظاهرا وباطنا، فإنه يوزن قوله وعمله بميزان الكتاب والسنة، وموازنة حسناته وسيئاته، على ما سبق الإشارة إليه.

قال سماحة شيخنا ابن باز رحمه الله تعالى “مجموع الفتاوى” (7/311-315)

“وما وجد من اجتهاد لبعض العلماء وطلبة العلم فيما يسوغ فيه الاجتهاد فإن صاحبه لا يؤاخذ به ولا يثرب عليه إذا كان أهلا للاجتهاد , فإذا خالفه غيره في ذلك كان الأجدر أن يجادله بالتي هي أحسن , حرصا على الوصول إلى الحق من أقرب طريق ، ودفعا لوساوس الشيطان وتحريشه بين المؤمنين .

فإن لم يتيسر ذلك , ورأى أحد أنه لا بد من بيان المخالفة فيكون ذلك بأحسن عبارة وألطف إشارة , ودون تهجم أو تجريح أو شطط في القول قد يدعو إلى رد الحق أو الإعراض عنه ، ودون تعرض للأشخاص أو اتهام للنيات أو زيادة في الكلام لا مسوغ لها ، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في مثل هذه الأمور : ( ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ) ” انتهى .

الأصل الثالث: ألا يكون الكلام إلا بما هو فيه فعلا، وإلا كان بهتانا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الغيبة:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ ؟قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ !! قَالَ : ( ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ !! قِيلَ : أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ ؟ قَالَ : إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ !! ) رواه مسلم (2589) .

ويجب التنبه أيضا إلى أن كثيراً من هؤلاء الدعاة دعوتهم موجهة في الأصل إلى عامة المسلمين ، الذين قد يكون كثير منهم تاركاً للصلاة أو متهاوناً بها ، أو منغمسا في المعاصي والموبقات ، فإقبال هؤلاء وأمثالهم على أولئك الدعاة واستمالتهم إليهم وهدايتهم على أيديهم فيه خير كثير ، وهو خطوة أو خطوات إلى الأمام ، فليس من الحكمة الكلام مع أمثال هؤلاء عن أولئك الدعاة وتحذيرهم منهم ، لأن كثيرا من هؤلاء يكون أمامه خياران اثنان ، إما أن يبقى مع هؤلاء الدعاة ، وإما أن يعود إلى ما كان عليه ، ولا شك أن بقاءه مع هؤلاء الدعاة خير له ،

ولكن الواجب على أهل الحق بعد ذلك أن يتعاهدوا هؤلاء، ويأخذوا بأيديهم إلى منهج أهل السنة شيئا فشيئا.

وإذا علمت هذا، فالذي أنصحك به هو الابتعاد عن الحزبيات والولاءات والانتماءات لغير الله ورسوله، هذه السابلة المذمومة، وأن تجتهد في إصلاح نفسك وإلزامها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

والله أعلم . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.